نظرية المؤامرة هي تفسير لأحداث أو ظواهر يعتمد على الاعتقاد بوجود مؤامرات سرية تديرها قوى خفية ومؤثرة، بهدف التحكم في مجريات الأمور وإخفاء الحقيقة عن العامة، وغالبًا ما تزدهر في ظل غياب الأدلة القاطعة. وتقوم على افتراض وجود قوى خفية تتحكم في مسار الأحداث وتعمل على إخفاء الحقائق لتحقيق مصالح خاصة. وعلى الرغم من افتقارها للأدلة القاطعة، إلا أنها تجد من يؤمن بها ويعتنقها، مدفوعًا بمزيج من الدوافع النفسية والاجتماعية التي تعكس جوانب عميقة في طبيعة الإنسان.
الدوافع النفسية وراء الإيمان بنظريات المؤامرة
توصلت دراسة نُشرت في مجلة Psychological Bulletin بعنوان " العقل التآمري"، إلى أن الإيمان بنظريات المؤامرة يتجاوز السمات الشخصية السطحية ليشمل دوافع أعمق تتعلق باحتياجات معرفية ووجودية وواجتماعية. وفقًا للدراسة يمكن تقسيم هذه الدوافع إلى ثلاثة محاور رئيسية: الدوافع المعرفية للأشخاص الذين يميلون إلى الإيمان بنظريات المؤامرة غالبًا ما يكون لديهم رغبة شديدة في فهم العالم من حولهم. وعندما تكون الأحداث غامضة أو تفتقر إلى تفسير منطقي واضح، يتولد لديهم ميل قوي نحو البحث عن تفسيرات بديلة تساعدهم على سد فجوات المعرفة التي تسبب لهم القلق. تقدم نظريات المؤامرة تفسيرًا شاملًا للأحداث، مما يُضفي إحساسًا وهميًا بالوضوح والسيطرة، يساعدهم على التغلب على الحيرة واحتواء الشعور بعدم المعرفة.
الدوافع الوجودية: يشعر بعض الأفراد بالخوف وعدم الأمان تجاه العالم من حولهم، ويجدون في نظريات المؤامرة وسيلة لاحتواء هذا الشعور، إذ تساعدهم على استعادة بعض السيطرة في بيئة قد تبدو غير مستقرة أو تهدد أمانهم. عندما تكون الأحداث الاجتماعية والسياسية مربكة أو تثير الشكوك، تمثل نظريات المؤامرة ملاذًا نفسيًا يمكّنهم من مقاومة مشاعر العجز وفقدان السيطرة. وأظهرت الدراسات أن الأفراد الذين يشعرون بعدم الأمان في بيئتهم أو بتهديد دائم يكونون أكثر ميلاً لتصديق نظريات المؤامرة.
الدوافع الاجتماعية: الإيمان بنظريات المؤامرة قد يكون وسيلة لبعض الأفراد لتحقيق شعور بالتفوق الاجتماعي والتميّز. فمع اعتقادهم بأنهم يملكون "الحقيقة الخفية" التي تغيب عن الغالبية، يشعرون بالتميز عن الجمهور العام. ويسهم هذا الإيمان أيضًا في تعزيز شعورهم بالانتماء إلى مجموعة معينة "عارفة بالحقيقة"، مما يعزز رغبتهم في الشعور بالذكاء أو الفطنة مقارنة بالآخرين.
سمات الشخصية التي تميل إلى الإيمان بنظريات المؤامرة
تشير الدراسات إلى أن سمات مثل العداء، الشعور بالفوقية، نقص التواضع، واضطرابات نفسية معينة تلعب دورًا في هذا الميل. فعلى سبيل المثال، يُلاحظ أن التفكير التآمري يظهر بشكل أوضح لدى الأشخاص الذين يشعرون بالعداء تجاه المجتمع أو مجموعات معينة، ويرون أنفسهم متفوقين على الآخرين. هذا الشعور بالاستعلاء يعزز تمسكهم بتفسيرات تدعم هذا التصور، وتدفعهم للنظر إلى الأمور بطريقة تعزز شعورهم بالفوقية وتضعف قدرتهم على تقبل الآراء المخالفة.
إضافةً إلى ذلك، يرتبط الإيمان بنظريات المؤامرة بنقص التواضع، سواء على المستوى الفكري أو الاجتماعي. فالأفراد الذين يفتقرون إلى التواضع يميلون لرفض آراء الآخرين ويفضلون تصوراتهم الذاتية، مما يقلل من قابليتهم لفهم الواقع بموضوعية. هذا النقص في التواضع يدفعهم لتبني تفسيرات مبنية على الشك والريبة دون الالتفات إلى الحجج التي قد تدحض تلك الأفكار. كما أن سمات الشخصية غير الطبيعية، مثل الذهان والشك المفرط ، تجعل بعض الأشخاص أكثر عرضة لتصورات غير منطقية وتفسيرات خاطئة للأحداث من حولهم. هؤلاء الأفراد يميلون لتبني تفسيرات تتوافق مع نظرتهم المشككة، مما يجعلهم أكثر استعدادًا لتقبل النظريات التي تقدم لهم تفسيرًا غير واقعي للمجريات.
في دراسة أخرى أجريت على عينة وطنية من البالغين الأميركيين في عام 2021 ، عمد الباحثون إلى تحليل ما يقرب من 585 علاقة بين 15 سمة نفسية وسياسية، والمعتقدات تجاه 39 نظرية مؤامرة مختلفة، في محاولة لتقديم فهم أعمق للعوامل التي تجعل بعض الأفراد أكثر عرضة للانجذاب نحو نظريات المؤامرة. وقد أظهرت النتائج أن السمات النفسية مثل "الثالوث المظلم" (الميكافيلية، والنرجسية، والاعتلال النفسي) وبعض التوجهات السياسية غير الحزبية، مثل الشعبوية ودعم العنف، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بهذه المعتقدات.
دور التحيز التأكيدي في تصديق نظريات المؤامرة
التحيز التأكيدي، مصطلح صاغه عالم النفس الإنجليزي بيتر واسون، يشير إلى ميل الأفراد إلى البحث عن المعلومات وتفسيرها وتفضيلها بطرائق تدعم وتؤكد معتقداتهم السابقة أو قناعاتهم الراسخة، مع تجاهل المعلومات المخالفة أو تقليل أهميتها. يعدّ هذا التحيز من أهم الظواهر النفسية التي تؤثر على معالجة المعلومات وسلوك الأفراد، خاصةً في القضايا ذات الأبعاد العاطفية والاجتماعية .
وتتجلى قوة التحيز التأكيدي عندما تتعلق المسائل بمعتقدات أو نتائج مرغوبة عاطفيًا، إذ يخلق هذا التحيز حاجزًا نفسيًا يعيق الأفراد عن إعادة تقييم مواقفهم. وتعد دراسة أجراها ليون فيستنغر وهنري ريكن وستانلي شاختر مثالًا جيدًا على "ثبات الاعتقاد". فقد تابع هؤلاء العلماء طائفة دينية اعتقدت بأن نهاية العالم ستكون في 21 ديسمبر 1954. وعندما لم يتحقق ذلك، تمسك العديد من المؤمنين بمعتقداتهم، مبررين فشل النبوءة بتفسيرات جديدة تعزز قناعاتهم بدلاً من التخلي عنها.
في وسائل التواصل الاجتماعي ، يتم تضخيم التحيز التأكيدي من خلال استخدام فقاعات التصفية، أو "التحرير الخوارزمي"، إذ يميل الأفراد إلى متابعة وسائل الإعلام أو المصادر التي تتفق مع معتقداتهم السياسية أو الاجتماعية، ويتجاهلون المصادر التي تقدم وجهات نظر مغايرة. تؤدي هذه الظاهرة إلى تضييق أفق الحوار وتعمق الانقسام المجتمعي، إذ يصبح الأفراد محاطين بمعلومات تؤكد آراءهم فقط، مما يقلل من فرصهم في التعرض لوجهات نظر مختلفة.
مع مرور الوقت، يصعب على الناس تقبل الآراء المخالفة، ويزداد التباعد بين المجموعات، ويتحول الاختلاف إلى حالة من التنافر العميق الذي يوسع الفجوات الفكرية ويزيد من العداوات بين الفئات المختلفة في المجتمع. كما يرتبط التحيز التأكيدي بانتشار الأخبار الزائفة، إذ يميل الناس إلى تصديق المعلومات التي تتماشى مع معتقداتهم، حتى لو كانت غير دقيقة أو مضللة. ويُعدّ هذا التحيز من بين العوائق الرئيسية أمام التفكير النقدي في ظل انتشار الأخبار الزائفة، إذ يلجأ الأفراد إلى الاعتماد على الإجماع الاجتماعي أو الثقة في آراء المشاهير أو النماذج التي يثقون بها بدلاً من التحليل الموضوعي، مما يعزز تأثرهم بالمعلومات الزائفة.
كيف يُعزز التحيز التأكيدي الإيمان بنظريات المؤامرة؟
عندما يبدأ شخص ما في تصديق نظرية مؤامرة، يميل إلى انتقاء المعلومات التي تتوافق مع معتقداته ويستخدمها لدعم آرائه، بينما يتجاهل أو يقلل من أهمية الأدلة التي تثبت عكس ذلك. فمثلًا، من يؤمنون بنظرية "خدعة الهبوط على القمر" يتجاهلون الأدلة العلمية القوية التي تدعم حقيقة الهبوط، مثل صخور القمر التي أُعيدت إلى الأرض، والشهادات المستقلة التي تؤكد الحدث، وشهادات رواد الفضاء. بدلاً من ذلك، يركزون على تفاصيل يعتبرونها "شاذة"، كظلال الصور أو حركة العَلم الأميركي، ويعتبرون هذه التفاصيل دليلًا على وجود مؤامرة.
نظريات المؤامرة المتعلقة ببرنامج "هارب" للتحكم في المناخ تعتبر مثالاً آخر على التحيز التأكيدي. "هارب" هو مشروع بحثي لدراسة الغلاف الجوي الأيوني، إلا أن بعض الأفراد يرونه مشروعًا سريًا يهدف للتحكم في الطقس وإحداث كوارث طبيعية. عندما تحدث كارثة طبيعية، يميل أنصار هذه النظرية إلى ربطها ببرنامج "هارب"، مستندين إلى أدلة غير مباشرة، مثل تقارير إخبارية مختارة أو مقالات غير علمية، لدعم فكرة المؤامرة. في المقابل، يتجاهلون الأدلة العلمية المتاحة حول عدم قدرة البرنامج على التحكم بالطقس. هذا الانتقاء للمعلومات يعزز لديهم الإيمان بقدرة البرنامج على إحداث الكوارث، حتى لو لم يكن هناك دليل علمي يدعم ذلك. مقال لمسبار يبين نظريات المؤامرة المتعلقة ببرنامج "هارب" للتحكم في المناخ.
بعض الأشخاص اللذين يؤمنون بأن لقاح فيروس الورم الحليمي يسبب العقم يلجؤون إلى مصادر تعزز هذه الأفكار مثل مواقع الإنترنت أو مقاطع الفيديو التي تتحدث عن "خطر" اللقاحات ، ويتجاهلون الأبحاث والأدلة التي تؤكد على سلامة وفعالية اللقاح، مما يعزز لديهم الاعتقاد بوجود مؤامرة. تحقيق لمسبار يدحض ارتباط لقاح فيروس الورم الحليمي بالعقم لدى النساء
في المشهد السياسي، يظهر التحيز التأكيدي بوضوح خلال فترات الانتخابات. يميل أنصار مرشح معين إلى البحث عن الأخبار والمصادر التي تؤكد على نقاط قوة مرشحهم وتبرر أخطاءه، بينما يتجاهلون أو يرفضون أي معلومات سلبية عنه. هذا السلوك يعزز لديهم الشعور بأن مرشحهم هو الخيار الأفضل والأكثر صدقية، بينما يزداد لديهم عدم الثقة تجاه المعلومات المعارضة. يساهم التحيز التأكيدي في تعزيز الاستقطاب السياسي، إذ يصبح كل جانب أكثر تطرفًا وتشبثًا بمواقفه. ومع غياب القدرة على تقبل الآراء الأخرى أو تقييم المعلومات بحيادية، يصبح الحوار بين الأطراف السياسية المختلفة صعبًا، وتزداد حالة الانقسام في المجتمع.
وفي ظل انتشار الشعبوية وتزايد الشكوك حول "النخب" أو السلطات، يجد الأفراد ميلًا أكبر نحو تصديق نظريات المؤامرة التي تؤكد على انحياز النظام ضدهم. وفي مثل هذه الحالة، يصبح التحيز التأكيدي أداة قوية، إذ يلتقط الأفراد المعلومات التي تعزز شعورهم بأنهم "ضحية" لمؤامرات تدبرها السلطات، متجاهلين أي دلائل تدحض هذه النظريات.
استراتيجيات فعّالة لمواجهة التحيز التأكيدي وتعزيز التفكير النقدي
تنمية التفكير النقدي هو أساس القدرة على التعامل بموضوعية مع المعلومات، من خلال تشجيع الأفراد على طرح أسئلة تحليلية، يمكنهم تجاوز سطحية المعلومات وتجنب الانحياز التأكيدي. يمكن أن تشمل الأسئلة التحليلية أسئلة مثل "هل توجد مصادر مستقلة تدعم هذا الادعاء؟" أو "ما الأدلة القاطعة التي تؤكد صحة هذه الفكرة؟"، هذا النمط من الأسئلة يُساعد على بناء مهارات التفكير النقدي لدى الأفراد، ويدفعهم لمراجعة الآراء دون الوقوع في فخ التصديق الأعمى.
الاعتماد على مصادر متنوعة وموثوقة: يعتبر تنويع المصادر من الأساليب الفعالة لمواجهة التحيز التأكيدي، إذ يُقلل من تأثير الرؤية الأحادية. فمع تنوع المصادر، تتاح الفرصة للوقوف على وجهات نظر مختلفة، مما يساعد الأفراد على بناء فهم أوسع ومتوازن. هذا التنوع يُسهم في توسيع مداركهم ويمنحهم القدرة على التمييز بين المعلومات المنحازة والمعلومات الموثوقة.
اتباع المنهج العلمي في التحقق من المعلومات: يساعد النهج العلمي على التعامل مع المعلومات بموضوعية. من خلال التزام الأفراد بخطوات علمية تشمل اختبار الفرضيات وتحليل الأدلة، يصبحون أكثر قدرة على الوصول إلى نتائج دقيقة وموثوقة. هذا المنهج يحميهم من التأثر السريع بالمعلومات المتحيزة ويُعزز قدرتهم على التحقق بشكل منطقي.
إظهار تناقضات نظريات المؤامرة: ترويج نظريات المؤامرة يعتمد غالبًا على سردية غير متماسكة، وإبراز تناقضاتها يمكن أن يُثني الأفراد عن تصديقها. من خلال طرح أسئلة حول مدى منطقية واتساق هذه النظريات، يصبح من الأسهل كشف ضعفها وإقناع الأفراد بإعادة النظر في مدى صدقيتها. هذه الخطوة تُسهم في تقليل الانجراف وراء الأفكار المشكوك فيها.
تعزيز التواضع المعرفي وقبول فكرة التطور الفكري: التواضع المعرفي يشير إلى استعداد الأفراد لقبول أن معرفتهم قد تكون محدودة وأنهم قد يحتاجون لتعديل آرائهم عند ظهور معلومات جديدة. عندما يتقبل الأفراد فكرة أن التغيير وارد عند تقديم أدلة جديدة، يصبحون أكثر مرونة وموضوعية، وهو ما يسهم في خفض تأثير التحيز التأكيدي. خلق بيئة حوار بنّاء وصحي المناقشات البنّاءة تتيح للأفراد التعبير عن آرائهم دون خوف أو تهديد، وهو ما يُشجعهم على التفكير العميق والنقاش بموضوعية. بدلاً من السخرية أو التقليل من آراء الآخرين، يُفضّل تحفيزهم على تقديم حجج مدعومة بالأدلة. هذه البيئة تساعد على تعزيز الحوار الجاد، وتشجع على فهم أعمق للقضايا بعيدًا عن تأثير التحيز. التوجيه الرقمي عبر وسائل التواصل الاجتماعي في ظل انتشار الأخبار المضللة، بدأت منصات التواصل الاجتماعي بتقديم رسائل تنبيهية حول ضرورة التحقق من المعلومات. تظهر هذه التنبيهات كملاحظات للمستخدمين حول موثوقية المحتوى، وتتيح لهم فرصة الاطلاع على آراء مختلفة. هذه التقنية قد تساعد الأفراد في توسيع آفاقهم وتقليل تأثير التحيزات الشخصية.
اقرأ/ي أيضًا
ما أبرز الادعاءات المرتبطة بنظرية المؤامرة حول مشروع الشعاع الأزرق؟
أبرز الأخبار الزائفة التي رصدها مسبار حول الادعاءات التي تروج لنظرية المؤامرة