تقول صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية إنّ عشرات الأفراد، الذين تربط بعضهم صلة بحماس، والذين يحظون مجتمعين بأكثر من 100 مليون متابع على مواقع التواصل الاجتماعي، يشنّون حملة دعائية ضدّ إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الفائت.
وتخص بالذكر صنّاع محتوى وصحافيين ومصوّرين فلسطينيين، نجحوا في لفت أنظار العالم وكسر الصورة النمطية التي رسمها الاحتلال عن الفلسطينيين في المخيال الغربي، والتي ساهمت في تجريدهم من صفة الإنسانية واختزال ضحاياهم في أرقام، تُقلّل إسرائيل من وقعها على المسامع عندما تصفها بـ "الخسائر الجانبية لحربها ضد حماس".
يشارك هؤلاء الشبان منذ السابع من أكتوبر قصصًا يومية تُعيد للفلسطينيين تدريجيًا بعضًا من إنسانيتهم المسلوبة، من خلال تسليط الضوء على واقعهم المعاش، واستحضار سياق الحرب المُغيّب عمدًا عن كثير من النقاشات الدائرة في الإعلام الغربي.
وفي غضون أسابيع قليلة، نجحت نوافذهم على الواقع الفلسطيني في كسر عقودٍ من احتكار السردية، معرّضة وسائل الإعلام الغربية التي تمارس التمييز والتعتيم والتحيّز ضدّ الفلسطينيين لمساءلة جمهورها. كما تحدّت سردية "الشعب الهمجي" الذي تزعم إسرائيل أنّها تخوض حربًا ضده نيابة عن "العالم المتحضر" بأكمله.
لا يقدّم مقال جيروزالم بوست أيّ إثباتات على صلة أيّ من المؤثرين الذين أوردت أسماءهم بحماس، لكنّه يستعين برواياتهم التي ناقضت الرواية الرسمية الإسرائيلية لترجيح تلك الفرضية. ويذكر من بينها روايتا قصف المستشفى الأهلي المعمداني وقصف النازحين على طريق صلاح الدين.
يتهم المقال بليستيا العقاد، الصحافية المستقلّة البالغة من العمر 22 عامًا، التي وثّقت منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزّة لحظات القصف والرعب و"حياة التشرّد"، بنشر "كذبة" عن قصف إسرائيل للمستشفى الأهلي المعمداني وقتلها أكثر من ألف شخص كانوا قد لجؤوا إليه.
يتبنّى المقال رواية إسرائيل الرسمية التي تزعم أنّ صاروخًا أطلقته حركة الجهاد الإسلامي قد ضرب المستشفى ويدّعي، استنادًا إلى ما سماها "تحقيقات دولية مستقلة"، أنّ رقم الضحايا الحقيقي لم يتجاوز 50 قتيلًا.
لكن العديد من تحقيقات المصادر المفتوحة، بينها تحقيق لذا نيويورك تايمز، كشف عدم صحّة الأدلة التي قدّمتها إسرائيل لإثبات مسؤولية الجهاد الإسلامي عن قصف مستشفى المعمداني.
فيما أكّد تقرير نشرته قناة دويتش فيله الألمانية في 27 أكتوبر، أنّه لم يُجر إلى حينها تحقيق ميداني في الواقعة، وأن الوضع الأمني لا يسمح لفرق التحقيق الدولية بدخول القطاع والبحث في ملابسات القصف الذي استهدف المستشفى.
وكان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي، أفيخاي أدرعي، قد تهرّب في وقت سابق من الردّ على مقترح السماح للجنة تحقيق دولية بالوصول إلى موقع القصف، معتبرًا أنّ رواية إسرائيل "هي الحقيقة".
تسميم البئر
على ضوء ما سبق، تتحول تقديرات الجهات الدولية لأعداد ضحايا قصف المستشفى المعمداني إلى محض تكهّنات، كما يدفع التقارب بين تقديرات وكالات الاستخبارات الأميركية، حليفة إسرائيل، مع الأرقام الرسمية لوزارة الصحة الفلسطينية في غزة إلى التشكيك في فرضية تضخيم الأرقام، التي تتبنّاها جيروزاليم بوست.
وكانت وكالة الاستخبارات الأميركية قد توقعت أنّ قصف المستشفى المعمداني قد أودى بحياة ما بين 100 و300 فلسطيني، في حين أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة عن مقتل 471.
وأشار تحقيقٌ نشره مسبار في وقت سابق إلى أنّ ساحات مستشفيات قطاع غزّة تحوّلت منذ بدء العدوان إلى أماكن تجمّع للنازحين، وأنّ المستشفى المعمداني على وجه الخصوص استقطب العدد الأكبر منهم، باعتباره المستشفى الأأمن كونه لم يتعرّض للقصف خلال الحروب السابقة، ما يرجّح وجود أعداد كبيرة من المدنيين في ساحته لحظة القصف.
وتأتي ادّعاءات جيروزاليم بوست في وقت تحرص فيه وسائل الإعلام على الإشارة لوزارة الصحة الفلسطينية في غزة بـ "وزارة الصحة التابعة لحماس"، تزامنًا مع حملة التشويه التي تتعرّض لها الحركة، في استراتيجية هدفها التشكيك في صدقية الأرقام الصادرة عن وزارة الصحة في قطاع غزة.
وينطوي هذا الأسلوب على مغالطة منطقية تُعرف بمغالطة تسميم البئر، وتعني الإفصاح عن معلومات سلبية عن جهة ما بغرض ضرب صدقية ما قد تقوله تلك الجهة لاحقًا.
ويعترض المقال على أرقام القتلى التي قدّمتها بليستيا العقاد، ويخص منها بالذكر رقم "عشرة صحافيين"، الذي صرّحت به في مقابلة مع قناة جاي بي نيوز في العاشر من أكتوبر، مشيرًا إلى أنّ القناة لم تتمكن من التثبّت من صحة تلك المعلومة.
راجع مسبار المقابلة ووجد أنّ ما قالته بليستيا هو أنّ "حوالي" عشرة صحافيين قد فارقوا الحياة، وأنّ ملاحظة القناة كانت آنية وجاءت على لسان مذيعة القناة فور تقديم بليستيا للمعلومة، ولم تكن نتيجة تحقّق لاحق، في حين كان لدى جيروزاليم بوست متّسع من الوقت للتحقّق من الرقم من مصادر مستقلة.
وطالع مسبار إحصائيات منظمة مجتمع حماية الصحافيين (CPJ) الدولية المستقلة، التي أظهرت أن سبعة صحافيين فلسطينيين كانوا قد قتلوا بالفعل بحلول العاشر أكتوبر، وهو رقم قريب من تقديرات العقاد.
أما بيسان عودة، المخرجة الشابة التي يتابعها اليوم أكثر من مليوني مستخدم على موقع انستغرام، فيعيب عليها كاتب المقال متابعة شخصية يصفهما بــ"المعادية للسامية" لها. وناهيك عن صعوبة التثبت من صدقية الوصف، الذي يُساء استخدامه باستمرار لوصم منتقدي الصهيونية وسياسات حكومات إسرائيل المجحفة بحق الفلسطينيين، لا تملك عودة في جميع الأحوال القدرة على التحكم في هوية من بوسعهم متابعتها وتبنّي أفكارها.
وتُتّهم عودة في المقال بالمساهمة في نشر "الكذبة عن المستشفى الأهلي المعمداني مثل العقاد (بليستيا)"، كما يشار إلى أنّها وصفت "الرواق الإنساني" بـ "الفخ"، موضحة أنّ إسرائيل تستدرج وتقتل النازحين باتجاه الجنوب.
وقُتل 70 مدنيًا من شمالي قطاع غزة بالفعل عندما قُصفت قافلة مركباتهم على شارع صلاح الدين، أثناء نزوحهم جنوبًا استجابة لدعوات إسرائيلية رسمية، فيما نفت إسرائيل مسؤوليّتها عن القصف متهمة حماس بالوقوف وراءه لمنع المدنيين من مغادرة شمالي القطاع، "كي تستمر في استخدامهم كدروع بشرية".
منظمة إسرائيلية تتهم الصحافية هند الخضري بتسليم نشطاء لحماس
واتهم مقال جيروزاليم بوست الصحافية هند الخضري، نقلًا عن منظمة "Honest Reporting" الإسرائيلية المختصّة في مراقبة وسائل الإعلام، بالإبلاغ عن مجموعة من نشطاء السلام لحماس عام 2020، مما أدّى إلى اعتقالهم.
لكن الخضري أوضحت في رد نشرته خلال العام ذاته أنّها أرادت تحذير السلطات من نشاطهم الذي يروّج للتطبيع مع إسرائيل. وأنّ قائد المجموعة نفسه صرّح خلال الاجتماع، الذي تابعته الخضري على منصة زوم، بأنّ حماس على دراية بنشاطات مجموعته وأنّ المجموعة كانت تروج لأنشطتها علنًا على موقع فيسبوك. ونفت الخضري في المقال ذاته صلتها بحماس، مشيرة إلى أنّها اعتقلت عام 2019 على خلفية تغطيتها احتجاجات مناهضة لحماس في قطاع غزة.
وقالت منظمة العفو الدولية حينها إنّ الخضري كانت تعمل كمستشارة بحوث لديها، وأنّ حماس احتجزتها واتهمتها بالتجسس لأنّها تحدّثت إلى محتجّين على غلاء المعيشة في إطار عملها لصالح المنظمة.
"Honest Reporting" تتهم المصوّرين الصحافيين الفلسطينيين بالتواطئ مع حماس
لمّح مقال جيروزاليم بوست إلى أنّ المصور الصحافي عبد الله العطار وزميله أحمد حجازي كانا رفقة حماس عندما اخترق مقاتلوها السياج الفاصل بين غزة ومستوطنات الغلاف، في السابع من أكتوبر الفائت، من خلال الإشارة إلى أنّهما نشرا صورًا ومقاطع فيديو أصلية وثقّت الأحداث.
وذهب تقرير نشرته منظمة "Honest Reporting" في الثامن من نوفمبر الجاري إلى أبعد من ذلك، عندما أشار إلى أنّ ستّة مصوّرين صحافيين وثّقوا أحداث السابع من أكتوبر في مستوطنات الغلاف، ربما كانوا على علم مسبق بمخطط حماس.
ووجهت المنظمة أصابع الاتهام، على وجه التحديد، إلى المصوّرين المتعاونين مع وكالتي اسوشييتد برس ورويترز للأنباء، وقناة سي إن إن وصحيفة ذا نيويورك تايمز، وطرحت في تقريرها أسئلة من قبيل "ما الذي كانوا يفعلونه هناك فيما كان يفترض أن يكون صباح يوم سبت هادئ؟"، "هل كان وجودهم هناك نتيجة تنسيق مع حماس؟"، "هل وافقت وسائل الإعلام المرموقة التي نشرت الصور التي التقطوها على وجودهم داخل أراضي العدو إلى جانب متسلّلين إرهابيين؟".
وردًّا على التقرير، نفت كلٌّ من ذا نيويورك تايمز وسي إن إن ووكالتي رويترز وأسوشييتد برس معرفتهم المسبقة بمخططات حماس، قبل أن تُنهي سي إن إن وأسوشييتد برس تعاونهما مع المصور الصحافي حسن اصليح، الذي اتهمته المنظمة الداعمة لإسرائيل بالتواطئ مع حماس استنادًا إلى مقطع فيديو نشره يوم السابع أكتوبر. وظهر اصليح في المقطع بالقرب من دبابة إسرائيلية مشتعلة، وقال إنّه شهد "بالعين المجرّدة" عملية اختطاف من كانوا بداخلها على يد مقاتلي كتائب القسّام.
أما ذا نيويورك تايمز فقالت إنّ الاتهامات الموجّهة لمصوّرها يوسف مسعود تفتقر إلى الأدلة، واعتبرت نشرها تهوّرًا "يعرّض صحافييها في إسرائيل وغزة للخطر".
وتبنّت الحكومة الإسرائيلية ما جاء في تقرير "Honest Reporting" معتبرة أنّ أولئك "الصحافيين كانوا متواطئين في جرائم ضدّ الإنسانية"، وأنّ أفعالهم منافية للأخلاقيات المهنية.
نمط استهداف مشترك
بمراجعة كليهما، يُلاحظ أن القاسم المشترك الأبرز بين مقال جيروسالم بوست وتقرير "Honest Reporting"، هو التشكيك في صفات الأشخاص ومهنية الصحافيين.
تصف جيروسالم بوست بليستيا العقاد بـ "التي تسمي نفسها صحافية مستقلة"، وتشكّك في صفة "سفيرة النوايا الحسنة" التي قدّمت بها قناة ABC الأميركية بيسان عودة وتعتبر استضافة بي بي سي لها نوعًا من "إضفاء الصدقية" عليها، على نحو يؤكّد أنّ كاتب المقال قد انطلق من فكرة أنّها فاقدة للصدقية. وعلى الجانب الآخر، يشكّك تقرير منظّمة "Honest Reporting" في مدى التزام المصوّرين الصحافيين المتعاونين مع وسائل الإعلام المرموقة بأخلاقيات العمل الصحافي، على نحو أحرج تلك الوسائل ودفع بعضها بالفعل لإنهاء التعاون معهم تجنّبًا للشبهات.
وتهدف إسرائيل من خلال جهودها الدعائية الحكومية وغير الحكومية إلى كتم الصوت الفلسطيني عبر ضرب صدقية ناقليه وعزلهم وشرعنة تصفيتهم.
كما تسعى من خلال التشكيك في صدقية الرواية الفلسطينية للأحداث واختلاق روايات مضادة إلى خلق مناخ يسوده عدم اليقين يصعب فيه تمييز الحقيقة على نحو يجعل عملية بناء موقف معارض لإسرائيل مهمة أصعب، بالإضافة إلى ترسيخ فكرة أنّ الصراع العربي الإسرائيلي أعقد من أن يبسّط إلى موقف مؤيّد أو معارض لأحد الطرفين، في تشجيع ضمني على التزام الحياد الذي يضمن استقرار موازين القوى في شكلها الحالي.
اقرأ/أيضًا
إيلون ماسك لم يعلن إيقاف الحسابات الداعمة لفلسطين على إكس
الصورة لمجندين إسرائيليين يتفقدان طفليهما حديثي الولادة في إحدى المستوطنات وليست من مجمع الشفاء