في مواجهة المخاوف الكبيرة التي تخلقها المعلومات المضللة، غالبًا ما تلجأ شبكات التواصل الاجتماعي والمؤسسات الإخبارية إلى المتخصصين في فحص الحقائق لتمييز الحقيقة من الزيف. لكن ليس بمقدور المتخصصين إلا تقييم جزء صغير من الموادّ المتداولة عبر الإنترنت.
تقترح دراسة جديدة نُشرت في مجلّة Science Advances، أعدّها باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا نهجًا بديلًا: يمكن أن تكون فيها فعاليّة ودقّة الأحكام الصّادرة عن مجموعات من قراء عاديّين مُعادلة تقريبًا للعمل الذي يبذله المختصون بفحص الحقائق.
تقول جينيفر ألين، طالبة الدكتوراة في كلية سلوان للإدارة في المعهد، وهي مؤلفة مشاركة لورقة علميّة نُشرت حديثًا تتناول تفاصيل الدراسة، إنّ "إحدى مشكلات فحص الحقائق تتمثل في وجود قدر كبير جدًا من المحتوى الذي لا يمكن أن يغطّيه المتخصّصون، خاصةً في غضون إطار زمني معقول".
لكن لعلّ الدراسة الحالية، التي بحثت في أكثر من 200 مادّة إخبارية حددتها خوارزميات فيسبوك باعتبارها موادًّا تحتاج مزيدًا من التدقيق، وجدت طريقة لمعالجة هذه المشكلة، وذلك باستخدام مجموعات صغيرة نسبيًا ومتوازنة سياسيًا من القراء العاديين لتقييم العناوين والجمل الرئيسيّة للمواد الإخبارية.
تقول ألين: "لقد وجدنا الأمر مشجعًا" وتكمل أنّ "متوسط تقييمات حشد مكون من 10 إلى 15 شخصًا أيضًا تطابق مع أحكام المتخصصين في فحص الحقائق بالطريقة ذاتها التي تطابقت فيها تقييمات المختصين مع بعضهم البعض. يساعد هذا في حل مشكلة فيض المواد التي تحتاج إلى مزيدٍ من التّدقيق، فهؤلاء المُقيّمون أشخاصٌ عاديون لم يتلقوا تدريبًا على فحص الحقائق، ويكتفون فقط بقراءة العناوين والجمل الرئيسية دون قضاء الوقت في إجراء أي بحث".
وهذا يعني أنه بالإمكان نشر منهج الاستعانة بالجمهور على نطاق واسع وبتكلفة زهيدة. تقدر الدراسة أن تكلفة تقييم القراء للأخبار بهذه الطريقة تبلغ حوالي 0.90 دولارًا لكل مادّة.
يقول ديفيد راند، الأستاذ في كليّة سلوان في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وكبير مؤلفي الدراسة "ليس ثمّة أمر واحد بإمكانه حل مشكلة الأخبار الزائفة عبر الإنترنت، لكننا نعمل على إضافة مناهج واعدة لأدوات مكافحة المعلومات المضللة الموجودة أصلًا".
لإجراء الدراسة، استخدم الباحثون 207 مقالة إخبارية، حددت خوارزمية داخلية على موقع فيسبوك أن ما تدّعيه بحاجة إلى التحقق، إما لوجود سبب للاعتقاد بأنها إشكاليّة أو لمجرد أنها شوركت على نطاق واسع أو لأنها كانت تدور حول مواضيع مهمة مثل الصحة. انتشرت التجربة بين 1128 مواطنًا أمريكيًا باستخدام منصة Amazon Mechanical Turk.
أُعطي هؤلاء المشاركون العنوان والجُمل الرئيسية لـ20 مادّة إخبارية ثُمّ طرحت عليهم سبعة أسئلة" إلى أي مدى كانت القصة "دقيقة"، "حقيقية"، "موثوقة"، "جديرة بالاعتماد على ما تقوله"، "موضوعية"، "غير منحازة"، "تصف حدثًا وقع بالفعل"؟ وذلك لاستحداث درجة شاملة من الدقة حول كل عنصر خبريّ في المادّة.
في الوقت نفسه، أُعطي ثلاثة من المختصّين في فحص الحقائق جميع الموادّ التي بلغ عددها 207 مادّة، وطُلب منهم تقييم الموادّ بعد التقصّي فيها. تماشيًا مع الدراسات الأخرى حول فحص الحقائق، وعلى الرغم من أن تقييمات متخصّصي فحص الحقائق كانت متطابقة إلى حدٍّ كبير مع بعضها البعض، إلا أن اتفاقهم لم يكن تامًّا. في حوالي 49 بالمئة من الحالات، اتفق متخصّصو فحص الحقائق الثلاثة على الحكم الصحيح حول واقعية القصة، فيما اتفق إثنان منهم واختلف الثالث بنسبة 42 بالمئة، و9 في المئة أعطى فيها المتخصصون الثلاثة تقييمات مختلفة.
ومن المثير للاهتمام أنه حين وقع فرز القراء العاديّين المشاركين في هذه الدراسة حسب ميولهم السياسيّة ضمن مجموعات متساوية العدد من الديمقراطيين والجمهوريين، كان متوسط تقييماتهم مُطابقًا إلى حدّ بعيد لتقييمات المختصّين بفحص الحقائق، وكانت تقييمات عددٍ مكوّنين من خانتين من القرّاء المعنيّين، مُطابقة بشدّة لتقييمات المتخصّصين في فحص الحقائق بصورة أشبه لما حصل بين المختصّين أنفسهم.
تقول ألين: "لم يتدرب هؤلاء القراء على فحص الحقائق، واكتفوا فقط بقراءة العناوين والجمل الرئيسية، ومع ذلك كانوا قادرين على مطابقة أداء المختصّين في فحص الحقائق".
قد يبدو مفاجئًا في البداية أن يتمكن حشد من 12 إلى 20 قارئًا من مطابقة أداء مختصّين في فحص الحقائق، إلّا أنّ هذا مثال آخر على ظاهرة كلاسيكية: نباهة الجماهير. عبر مجموعة واسعة من التطبيقات، تبيّن أنّ أداء مجموعات من الأشخاص العاديين تطابق أو تتجاوز أداء محكّمين خبراء. تُظهر الدراسة الحالية أن أمرًا كهذا يمكن أن يحصل حتى في سياق شديد الاستقطاب كما السياق الخاصّ بتحديد المعلومات المضلّلة.
أجرى المشاركون في التجربة أيضًا اختبارًا لمعرفتهم السياسية واختبارًا لميلهم إلى التفكير بطريقة تحليليّة. بشكل عام، كانت تقييمات الأشخاص الذين كانوا أكثر دراية بالقضايا المدنية ومنخرطين في التفكير التحليلي أكثر توافقاً مع المختصّين في فحص الحقائق.
يقول راند: "الأشخاص الذين انخرطوا في مزيد من التفكير المنطقي وكانوا ذوي معرفة أكبر اتفقوا أكثر مع مختصّي فحص الحقائق، وقد كان هذا صحيحًا بغض النظر عما إذا كانوا ديمقراطيين أو جمهوريين".
يقول الباحثون إنه بالإمكان تطبيق هذا الاكتشاف بعدة طرق، وقد لاحظوا أن بعض شركات التواصل الاجتماعي العملاقة تحاول بجدّ إنجاح تجربة الاستعانة بالجمهور. يمتلك فيسبوك برنامجًا يُدعىCommunity Review، حيث يُعيَّنُ أشخاص عاديون لتقييم محتوى الأخبار، تويتر كذلك يملك مشروعه الخاص المُسمّى Birdwatch، الذي يلتمس آراء القرّاء حول صحة التغريدات. يمكن استخدام نباهة الجماهير إما في المساعدة على وضع علامات موجهة للجمهور على طبيعة المحتوى المنشور، أو في إبلاغ الخوارزميات التي تعمل على ترتيب المنشورات، وفي نوعيّة المحتوى الذي يظهر للأشخاص في المقام الأول.
ولمزيد من التأكيد، يشير مؤلفو الورقة أن على أي منظمة تلجأ للاستعانة بالجمهور أن تجد آلية تشاركيّة جيّدة مع القراء. إذا كانت المشاركة مفتوحة للجميع، فمن الممكن أن تتأثر عملية الاستعانة بالجمهور بصورة جائرة من قبل المتحيّزين لفئات معيّنة.
وتشير ألين: "لم نختبر هذا بعد في بيئة يمكن لأي شخص أن يشارك فيها، يجب ألا تتوقع المنصات بالضرورة أن تؤدي الاستراتيجيات الأخرى للاستعانة بالجمهور إلى نتائج إيجابية على حد سواء".
من ناحية أخرى، يقول راند، إنّه يتعين على المؤسسات الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي، كي ينجح عمل الاستعانة بالجمهور، أن تجد سبلًا حتّى تجعل مجموعات كبيرة بما يكفي من الأشخاص تقوم بتقييم الأخبار بنشاط.
ويكمل راند "معظم الناس لا يهتمون بالسياسة إلّا أنّهم يملكون ما يكفي من الاهتمام ليحاولوا التأثير على سير الأمور، لكن القلق هنا، فيما لو سمحت للناس بتقييم أي محتوى يريدونه، ألّا يقوم بذلك سوى الأشخاص الذين يريدون التلاعب بالنظام. إنها مشكلة المنافع العامة الكلاسيكيّة: سيستفيد المجتمع ككل من تحديد الناس للمعلومات المضللة، لكن لماذا على المستخدمين أن يتكبّدوا عناء استثمار الوقت والجهد في منح التقييمات؟"
المصادر: