الأرض مُسطحة، وكورونا مجرد مؤامرة، واللقاحات تؤدي إلى الوفاة أو السيطرة على العقول، والتغيُّر المناخي غير حقيقي، وغيرها الكثير من المعتقداتِ الخاطئة التي رسَخت في عقول ملايين الناس حول العالم. ورغم وجود حقائق علمية تنفي هذه المعتقدات، إلا أنَّها مازالت تلقى رواجًا بين الكثيرين ممن لا يصدقونها فحسب، بل يتهمون من يحاول إنكارها.
عندما يؤدي العلم إلى حقائق تنافي ما يعتقده الناس، أو تمس مصالحهم الاقتصادية أو السياسية، فإنها قد تواجه ردود فعل مناهضة بدرجات قد تتسم بالعنف أحيانًا. التاريخ يمتلئ بأمثلة عن ذلك، كما حدثَ لعالم الفلك غاليليو غاليلي، الذي اتهم بالهرطقة، لإن إثباتاته لعدم مركزية الأرض وأنها تدور حول الشمس، كانت من وجهة نظر الكنيسة، مخالفة لتعاليم الدين.
بشكلٍ عام، يكتسبُ البشر معرفتهم من خلالِ الحصول الجماعي على المعلومةِ باستخدام طرقٍ ووسائل عديدة كالملاحظات والتجارب، وأثناء تشكلها، تمرُّ هذه المعلومة بعمليات تصفيةٍ وتنقيح إلى أن تصل للفردِ على شكلِ حقائق علمية مثبتة أو متفق عليها من قبل المجتمع العلمي. وهناك ثلاثةُ احتمالات عند تلقي الفرد العادي لهذه المعلومة:
الاحتمال الأول: أن يسلِّم بها كحقيقةٍ علمية.
الاحتمالُ الثاني: أن يشكِّك بمدى صدقيّة المعلومة، وهنا يأتي دور العلم في تقديمِ نفسه كمصدر لحقائق مثبتة بالأدلة.
الاحتمال الثالث: أن ينكر الفرد هذه الحقائق العلمية، ويحاول صدَّها بطرق عديدة، وهذا ما يعرف باسم الإنكار العلمي.
الإنكار العلمي هو حالة رفضٍ للحقائق العلمية المدعومة بالأدلةِ المنطقية، وتكون هذه الحالة مدفوعة بمعتقدات أيديولوجية غالبًا أو توجهاتٍ سياسية. وبالرغم من أنَّ الإنكار العلمي يحدث منذ القدم، إلا أنَّه قد وصل إلى مستوياتٍ غير مسبوقة في السنوات الأخيرة مع تفاقم أزمة المناخ وتفشي وباء كورونا.
أدوات وأساليب الإنكار العلمي
في دراسة له يُعرّف البروفيسور سفين هانسون الإنكار العلمي بأنَّه شكلٌ من أشكال العلوم الزائفة، إذ يصاحب إنكار العلم تقديمَ معلومات زائفةٍ على أنها حقائق علمية، إلا أنَّها لا تستند على أدلة علمية كما هو العلم نفسه، وإنما يُنظَّر للعلوم الزائفة بطرقٍ ملتوية من أجلِ إضفاء الشرعية عليها.
ويستخدم منكرو العلم خمس أدواتٍ من أجل الترويج للعلم الزائف كبديلٍ للحقائقِ العلمية التي يعارضونها، هي:
الأداة الأولى: نظرية المؤامرة
نظرية المؤامرة هي أكثر هذه الأدوات استخدامًا، إذ يمكن لمنكري العلم وصفُ أي إجماعٍ علمي على أمرٍ ما بأنه مؤامرة. وقد شاع استخدام الوصف مع تفشي وباء كورونا.
وغالبًا ما يستخدم منكرو العلم نظرية المؤامرة عندما تكون الحقائق التي يعارضونها مدعومة بأدلةٍ قوية أو مُجمعًا عليها، ففي هذه الحالة، قد يكون من الصعبِ الترويج لمعلوماتٍ تنافي هذه الحقائق العلمية، إلاَّ أنه من السهل على منكري العلم أن يصفوا هذا الإجماع العلمي بالمؤامرة.
الأداة الثانية: الخبراء المزيفون
الخبراء المزيفون هم أشخاص يدعون أنهم خبراء في مجالات معينة، غير أن معرفتهم المزعومة هذه تتعارض مع ما يجمع عليه العلماء، كما فعلت شركة فيليب موريس في سبعينيات وثمانينيات القرن الفائت، عندما كلفت مراكز بحثية بإصدارِ تقارير توصف بالعلمية لنفي الآثار الصحية الناجمة عن التدخين السلبي، أو كما فعلت كبرى شركات النفط في الثمانينيات، حين نظمت حملات دعائية مضللة عن المناخ بما يضمن عدم تأثر مصالحها من تعليقات العلماء حول تأثير المحروقات على المناخ.
الأداة الثالثة: الانتقائية
وتشير الانتقائية إلى انتقاء ما يعارض ما تم الإجماع عليه علميًا، كأن تُنتقى فرضية علمية فريدة ويتم التعامل معها وترويجها باعتبارها الحقيقة.
حدث مثل ذلك عام 1998، حين نشرت ورقة بحثية في مجلة The Lancet، أظهرت وجود علاقة بين تطعيماتِ الحصبة ومرض التوحد عند الأطفال. واستُخدمت هذه الورقة كدليلٍ علمي يربط بين مرضِ التوحد عند الأطفال واللقاحات المضادة للحصبة. في عام 2010 تراجع مؤلفو الورقة عن نتائج بحثهم.
وفي 2003 نشرت المجلة العلمية البريطانية بحثًا يقول إنّ التدخين لا يسبب السرطان أو أمراض القلب. انتقت شركات التبغ هذا البحث، وروجت له باعتباره الحقيقة العلمية الوحيدة، رغم أنها تنافي مع اتفق عليه المجتمع العلمي.
الأداة الرابعة: التوقعات المستحيلة
من أدواتِ الإنكار العلمي أيضًا فرض التوقعات المستحيلة، مثل الافتراضِ بأنّ اللقاحات يجب أن تكون فعالة بنسبة 100% أو أنَّ الأدوية يجب أن تكون آمنةً بحيث لا تتسبب بأي أعراض جانبية.
وتُعبِّر التوقعات المستحيلة التي يضعها منكرو العلم، عن سوء فهمٍ منهم للطريقة التي يعمل بها العلم الحديث باعتباره قائم على التجربة والملاحظة. والتجارب العلمية الطبية تحديدًا لا يمكنها أن تضمن سلامة اللقاحات بنسبة 100%، أو أي دواء كيميائي، لكن عوضًا عن ذلك يتبع العلماء في المجال الطبي بروتوكولاتٍ مشددةٍ للغاية من أجل ضمانِ سلامة اللقاحات وخلوها من أي شيء قد يعرض المرضى للخطر.
في أوائل التسعينيات، ومن أجلِ الالتفاف على الأساليب العلمية المتفق عليها، روَّجت شركة فيليب موريس لمعيارٍ جديد باسم "الممارسات الوبائية الجديدة". جاء هذا المعيارُ بإرشاداتٍ طبية مختلفة عن تلك المتبعة، مثل أن الترجيح العلمي ذو الأغلبية لن يكون دليلًا قويًا، ممَّا يستبعد الكثير من الأوراق العلمية المحكمة.
لكن لحسن الحظ أنّ هذا المعيار الذي روجت له فيليب موريس لاقى اعتراضات كثيرة وكبيرة من قبل الأوساط العلمية، فتم التراجع عنه.
الأداة الخامسة: المغالطات المنطقية
إضافة إلى الأدوات السابقة، تُستخدم المغالطات المنطقية بشكلٍ كبير في وجه العلم. والمغالطات المنطقية هي تأكيداتٌ غير موثقة أو غير مدعومة بأدلة، يستخدمها المضللون كحججٍ لدحضِ ما يخالف أفكارهم ومعتقداتهم.
إرشادات للتعامل مع الإنكار العلمي
تركُ الإنكار العلمي والادعاءاتِ الكاذبة، دون اعتراضٍ، قد يكون له عواقب سلبية وخيمة، فالعلم المزيف يأخذ دور العلم الحقيقي إذا ما تُرك من دون مواجهة أو تفنيد.
في كتابها "الإنكار العلمي: لماذا يحدث وماذا يمكن أن نفعل حياله؟" تقدم الدكتورة باربرا هوفر مجموعةً من النصائح والإرشادات للتعامل مع حالات الإنكار العلمي التي نواجهها في حياتنا اليومية.
ترى باربرا هوفر أنّ الحديث مع الأفراد المصدقين للمعلومات المضللة، قد يأتي بنتائج إيجابية. كما تشير إلى أهمية التفكير النقدي للحيلولة دون وقوع الفرد ضحيةً لهذه الأكاذيب.
وتدعو بربرا هوفر إلى تحييد العواطف عند اتخاذ القرار بتصديق أو تكذيب المعلومات، وعدم الاعتماد على مصدرٍ واحد للحصول على المعلومة، مع ضرورة تقييم المصادر من أجلِ بناء موقف علمي سليم.
وتؤكد أيضًا على أن مواجهة الإنكار العلمي ليست مهمة العلماء والأكادميين فحسب، بل إنها مهمة الناس جميعًا، فآثار الإنكار العلمي تطاولُ جميع البشر وكافة مناحي حياتهم.
اقرأ/ي أيضًا:
كيف نرصد المغالطات المنطقية في الأخبار الزائفة؟
وباء كورونا: تنتشر نظريات المؤامرة عندما يشعر الناس بالعجز
المصادر:
Science denial as a form of pseudoscience
Tobacco industry efforts at discrediting scientific knowledge of environmental tobacco smoke
Lancet retracts 12-year-old article linking autism to MMR vaccines