منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كرّست إسرائيل حملةً إعلامية منسّقة، على لسان متحدثيها الحكوميين والعسكريين ووسائل الإعلام والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، لإعادة إحياء الرواية التي بدأت في حرب 2014 في غزة بشأن وجود كبار قادة حركة حماس ومقرات القيادة الرئيسية تحت مستشفى الشفاء في مدينة غزة.
انطوت عشرات الادعاءات تحت مظلة ذاك الادعاء، أشهرها كان عرض المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري مقطع فيديو رسومي، يظهر توزيع الأنفاق ومقرات قيادة حماس تحت المستشفى، ليتضح أنه فيديو منشور سابقًا على الإنترنت من قبل أحد المستخدمين قبل الحرب على غزة. وفيديو آخر بثّه الإعلام الإسرائيلي على أنه لممرضة في مستشفى الشفاء تناشد من فيه بالمغادرة للأسباب ذاتها، ليتضح لاحقًا أنها ممثلة إسرائيلية والمقطع مفبرك.
الغرض من تلك الادعاءات كان تبرير الحملة العسكرية التي شنها الجيش الإسرائيلي على القطاع الصحي في غزة، وعلى رأسه مجمع الشفاء، المجمع الطبي الأكبر في القطاع، ففي الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني، استهدفت غارة جوية إسرائيلية قافلة سيارات الإسعاف التي كانت تغادر المستشفى، فأسفرت الهجمة عن وفاة 15 شخصًا وإصابة 60 آخرين. زعمت إسرائيل حينها أن حماس كانت تستخدم سيارات الإسعاف، وهو الأمر الذي نفته صحيفة ذا واشنطن بوست. كما أكدت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني أن إسرائيل قد استهدفت سيارات الإسعاف التابعة للمستشفى سبع مرات سابقة وأودت بحياة أربعة من موظفيها.
وبعد عدد من الضربات التي تلقاها المستشفى أسفرت عن سقوط العشرات، فقدت منظمة الصحة العالمية الاتصال مع المستشفى في 12 نوفمبر، وقال مدير المستشفى إنّ الرضع الخدج كانوا في وضع حرج ونُقلوا إلى مكان غير صحي، في ظل انقطاع الكهرباء تمامًا في المستشفى.
وفي 16 نوفمبر قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو "اعتقدنا بوجود أسرى في مستشفى الشفاء ولكن لم نعثر على أحد". وفي 18 نوفمبر خرج مئات الأشخاص، سيرًا من مستشفى الشفاء بأمر من الجيش الإسرائيلي، وفي 23 نوفمبر اعتقلت قوة من الجيش الإسرائيلي مدير مجمع الشفاء الطبي محمد أبو سلمية، الذي أفادت تقارير بأنه يتعرض لأنواع مختلفة التعذيب.
الإعلام الغربي يتبنى رواية إسرائيل عن مستشفى الشفاء
طوال تلك المدة، تلقّفت وسائل الإعلام الغربية تلك الادعاءات الصادرة عن الجيش الإسرائيلي دون أدلة وتبنّتها على أنها حقائق. على سبيل المثال، نشرت صحيفة ذا نيويورك تايمز مطلع هذا العام تقريرًا بعنوان "الاستخبارات الأميركية تقول إن حماس استخدمت مستشفى غزة كمقر قيادة"، وأوردت فيه أن وكالات التجسس الأميركية قالت إن حماس وجماعة فلسطينية أخرى تقاتل إسرائيل استخدمت مستشفى الشفاء في غزة لقيادة القوات واحتجاز بعض الرهائن، وفقًا لمعلومات استخباراتية أميركية جديدة رفعت عنها السرية. كما نقلت عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن حماس قامت ببناء مجمع واسع تحت المستشفى، مما جعله "هدفًا عسكريًا مشروعًا"، كما نشرت عشرات الأخبار والتقارير الأخرى التي تكرر الرواية الإسرائيلية حول المستشفى منذ أكتوبر.
أما شبكة سي إن إن، فقد نشرت في نوفمبر تقريرًا لدعم تلك الادعاءات نفسها، قالت فيه، نقلًا عن مسؤول أميركي على دراية بالاستخبارات الأميركية إن حماس لديها عقدة قيادة تحت مستشفى الشفاء، وتستخدم الوقود المخصص له، كما يتجمع مقاتلوها بانتظام في أكبر مستشفى في غزة وحوله.
وجاءت تلك التصريحات بعد أخرى أدلى بها مسؤول كبير في البيت الأبيض، مفادها أن حماس تستخدم المستشفيات والمرافق المدنية. ونشرت الشبكة قبل ذلك وبعده تصريحات دانييل هاغاري عن المجمع الطبي، وأعادت نشر المقاطع التي شاركها في المؤتمرات الصحفية.
من جانبها، نشرت صحيفة ذا تيليغراف البريطانية، في منتصف نوفمبر الفائت، خبرًا بعنوان "إسرائيل تلاحق مركز قيادة حماس في غارة على مستشفى الشفاء في غزة"، وفيه قالت إنه تم العثور على صناديق أسلحة وسترات واقية من الرصاص مخبأة خلف ماسح التصوير بالرنين المغناطيسي، أثناء المهمة التي شارك فيها أكثر من 100 من قوات الكوماندوز بهدف السيطرة على المستشفى، الذي "تقول إسرائيل إنه يستضيف مركز قيادة تحت الأرض لحماس".
ونشرت بجانب ذلك ما يزيد عن ستة تقارير رددت فيها تلك الرواية ورواية أن الرهائن الإسرائيليين كانوا محتجزين هناك، بالإضافة لمقال رأي كتبه الكاتب ريتشارد كيمب عنوانه "كثيرون يريدون تصديق أكاذيب مستشفى حماس"، انتقد فيه رفض بعض الغربيين الإقرار بصحة ادعاءات الجيش الإسرائيلي حول المستشفى "على الرغم من كل الأدلة" بحسب وصفه.
دحض الادعاء بالأدلة البصرية والميدانية
لم تكن تلك الوسائل الإعلامية الوحيدة التي كررت الرواية الإسرائيلية حول مستشفى الشفاء، إذ رددت عشرات الوسائل الغربية الأخرى ادعاء وجود مقر قيادات حماس تحت المستشفى دون تشكيك أو مساءلة. لكن عددًا قليلًا من تلك الوسائل أعاد التشكيك بتلك الادعاءات، ومن ثم دحضها مع دخول الجيش الإسرائيلي المجمع الطبي وسيطرته عليه.
على سبيل المثال، نشرت خدمة التحقق من الأخبار لدى هيئة الإذاعة البربطانية "بي بي سي فيريفاي" في نهاية نوفمبر، تحليلًا يدحض الادعاءات الإسرائيلية ضد مستشفى الشفاء بعد أن داهمته قوات الاحتلال بثلاثة أيام، وخلصت إلى أن إسرائيل "إما تفتقر إلى الأدلة أو أنها لا تشاركها". وتعرضت بي بي سي على إثر ذلك التحليل لحملة انتقادات من قبل منظمة "كاميرا" لمراقبة الإعلام، وهي منظمة إسرائيلية تسعى لترسيخ المنظور الإسرائيلي للأحداث في وسائل الإعلام الغربية كشفها مسبار تفاصيلها سابقًا.
في 21 ديسمبر/كانون الأول 2023، نشرت صحيفة واشنطن بوست تحقيقًا بعنوان "حالة الشفاء: تحقيق بشأن العدوان على أكبر مستشفيات غزة"، وفيه خلصت الصحيفة الأميركية إلى ثلاثة نقاط رئيسية: الأولى هي أن الغرف المتصلة بشبكة الأنفاق التي اكتشفها جنود الجيش الإسرائيلي لم تحمل أي دليل مباشر على الاستخدام العسكري من قبل حماس. والثانية أنه لا يبدو أن أيًا من مباني المستشفيات الخمسة التي حددها دانييل هاغاري متصلة بشبكة الأنفاق. وأخيرًا أنه لا يوجد دليل على أنه يمكن الوصول إلى الأنفاق من داخل أجنحة المستشفى. وهو ما عرّض الصحيفة لحملة أخرى أيضًا من قبل "كاميرا" التي نشرت مقالًا يعلق على التحقيق بعنوان "واشنطن بوست تمنح تصريحًا للمؤسسات المعادية للسامية".
لكن مع سيطرة الجيش الإسرائيلي على مجمع الشفاء واقتحامه مرات عدة، أفسح المجال أمام الصحفيين من وسائل الإعلام الغربية بمرافقته إلى مرافق المستشفى والنفق الذي اكتشفه بداخله، وبالفعل، نشرت سي إن إن تقريرًا عن ما وجده مراسلوها في زيارتهم، وجاء فيه "لا يثبت ما وجدناه أن هناك مركز قيادة تحت أكبر مستشفى في غزة، لكن من الواضح أن هناك نفقًا في الأسفل".
عدم اعتذار وسائل الإعلام أو تصحيح موادها
مع تراكم تلك الأدلة على ضعف الادعاء الإسرائيلي بشأن وجود مقرات قيادة حماس تحت مستشفى الشفاء، بجانب عدم تمكن الجيش الإسرائيلي من إلقاء القبض على كبار مطلوبيه من حماس حتى الآن، وانحسار تكرار الجيش الإسرائيلي لذاك الادعاء مع استمرار الاشتباكات حتى الآن في محيط المستشفى، راجع مسبار ما نُشر في الصحافة والإعلام الغربيين عن الادعاءات الإسرائيلية حول المستشفى.
وجد مسبار أن جميع الأخبار والتقارير التي روّجت خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب للرواية الإسرائيلية، القائلة بأن قيادات حماس ومراكز قيادتهم تتمركز تحت مستشفى الشفاء، ما زالت كما هي حين نُشرت دون تغيير، مع ملاحظة غياب أي تصحيح أو اعتذار عن المعلومات الخاطئة التي وردت فيها، وهي ممارسة صحفية احترافية متوقعة من المؤسسات الإعلامية، ولم تحذفها حتى دون ملاحظة، كما فعلت صحيفة ذا غارديان على سبيل المثال مع رسالة أسامة بن لادن في أعقاب هجمات أيلول 2001.
وعادة ما يكون لدى الصحف سياسات محددة للقراء للإبلاغ عن الأخطاء. وبشكلٍ عام، يتطلب هذا من القارئ الاتصال بالمحرر، للإشارة إلى الخطأ وتقديم المعلومات الصحيحة، وهو ما حدث بالفعل مع المؤسسات الإعلامية التي نقلت ادعاءات مضللة وتمت مواجهتها بالحقائق. وفي بعض الأحيان، يُطلب من المحرر أو المراسل المتأثر نشر ملاحظة أو بيان صحفي لتحديد كيفية ارتكاب الخطأ وسببه، وهو ما لم يحدث مع أي من المؤسسات المذكورة بشأن ادعاءاتها حول مستشفى الشفاء.
في الصحف المطبوعة، غالبًا ما يظهر إشعار التصحيح في عمود خاص به في إصدار لاحق. أما في وسائل الإعلام الإخبارية عبر الإنترنت، يمكن إضافة ما يُعرف باسم "خط المهملات" إلى أعلى المقالة المُصححّة. ووفقًا لكتيب رويترز للصحافة، “يجب أن يوضح خط المهملات بالضبط سبب سحب القصة أو تصحيحها أو إعادة نشرها أو تكرارها. كما يجب أن تتضمن جميع خطوط المهملات الخاصة بالإعادة والتصحيحات كلمة ”تصحيح". إلا أن هذه الممارسات غابت عن الوسائل التي روّجت لتلك الادعاءات، وتُركت المواد المضللة حاضرةً في أرشيفها.
اقرأ/ي أيضًا
وسائل إعلام غربية تتجاهل تقريرًا أمميًّا حول العنف الجنسي الذي يمارسه جنود الاحتلال ضد الفلسطينيات
الصورة من مقابلة سي بي أس مع عناصر من حماس في الضفة وليست في غزة