الأفكار الواردة في هذا المقال لا تُعبّر بالضرورة عن رأي مسبار.
"أودّ أن أُعرّف التّدوير بأنّه بات شكلًا فنيًّا الآن، وهو يعترض طريق الحقيقة"
(بنجامين برادلي ، المحرّر التّنفيذي لصحيفة واشنطن بوست)
استخدم السّفسطائيون الوسيلة الجدلية التي توحي بالمنطق والخَطابة التي تكللت بالبلاغة والفصاحة، من أجلِ إيصال الرسالة الفاضلة، لكنَّ لم يُسكت عن طرائقهم الملتوية، والتي كان أولّ من انتبه إليها هو أفلاطون، فأصبحت خطاباتهم كالحركة الدورانية التي تَحدثُ إثر اصطدام الكرة في مضرب البيسبول. لكن التطور التي أحدثته الثورة التكنولوجية، خلقت نوعًا آخرَ من السلوك الذي ينتمي إلى المدرسة السفسطائية بشكله الرقمي، يمكننا تسميته بالتدوير الإعلامي (Spin).
والسبين (التدوير) الإعلامي، هو "خطة مدروسة، مقصودة وقصيرة المدى، يُعدّها أشخاص أو جهات جماهيرية بهدف صرف النظر وتركيز الانتباه أثناء التّغطية الإعلامية على شيء آخر، أو القيام بالتّضليل حول حقائق القصة أو تفسيراتها".
وكانت أولى استخدامات هذا المصطلح من قِبَل مشتغلين في مجال العلاقات العامّة ومبتكري الإعلانات، وغالبًا ما تنطوي بجوهرها على التضليل، كانتقاء معلومات من ورقة بحثية وزجّها في إعلان بعد اشتقاقها من سياقها، كإقناع الجمهور مثلًا بأنَّ للتدخين فوائد، وغيرها من الأمثلة التي لاحصر لهاـ
وبالتالي، فإنَّ استخدام تقنيات التدوير، مثل: التوقيت الصحيح لاستعمال المعلومة ونشرها، وانتقاء المصطلحات والعبارات الدّقيقة وانتقاء الأخبار؛ يعود بالربح والفائدة على المؤسسات المعنية ومصالحها.
كما استُخدم السبين أو التدوير في السّياسة، وكان الهدف الأساسيّ منه السّيطرة على عقول المؤيدين والمعارضين الذين يجري استقطابهم. ويرتبط التدوير بالإعلام الحكومي، الذي نراه في توصيات المؤتمرات، وفي تصريحات العديد من المسؤولين وفي القرارات الحكومية الكبيرة وكل ما هو مرتبط بها خلف الكواليس.
ومن المهم التنبّه إلى أنَّ هذه المؤتمرات الصحفية الحكومية تقوم أحيانًا بإيصال نصف الحقائق وإهمال حقائق أخرى، مما يُعرّض الجماهير إلى التّشويش.
ويطلق عادةً على ممارسي هذه السياسة، أي السّبين، “أطباء الدوران” أو "الغازلون"، الذين لا يتناهون عن غزل البيوت العنكبونية في غرف الدوران (غرف المؤتمرات الصحفية) لاصطياد الأفراد.
ويتبع بعض السياسيين في هذا السياق، التدوير من أجل إشغال الإعلام بموضوع لا يستحق الانتباه، فقط من أجل نجاته، وتغاضيه عن أمور ذات أهمية قصوى في بعض الأحيان. ويمكنه بذلك إشغال الأجندة الإعلامية بالطريقة التي ترضيه وتنفعه، فيؤلف القصص ويختلق أحداث ويدس عبارات مبهمة في خطاباته، بهدف كسب مؤيدين جدد له من جهة، والهروب من الاتهامات والشؤون التي تستدعي تدخله في لحظات عصيبة، داخل مجتمعه، من جهة أخرى.
أساليب التدوير الإعلامي
ما يميز عملية "التّدوير" هو المبالغة والمصطلحات التي تتصف بعدم الدّقة في الخطاب، والعاطفة المفرطة التي تطغى على الشكل المنطقي والعقلاني للكلام. وعادةً ما يهدف إلى إقناع الأفراد بالأكاذيب عبر الخداع. إذًا يمكن اعتبار الخداع والتلاعب بالمعاني وإخفاء أجزاء من الحقيقة أحد أساليب السبين السحرية.
وفي هذا الصدد، يصرّح أحد الصحفيين قائلًا "نعيش في عالم من التّدوير. إنه يتساقط علينا في شكل إعلانات تجارية مضللة، وبين المرشحين السياسيين وحول مسائل السّياسة العامة. إنه يأتي من الشركات والقادة السّياسيين ومجموعات الضّغط والأحزاب السياسية. يُخدع الملايين كلّ يوم. كل ذلك بسبب التّدوير. الـSpin هي الكلمة المهذبة للخداع. الغازلون يضللون بوسائل تتراوح بين الإغفال الدقيق إلى الأكاذيب الصريحة. إذ يرسم التدوير صورة خاطئة للواقع، عن طريق ثني الحقائق، والتشويه الخاطئ لكلمات الآخرين، وتجاهل الأدلة أو إنكارها، أو بمجرد غزل الغزل".
قطف الكرز
يُعدّ مصطلح "قطف الكرز" أحد المغالطات المنطقية، وسُميّ بذلك نسبةً إلى حصاد الكرز. يقول أحدهم “المعادلة بسيطة جدًا، خذ ما يعجبك واترك كل ما يقف عثرة في أطروحتك”. وفي هذا القول يظهر ما تستخدمه وسائل الإعلام لحقائق أو أفكار محددة، فعبر تقديمها للجمهور تقوم بكشف جانب واحد من القصة، أو تمنحها تغطية غير متناسبة مع تجاهل الحقائق التي من شأنها تدعيم وجهات النظر البديلة.
بالعودة، إلى الكرز، جرت العادة أن ينتقي المزارع المحصول الأكثر نضجًا وبهاءً، ويتجاهل الأسوأ، وحين يأتي دور الشاري وأثناء مراقبته للبضائع يستنتج خاطئًا، بأنًّ المحصول كله كان في حالة جيدة. في نفس السياق، وإذا أردنا إسقاط الفكرة على المجال المؤسساتي، فإنه مثلًا، يمكن لشركة أدوية تجاهل تجارب قد تكون خطيرة، وتعتمد على تجربة بعينها لتُظهر منتجاتها ذات فعالية متينة وقوية. وبالتالي فإنَّ طمس الحقيقة، أيّّ حقيقة، يمكن ربطها بالتدوير الإعلامي، الذي غالبًا ما يحمل في جوهره تكتيكات التضليل والخداع.
أخيرًا في الإعلام المنحاز اليوم، وحتى بعض وسائل الإعلام التي تدعي الموضوعية في نقل الأخبار، نجد في كثير من الأحيان إشكالات تتعلق بتحديد الخطوط الفاصلة بين أن يكون لذلك الإعلام توجه معين يتحكم بسياسته التحريرية، وبين أن يصل هذا التوجه إلى مرحلة متطورة من لعبة التدوير، بكل ما تشمله من التوجيه والانتقاء والتضخيم والتحجيم والحذف والإبراز والتهميش، وغير ذلك.
المصادر والمراجع:
كتاب نظريات الاتصال في القرن الواحد والعشرين
Definition of Spin in Propaganda
Trump is winning the political spin game
اقرأ/ي أيضًا: