قد يبدو السؤال "هل يمكن للمعلومات المضللة أن تقتُلنا؟" مبالغًا فيه، إلا أن المعلومات المضللة تُزهق بالفعل أرواحًا وتدمر مجتمعات. ففي بريطانيا، أحرق أشخاص أبراج إرسال للهاتف المحمول، بناءً على اعتقاد خاطئ بأنها تتسبب في نشر جائحة كوفيد-19. وفي الولايات المتحدة، اقتحم مواطنون مسلحون مبنى الكابيتول، مدفوعين بنظرية مؤامرة وادعاءات زائفة عن تزوير الانتخابات الرئاسية.
وانتشرت في الهند مقاطع فيديو مزيفة أدت إلى أعمال عنف وحشية، عندما هاجمت حشود غاضبة أبرياء، بناءً على معلومات خاطئة تتهمهم بالاتجار بالبشر، وأسفرت الأحداث عن وفيات وإصابات. وفي إيران، تسببت شائعات كاذبة مفادها أن شرب الكحول السام يساعد في إضعاف فيروس كورونا في تسمم جماعي وموت المئات.
باختصار، يمكن بالفعل للمعلومات المضللة أن تكون قاتلة!
تتزايد اليوم خطورة المعلومات المضللة مع التدفق الهائل للمعلومات، الذي تزيد معه صعوبة تمييز الحقيقة عن الزيف، خاصة في ظل التغيرات السريعة في عصرنا الرقمي، ومع الانتشار السريع للمعلومات عبر منصات التواصل الاجتماعي. ولكن كيف يمكننا حماية أنفسنا من هذا الفيضان من المعلومات المضللة؟
هذا هو السؤال الذي يحاول ساندر فان دير ليندن، عالم الاجتماع والباحث في علم النفس، الإجابة عليه في كتابه Foolproof: Why We Fall for Misinformation and How to Build Immunity.
ليس مجرد كتاب
"Foolproof" ليس مجرد كتاب عن المعلومات المضللة، بل هو دليل عملي يساعد على فهم أسباب انتشار تلك المعلومات وكيفية الحماية منها. يقدم فان دير ليندن من خلاله نظرةً ثاقبةً على آليات عمل العقل البشري، كيف يمكن استغلال تلك الآليات لنشر المعلومات المضللة. كما يقدم مجموعة من الأدوات والتقنيات الفعالة لمكافحة انتشارها. وباستخدام استعارته المفضلة، يهدف فان دير ليندن إلى ابتكار طريقة لـ "تطعيم" الأشخاص ضد فيروس المعلومات المضللة.
يقسّم الكتاب الذي صدر في عام 2023، إلى عدة فصول، تغطي جوانب مختلفة من إشكالية انتشار المعلومات المضللة. يبدأ المؤلف بتحليل الأسباب النفسية التي تجعلنا عرضةً للوقوع في شرك الأخبار الكاذبة، ثم ينتقل إلى شرح كيفية انتشار المعلومات المضللة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التقليدية.
بعد ذلك، يقدم فان دير ليندن نظريته عن "التضليل الوقائي"، وكيف يمكن استخدامها لبناء مناعة فكرية. وفي الفصل الأخير، يقدم المؤلف مجموعة من النصائح العملية التي يمكننا تطبيقها في حياتنا اليومية لحماية أنفسنا من المعلومات المضللة.
لماذا نؤمن بالأخبار الكاذبة؟
بحسب مسح نشرته مؤسسة YouGov، يعتقد 42 في المئة من الناس في إسبانيا واليونان بوجود مجموعة سرية من الأفراد تدير العالم، مقارنة بـ 31 في المئة في الولايات المتحدة و18 في المئة في المملكة المتحدة. وعلى الرغم من أن 8 في المئة فقط من الناس في المملكة المتحدة يشاركون وجهة نظر دونالد ترامب عن كون الاحتباس الحراري خدعة، إلا أن واحدًا من كل خمسة أميركيين يشاركه الاعتقاد ذاته.
قد تبدو هذه الأرقام غريبة، ولكن بحسب فان دير ليندن، عقولنا مصممة بطريقة تجعلنا عرضةً للتأثير والتلاعب. فما هي الأسباب التي تدفعنا إلى تصديق الأخبار الكاذبة؟
يقول المؤلف إننا كبشر نميل إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتنا القائمة، ورفض تلك التي تتناقض معها. يعني ذلك أننا أكثر عرضة لتصديق الأخبار التي تتوافق مع آرائنا السياسية أو الدينية، بالإضافة إلى كوننا نتخذ قراراتنا بناءً على انطباعات أولية سريعة بدلًا من تحليلات دقيقة للمعلومات. يجعلنا كل ذلك عرضةً للخداع من خلال عناوين مثيرة أو صور ملفتة للنظر.
يتابع الباحث في كتابه "تؤثر عواطفنا بشكل كبير على طريقة تفكيرنا، فالأخبار التي تثير مشاعرنا مثل الغضب أو الخوف تلتصق بذاكرتنا بشكل أقوى وتصبح أكثر قابلية للانتشار. نحن نحب القصص البسيطة والواضحة، حتى لو كانت غير دقيقة. وهذا يجعلنا نفضل التفسيرات البسيطة للأحداث المعقدة، مما يجعلنا أكثر عرضة لتصديق نظريات المؤامرة".
المنصات بيئة خصبة.. ولكل منصة أسلوب
بعد صدور كتابه، تحدث فان دير ليندن في بودكاست "The easy prey" عن دور وسائل التواصل الاجتماعي في انتشار المعلومات المضللة، وعن كونها بيئة خصبة ومثالية تلك المعلومات. وقال "التكنولوجيا تعمل على تشكيل المعلومات نفسها. بالنسبة للفروقات بين منصات التواصل الاجتماعي، في واتساب مثلًا تتلقى رسائل من أشخاص في مجموعتك. هؤلاء هم الأشخاص الذين تعرفهم وتثق بهم عادة. وهذا له قيمة متأصلة. فأنت تعتقد أنهم جديرون بالثقة. وهذا يختلف تمامًا عن التغريدات المجهولة التي تقرأها على إكس. أما يوتيوب فهو يعتمد على الصوت والصورة، حيث يتم جذبك إلى أحد مقدمي البرامج الصوتية وهذا يمثل وسيلة مختلفة تمامًا. وأعتقد أن السمات الفريدة لكيفية تفاعل الناس مع التكنولوجيا مختلفة تمامًا أيضًا".
التضليل الوقائي أصبح ضرورة
على ضوء تعاظم مخاطر المعلومات المضللة، يبين فان دير ليندن أن التضليل الوقائي أو تطعيم الناس ضد هذه الأخبار أصبح ضرورة. وبحسب الكتاب فإن التضليل الوقائي، أو ما يعرف بـ "prebunking"، هو عبارة عن استراتيجية جديدة لمكافحة المعلومات المضللة. بدلًا من التركيز على فضح الأخبار الكاذبة بعد انتشارها، فإن هذه الاستراتيجية تهدف إلى تجهيز الناس بالأدوات اللازمة للتعرف على المعلومات المضللة ومقاومتها قبل أن تؤثر عليهم.
ويعتمد التضليل الوقائي على فكرة بسيطة: إذا علمنا كيف تعمل المعلومات المضللة وكيف يتم التلاعب بنا، فسيكون من الأسهل علينا اكتشافها ومقاومتها. ولهذا السبب، فإن هذه الاستراتيجية تتضمن تعريف الناس بأكثر أساليب نشر المعلومات المضللة شيوعًا، مثل استخدام العناوين المثيرة، وتشويه الحقائق، ونشر نظريات المؤامرة، وكذلك تدريب الناس على التفكير النقدي وتشجيعهم على طرح الأسئلة، والتحقق من المصادر، وعدم قبول أي معلومة دون دليل، وتزويدهم بالأدوات اللازمة للتحقق من صحة المعلومات، كاستخدام خاصية البحث العكسي على محركات البحث، والتحقق من مصادر الأخبار، ومقارنة الروايات المختلفة.
يقول فان دير ليندن في البودكاست "في الكثير من الأبحاث، وجدنا أنه عندما تعرض العقل لجرعات ضعيفة من المعلومات المضللة أو التكتيكات المستخدمة لنشر المعلومات المضللة، وتدحضها بشكل مقنع مسبقًا وتفكك تقنيات التلاعب بالأفراد، يمكننا بناء مقاومة عقلية أو معرفية، وحتى أجسام مضادة، لقد بدأنا في القيام بهذا في المختبر، حيث نستقبل الناس ونعرضهم لجرعة مخففة من المعلومات المضللة القوية، ثم نقوم بدحضها مسبقًا، أو مساعدتهم على رؤية التكتيكات التلاعبية، ثم نعرض الناس لـ "الفيروس" الكامل في وقت لاحق. ونجد أنهم أصبحوا أكثر مقاومة".
وأضاف "ما يسيء الناس فهمه أحيانًا هو أن الأمر الأساسي ليس فقط تعريض الناس للجرعة الضعيفة من المعلومات المضللة، بل أيضًا منح الناس الأدوات اللازمة لتفكيكها. وبدون هذا الجزء، فإنك تخاطر بنشر المعلومات المضللة فحسب".
نتائج التجارب العلمية
أظهرت العديد من الدراسات أن التضليل الوقائي هو أداة فعالة في مكافحة المعلومات المضللة. فالأشخاص الذين تم تدريبهم على التضليل الوقائي كانوا أقل عرضة لتصديق الأخبار الكاذبة وأكثر قدرة على تقييم المعلومات بشكل نقدي، بحسب الكتاب.
أحد الدراسات التي اختبر بها فان دير ليندن نظريته، هي دراسة واسعة النطاق شملت أكثر من 2000 مشارك. قدّر المشاركون فيها أن 70 في المئة من العلماء يوافقون على أن تغير المناخ العالمي الذي يسببه الإنسان، حقيقي. وعندما قيل للمشاركين أن النسبة الفعلية هي 97 في المئة، ارتفعت تقديراتهم وفقًا لذلك. لكن تعريض المشاركين لإشاعة مفادها أن "أكثر من 31000 عالم أمريكي وقعوا على عريضة تعارض الإجماع"، محى تلك الزيادة تمامًا.
جدوى "التضليل الوقائي"
تتمثل الطريقة التقليدية في مكافحة المعلومات المضللة في فضح الأخبار الكاذبة بعد انتشارها. ولكن هذه الطريقة لها العديد من العيوب، فهي لا تمنع انتشار المعلومات المضللة في المقام الأول، وقد تؤدي إلى تعزيز تأثيرها على بعض الأشخاص. أما التضليل الوقائي فيعتبر نهجًا أكثر استباقية وفعالية، فهو يركز على الوقاية بدلًا من العلاج، ويجهز الناس بالأدوات اللازمة لمواجهة التحديات المستقبلية.
يعتبر التضليل الوقائي أداةً قوية لمكافحة المعلومات المضللة، وبينما لا يوجد حل سحري لهذه المشكلة المعقدة، فإن تبني هذه الاستراتيجية يمكن أن يساهم بشكل كبير في بناء مجتمعات أكثر وعيًا ونقدية.
كيف نبني مناعة فكرية؟
بناء المناعة الفكرية هو عملية حيوية في عصر المعلومات المتدفقة. فهي تمكن الأفراد من التفكير النقدي، وتقييم المعلومات بمنطقية، والتحقق من صحتها قبل تصديقها. لبناء مناعة فكرية قوية، يجب تطوير مهارات طرح الأسئلة، وتحليل المعلومات، والتحقق من مصادرها. يجب توعية الأفراد بأساليب التضليل الإعلامي، وطرق التحقق من الأخبار والصور والفيديوهات قبل مشاركتها. كما يجب البحث عن مجتمعات معلوماتية موثوقة لتبادل الأفكار والمعرفة.
اقرأ/ي أيضًا
الفئات المهمشة: تحديات واسعة في مواجهة التضليل الرقمي
الدوافع النفسية والاجتماعية وراء تصديق الادعاءات المرتبطة بنظريات المؤامرة