المقال مترجم بتصرف عن تقرير لصحيفة ذا غارديان، منشور بتاريخ 4 فبراير/شباط الجاري.
يواجه العاملون في شبكة سي إن إن، انتقادات من زملائهم بسبب سياسات التحرير التي يقولون إنها أدت إلى تكرار للدعاية الإسرائيلية وحجب وجهات نظر الفلسطينيين، في تغطيتها للحرب في غزة.
يقول الصحفيون في غرف أخبار الشبكة في الولايات المتحدة وخارجها، والذين لم تكشف ذا غارديان عن هوياتهم، إن البث قد انحرف بسبب توجيهات الإدارة وعملية الموافقة على القصص، التي أدت إلى تغطية منحازة، عقب عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الفائت والهجوم الانتقامي لإسرائيل على غزة.
قال أحد موظفي الشبكة إنّ "غالبية الأخبار منذ بداية الحرب، بغض النظر عن مدى دقة التقارير الأولية، تم تحريفها بفعل تحيز منهجي ومؤسسي داخل الشبكة نحو إسرائيل". وأضاف "في نهاية المطاف، تعتبر تغطية سي إن إن لحرب إسرائيل وغزة أمرًا يعادل الممارسة الصحفية السيئة".
طرحت عملية طوفان الأقصى التي نفذتها كتائب القسام في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الفائت، والحرب الإسرائيلية التي نفذتها دولة الاحتلال على قطاع غزة، أسئلة قديمة متجددة تدور حول موثوقية وسائل الإعلام الغربية وخاصة الأميركية.
فمع تعدد الروايات وانقسامها، بين المؤيدة للفلسطينيين والأخرى المؤيدة لإسرائيل، قامت وسائل إعلام باتباع سياسة تحريرية اعتبرت أنّها منحازة لإسرائيل، كمًّا وكيفًا. هذا الإعلام الذي مثل بدوره طيلة سنوات، بالنسبة للبعض، نموذجًا للمهنية والمصداقية، ربما بدأ ينهار أمام ازدواجية المعايير وسياسة عدم الإنصاف.
وفقًا لشهادات من ستة من موظفي سي إن إن، وأكثر من عشرين مذكرة داخلية وبريد إلكتروني حصلت عليها ذا غارديان، يتم تشكيل قرارات الأخبار اليومية عن طريق تدفق توجيهات من مقر الشبكة في أتلانتا، حيث وُضعت إرشادات صارمة بشأن التغطية.
تشمل هذه الإرشادات قيودًا صارمة على استخدام اقتباسات من حماس وتقديم وجهات نظر فلسطينية أخرى، بينما تُعتبر بيانات حكومة إسرائيل بمثابة حقائق. بالإضافة إلى ذلك، تشترط موافقة مكتب القدس قبل بث أو نشر أي قصة عن الصراع.
تغطية سي إن إن للحرب على غزة: تحيز بمراسيم عليا
يقول صحفيو سي إن إن، إن طبيعة التغطية تحدد أساسًا من قمة الهرم من خلال رئيس تحريرها الجديد والرئيس التنفيذي، مارك طومبسون، الذي تولى منصبه يومين بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر.
وفق ذا غارديان، عبر بعض الموظفين عن قلقهم بشأن استعداد طومبسون لمقاومة محاولات التأثير الخارجي على التغطية، خاصةً أنه في وظيفة سابقة كمدير عام لشبكة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، كان "يتهم بالامتثال لضغوط حكومة إسرائيل في العديد من المرات، بما في ذلك طلب إزالة إحدى مراسلي الشبكة الأكثر بروزًا من منصبها في القدس في عام 2005".
يقول موظفو الشبكة الداخليين، إن ذلك أدى، خاصة في الأسابيع الأولى من الحرب، إلى التركيز بشكل أكبر على معاناة الإسرائيليين وسرد الحرب الإسرائيلية من جانب منحاز مثل الحديث عن أنفاق حماس، مع تقديم اهتمام غير كاف لحجم وفاة المدنيين الفلسطينيين والدمار في غزة.
وصف أحد الصحفيين أن هناك "انقسامًا" داخل الشبكة بسبب التغطية التي قالوا إنها في بعض الأحيان "تذكرنا بالسياسة التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر". وأشاروا إلى “وجود صراع داخلي واعتراض، وأن ”بعض الأشخاص يتطلعون إلى الخروج".
وقال أحد الموظفين “يتصارع كبار الموظفين الذين لا يتفقون مع الوضع الحالي مع القادة التنفيذيين الذين يعطون الأوامر"، مسائلين ”كيف يمكننا سرد القصة بفعالية مع وجود توجيهات مقيدة بهذا الشكل".
كما نقلت الصحيفة البريطانية، عن موظفين أن بعض الصحفيين ذوي الخبرة في تغطية الصراع والمنطقة، تجنبوا القيام بمهام في إسرائيل لأنهم لا يعتقدون أنهم سيكونون أحرارًا في رواية القصة بأكملها.
وفي أواخر أكتوبر، مع ارتفاع عدد الضحايا الفلسطينيين بشكل حاد بسبب القصف الإسرائيلي، حيث قُتل أكثر من 2700 طفل وفقًا لوزارة الصحة في غزة، وبينما كانت إسرائيل تستعد لغزوها البري، وصلت مجموعة من الإرشادات إلى صناديق البريد الإلكتروني لموظفي الشبكة.
أشارت ملاحظة في أعلى المذكرة المكونة من صفحتين إلى تعليمات "من مارك" بالانتباه إلى فقرة معينة ضمن "إرشادات التغطية". وجاء في الفقرة أنه بينما ستنقل شبكة سي إن إن، العواقب الإنسانية للهجوم الإسرائيلي والسياق التاريخي للقصة، "يجب علينا أن نستمر دائمًا في تذكير جمهورنا بالسبب المباشر لهذا الصراع الحالي، وهو هجوم حماس والقتل الجماعي واختطاف المدنيين".
وقال موظفو سي إن إن للصحيفة، إن المذكرة عززت إطارًا للقصص التي تم فيها استخدام هجوم حماس، لتبرير التصرفات الإسرائيلية ضمنيًا، وأن السياق أو التاريخ الآخر غالبًا ما يكون غير مرحب به أو مهمشًا".
وجاء في المذكرة نفسها، أن أي إشارة إلى أرقام الضحايا من وزارة الصحة في غزة، يجب أن يرفق بإشارة إلى أن "حماس تسيطر عليها"، مما يعني أن التقارير عن وفاة آلاف الأطفال لا يمكن الاعتماد عليها، رغم أن منظمة الصحة العالمية والهيئات الدولية الأخرى قالت إنها دقيقة إلى حد كبير. وقال موظفو سي إن إن، إن هذا المرسوم وضعه طومبسون في اجتماع تحريري سابق.
يتم توجيه الإشراف على التغطية، من مقر الشبكة في أتلانتا من قبل "الثالوث" المكون من ثلاثة أقسام وهي، المعايير والممارسات الإخبارية، والتحقق القانوني وتدقيق الحقائق.
وأصدر ديفيد ليندسي، المدير الأول للمعايير والممارسات الإخبارية، توجيهًا في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني الفائت، يحظر فعليًا نشر معظم بيانات حماس، ووصفها بأنها "خطابات تحريضية ودعاية".
وأشار إلى إمكانية استخدام البيانات إذا كانت مصحوبة بسياق أكبر، مفضلًا أن تكون في شكل كتابة رقمية، مع الدعوة إلى تجنب تشغيلها كمقطع صوتي أو اقتباس مستقل. في المقابل، بثت الشبكة بشكل متكرر خطابًا تحريضيًا ودعاية من المسؤولين الإسرائيليين والمؤيدين الأميركيين.
واعترفت مصادر من شبكة "سي إن إن"، بعدم إجراء مقابلات مع أطراف من حماس منذ السابع من أكتوبر ، لكنها قالت إن الشبكة ليس لديها حظر على إجراء مثل هذه المقابلات.
سي إن إن والرقابة على المحتوى من خلال العين الثانية
تقول ذا غارديان، إنه إضافة إلى المراسيم الصادرة من أتلانتا، لدى "سي إن إن"، فإنّ هناك سياسة طويلة الأمد مفادها أن جميع المواد المتعلقة بالوضع الإسرائيلي الفلسطيني يجب أن تتم الموافقة على بثها أو نشرها من قبل مكتب القدس، مشيرة إلى أنّه في يوليو/تموز الفائت، أنشأت الشبكة برنامجًا أطلقت عليها اسم "SecondEyes"، "العين الثانية"، لتسريع تلك الموافقات.
وقال رئيس مكتب القدس، ريتشارد جرين، للموظفين في مذكرة أعلن فيها عن مشروع SecondEyes – الذي نشره موقع ذا إنترسبت لأول مرة – أنه نظرًا لأن تغطية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تخضع لتدقيق من كلا الجانبين، فقد تم إنشاء هذا البرنامج باعتباره "شبكة أمان حتى لا نستخدم لغة أو كلمات غير دقيقة قد تبدو محايدة ولكن يمكن أن يكون لها معاني مشفرة هنا".
لكن قال موظف في الشبكة لذا غارديان، إن الإجراء الذي كان يهدف في الأصل إلى الحفاظ على المعايير أصبح أداة للرقابة الذاتية لتجنب الجدل.
إحدى نتائج برنامج "SecondEyes"، هي أن التصريحات الرسمية الإسرائيلية غالبًا ما يتم بثها على الهواء على أساس مبدأ أنه يجب الوثوق بها في ظاهرها، في حين أن التصريحات والادعاءات الصادرة عن الفلسطينيين، وليس فقط حماس، يتم تأخيرها أو عدم الإبلاغ عنها مطلقًا.
ذكر تقرير ذا غارديان، أسماء مراسلين صحافيين نشروا ادّعاءات مضللة أو زائفة خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة، على غرار سارة سيدنر، التي واجهت انتقادات بسبب تقريرها حول مزاعم إسرائيلية لم يتم التحقق منها بأن حماس قطعت رؤوس عشرات الأطفال في السابع من أكتوبر.
وأشارت ذا غارديان، إلى موقف موظفين في الشبكة من ازدواجية المعايير التي وصفوها بـ"الـصارخة" ومخاوفهم على معايير التحرير ومن زعزعة ثقة الجمهور في المؤسسة.
وفسر بعضهم أسباب هذه الممارسة الصحفية المنحازة، بالأسباب التاريخية، حيث أشاروا إلى أنّ "جذور المشكلة تعود إلى سنوات من الضغوط التي مارستها الحكومة الإسرائيلية والجماعات المتحالفة معها في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى الخوف من فقدان الإعلانات".
وتستذكر ذا غارديان تصريح مؤسس شبكة سي إن إن، تيد تيرنر، الذي قال فيه إن "إسرائيل تمارس الإرهاب ضد الفلسطينيين". وأضاف تيرنر في حديث مع الصحيفة في عام 2002 "الفلسطينيون يقاتلون بمفجرين انتحاريين، هذا كل ما لديهم. الإسرائيليون... لديهم واحدة من أقوى الآلات العسكرية في العالم. الفلسطينيون ليس لديهم شيء. إذن من هم الإرهابيون؟
نتج عن هذه التصريحات، تهديدات لإيرادات الشبكة وانتقادات علنية. كما سافر مسؤول من سي إن إن إلى إسرائيل لتهدئة الوضع.
وسائل الإعلام التقليدية الغربية تفقد ثقة جمهورها؟
في فبراير 2023، نشرت صحيفة ذا نيويورك تايمز مقال رأي بعنوان كيفية تدمير (ما تبقى من) مصداقية وسائل الإعلام التقليدية.
يقول كاتبه بريت ستيفنز، "إذا كانت وسائل الإعلام الأميركية راغبة في استعادة الثقة، فبوسعنا أن ننزل عن حصاننا العالي وأن نكون أكثر وعيًا بأنفسنا بشأن دورنا المميز والمثير للقلق في كثير من الأحيان في المجتمع".
يقول ستيفنز، إنّ الصحافة فقدت قدرًا كبيرًا من ثقة الجمهور. واستشهد باستطلاع آراء لمؤسسة غالوب، حول الثقة في المؤسسات. وجاء فيه أنّ أنه حتى صيف العام الفائت (2023)، لم تتعدى نسبة الأميركيين الذين يمتلكون ثقة "كبيرة" أو "كبيرة جدًا" في الصحف، 16 في المئة، وهو انخفاض عن 25 في المئة قبل عقد و35 في المئة في عام 2002. أما بالنسبة لأخبار التلفزيون، كانت النتائج الأخيرة "أسوأ" إذ بين الاستطلاع أنّ 11 في المئة من الأميركيين يثقون فيها و53 في المئة لا يثقون فيها.
وأضاف بريت ستيفنز "نحن لسنا في مجال "الحقيقة"، على الأقل ليس من النوع الذي يبدأ بحرف "T" الكبير".
وانتقد كاتب ذا نيويورك تايمز، مقال رأي كتبه ليونارد داوني جونيور، المحرر التنفيذي السابق لصحيفة ذا واشنطن بوست، في يناير/كانون الثاني 2023، بعنوان "يمكن لغرف الأخبار التي تتجاوز الموضوعية أن تبني الثقة".
تناول مقال ذا بوست الجدل حول الموضوعية باعتبارها معيارًا لتحقيق الثقة، مشيرًا إلى بعض المراسلين والمحررين ونقاد وسائل الإعلام، الذين يصفون مفهومها الصحفي بأنه تشويه للواقع، وأنّه معيار تم فرضه على مدى عقود من قبل المحررين الذكور في غرف الأخبار التي يهيمن عليها البيض. يرى هؤلاء الناقدون، أن اتباع الموضوعية يمكن أن يؤدي إلى توازن زائف أو "تحيز" مضلل في تغطية القصص المتعلقة بالعرق، ومعاملة النساء، وحقوق المثليين، وعدم المساواة في الدخل، وتغير المناخ والعديد من المواضيع الأخرى.
في المقابل، برى بريت ستيفنز، أنّ حقيقة صعوبة تطبيق الموضوعية لا تؤدي إلى إبطالها كهدف مرغوب. واعتبر أنّ أحد أهداف الموضوعية في إعداد التقارير هو أنها يمكن أن تدفع وسائل الإعلام للاستماع إلى جميع أنواع الأشخاص دون إلقاء الشكوك الأخلاقية، مع السماح لهؤلاء الأشخاص برؤية وسماع أنفسهم ممثلين في وسائل الإعلام بطريقة لا تقلل من شأنهم أو تحط من قدرهم. وهذه طريقة جيدة أخرى لإعادة بناء الثقة، وفقه.
الإعلام الأميركي ليس الوحيد الذي وُجهت إليه انتقادات، إذ احتج المتابعون على تغطية مؤسسات إعلام غربية كبرى. في نشرية "لوموند ديبلوماتيك" لشهر فبراير، نشر الكاتب الصحفي الفرنسي سيرج حليمي، مقالًا وصف فيه الإعلام الفرنسي بأنّه خطر على المجتمع، مشيرًا إلى تغطيته للحرب على غزة.
وفق حليمي، منذ تاريخ السابع من أكتوبر الفائت، حرصت وسائل الإعلام الكبرى على توحيد المواقف السلطوية في فرنسا، موضحًا أنّ دعم هذا الإعلام اللامشروط لإسرائيل يترافق مع تشويهه لآراء المعارضة، والتشكيك في الحريات العامة، ومطاردته للمهاجرين. وتساءل حليمي "إلى أين ستصل هذه الحرب الأيديولوجية؟ ولخدمة من؟".
اقرأ/ي أيضًا
مراسلة سي إن إن تعتذر عن نقل مزاعم كاذبة بأن حماس قطعت رؤوس الأطفال
انتقائية شبكة سي إن إن في الحديث عن مجزرة جباليا ومساهمتها في نشر التضليل