هناك حجج قوية لصالح عدم السماح بالكشف عن هُوِيَّة الأشخاص عبر الإنترنت، إذ يضطر العديد من المستخدمين لإخفاء هُوّتهم لا سيما إذا كانوا صحفيين أو شهود سريّين أو ناشطين يكشفون عن الفساد. وبالنسبة للعديد من المجموعات المهمشة، يُوفّر إخفاء الهُويَّة عبر الإنترنت منفذًا بالغ الأهمية. يمكّن الأشخاص المعزولين في حياتهم اليومية من العثور على الدعم في مساحات مجهولة على الإنترنت، ومع ذلك فإن المعلومات المضللة، وخطاب الكراهية، والهجمات الإلكترونية غالبيتها تصدر من حسابات وهمية، الأمر الذي يجعل من الصعب تحميل المسؤولية لهؤلاء الأشخاص بما يقولونه ويفعلونه عبر الإنترنت.
باختصار يُعرف إخفاء الهُويَّة على الإنترنت بكونه: حجب معلومات التعريف الشخصية، مثل الاسم الحقيقي والعمر والموقع، إذ تكون هوية الفرد غير معروفة للآخرين وقد تُخْفى الهُويَّة كليًا، أو جزئيًا، وتشمل الأساليب التقنية والمتقدمة من إخفاء الهُويَّة حجب معلومات عنوان بروتوكول الإنترنت (IP)، واستخدام البرامج والمتصفحات والمنصات المشفرة أو اللامركزية.
في حالات معيّنة تُعد مجهولية الهُويَّة (Anonymity) حجر الزاوية في حرية التعبير والأمان الشخصي، ولكن لإخفاء الهُويَّة إغراء يدفع الكثيرين لاستخدامه في نشر سَيْل من المعلومات المضللة والمؤذية للأشخاص، إذ وجدت دراسة أُجْرِيَت في العام 2023 أن ثلاثة أرباع من يتعرضون للإساءة عبر الإنترنت قالوا إنها جاءت من حسابات مجهولة.
الجانب المظلم لمجهولية الهُويَّة عبر الإنترنت
هنالك الكثير من الأمثلة عن كيفية إساءة استخدام مجهولية الهُويَّة في نشر المعلومات المضللة، وقد يظهر ذلك بشكلٍ واضح في حالات مثل التنمر الإلكتروني وانتشار الأخبار الزائفة والأنشطة غير القانونية. فالمجهولية تعمل كغطاء لأولئك الذين يشاركون في سلوكيات ضارة عبر الإنترنت، مما يسمح لهم باستهداف الآخرين أو الجمهور، دون مواجهة عواقب أفعالهم.
في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016، أثارت الأنباء حول التدخل الروسي في العملية الانتخابية جدلًا واسعًا. إذ أشارت التقارير إلى أن وكالة الاستخبارات الروسية نفّذت حملة تأثير رقمية متعددة الأوجه، تضمنت استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر معلومات مضللة بهدف تشويه سمعة المرشحين وزعزعة الثقة في نظام الانتخابات الأميركي. وقد أشارت التحقيقات إلى وجود شبكات من الحسابات الوهمية مجهولة الهُويَّة نشرت محتوىً مضلل ويحتوي على إثارة.
انتحال الشخصية كأسلوب لإخفاء الهُويَّة
مع تطور تقنيات إخفاء الهُويَّة أصبحت مسألة انتحال الشخصية أمرًا شائعًا، فهي أسلوب متقدم يمنح الموثوقية للجمهور بدلًا من زرع الشك وعدم اليقين في حالة إخفاء الهُويَّة التام. وبالطبع سَهّل الذكاء الاصطناعي عمليات انتحال الشخصية بأنواعها المختلفة، سواء كانت عمليات انتحال لشخصيات موجودة على أرض الواقع أو لشخصيات مُخْتَلَقَة.
هنالك جدلٌ واسع حول الكيفية التي يجب أن تقيّم بها الحسابات ومتى تكون مجهولية الهُويَّة أمرًا مشروعًا. وفي توضيح ذلك سنأخذ مثالين استُخدمت فيهما مجهولية الهوية لأهداف مختلفة. في النصف الثاني من عام 2022 أثارت قصة الحساب الوهمي لـ "زينة صفتلي" ضجة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تبيّن أن الحساب الذي زُعِم أنه لطبيبة أسنان تقيم في إسطنبول وتَنْشَط في فعاليات الثورة السورية هو حساب وهمي استخدمت فيه معلومات شخصية وصور غير صحيحة، ولكنه بدا كحساب حقيقي تمامًا، استُخدم الحساب للتواصل مع عدد كبير من الناشطين السوريين خلال عامين كاملين، واستطاعت زينة من خلاله خِدَاع العديد من الأشخاص البارزين في الفضاء السياسي، وسرقة معلوماتهم الشخصية، ريثما كُشِف عن الحساب بكونه يعمل لجمع المعلومات واختراق الناشطين.
وفي 27 إبريل/نيسان 2022، نشرت صحيفة ذا غارديان البريطانية تحقيقًا مطولًا شاركت فيه الناشطة والباحثة أنصار شحود، التي انتحلت شخصية وهمية على فيسبوك لمدة عامين، مِمَّا مكنها من التواصل مع 200 من مسؤولي النظام السوري. ومن خلال شخصيتها المستعارة، استطاعت شحود الكشف عن هوية الشخص الذي نفذ مذبحة التضامن التي وقعت في العاصمة السوريّة دمشق في 16 إبريل 2013. هذان المثالان يمكن تطبيقهما على الحالة المعقدة والجدل العالمي حول مشروعية مجهولية الهوية، فالبعض يرى أنها أسلوب مفيد يجب الإبقاء عليه لتحقيق تغييرات إيجابية وضمان المصلحة العامة والبعض يرفض هذا الطرح كليًّا.
من ناحية أخرى يمكن أن يؤدي عدم الكشف عن الهُويَّة إلى تقويض الثقة وبناء العلاقات عبر الإنترنت. إذ أشارت الأبحاث إلى أنه من الصعب لكثير من الناس تقييم نيات الأشخاص الحقيقية عندما لا يُعرّفون عن هوياتهم، خاصة مع تقدم تقنيات التزييف العميق التي يمكن استخدامها لإنتاج مقاطع صوتية أو مقاطع فيديو مزوّرة، لأشخاص تبدو وكأنها حقيقية. هذه المسائل أفرزت مشكلات عديدة مرتبطة بالمعلومات المضللة ولعل أبرزها شيوع نظريات المؤامرة التي تتهم شخصيات محددة على الإنترنت بأنها غير حقيقية، وتستخدم التزييف العميق لصنع شخصية مزوّرة بالكامل.
كيف تُعالج مشكلة مجهولية الهُويَّة؟
في 10 يناير/كانون الثاني الفائت، أصدر منتدى الاقتصاد العالمي (منتدى دافوس) تقريرًا عن المخاطر العالمية التي قد يواجهها العالم خلال العقد المُقبل. وفي نتائج الاستطلاع الصادر عن المنتدى، أدرجت المعلومات المضللة في المركز الأول في لائحة المخاطر العالمية على المدى القصير، وكانت الحسابات الوهمية جزءًا رئيسيًّا في انتشار هذه المعلومات المضللة.
ومع كون مجهولية الهُويَّة مصدر رئيس للمعلومات المضللة أصبح التحدي ملحًّا، فهل ينبغي للأشخاص أن يكونوا قادرين على التفاعل عبر الإنترنت بشكل مجهول أم يجب أن تكون هناك آليات لتحديد هوية جميع المستخدمين؟
هنالك دعوات مكثفة في الفترة الحالية لوضع حد للحسابات المجهولة وإجبار الشركات التقنية على تحمل واجب إزالة الحسابات المجهولة، وتحاول الشركات استخدام مجموعة من الآليات للتحقق من هوية أصحاب الحسابات، فأخذت عدة منصات تطلب من المستخدمين تقديم عنوان بريد الكتروني ورقم هاتف والاسم الحقيقي. وفي بعض الأحيان قد تفرض منصات التواصل عمليات تحقق أكثر صرامة مثل تقديم صورة للهوية الشخصية وجواز السفر. ولكن يبرز تحدٍ جديد أمام فرض سياسات التعريف بالهُويَّة التي تتعرض لانتقادات شديدة باعتبارها أمرًا غير قانوني في بعض البلدان، أو أنها قد تشكل انتهاكًا للخصوصية.
كما أن برامج الحكومات التي تحاول أن تفرض قيودًا على المستخدمين الذين لا يكشفون عن هوياتهم لم تحل المشكلة، وواجهت انتقادات حقوقية لاذعة، إذ يقدم نظام الائتمان الاجتماعي في الصين مثالًا مثيرًا للقلق حول كيفية توسيع نطاق مراقبة الدولة في مكافحة الحسابات الوهمية لتشمل مساحات الإنترنت لقمع المعارضة. في المملكة المتحدة أيضًا صدر مشروع قانون يعطي المزيد من الصلاحيات لـ Ofcom (منظم الاتصالات في المملكة المتحدة) لتنظيم مواقع التواصل الاجتماعي وإجبار الشركات على تحمل واجب الرقابة تجاه مستخدميها، وبموجب هذا القانون ستكون شركات التكنولوجيا مسؤولة عن إزالة المحتوى الضّار، وفرض أساليب تعريفية للتحقق من هويات المستخدمين.
إيجاد التوازن لايزال أمرًا حيويًّا
يتطلب التعامل مع الحالة المعقدة محاولات مستمرة لإيجاد التوازن المثالي بين الخصوصية والحرية وبين التخفيف من المعلومات المضللة. ففي حال كان الإنترنت مجرد مجال مجهول مليء بالحسابات الوهمية، فإنه سيصبح بيئة ملائمة للاستغلال ونشر المعلومات المضللة، وفي حالة فرض أنظمة للتعريف عن الأشخاص فإن ذلك قد يُعرّض الفئات المهمشة للخطر ويهدد الحرية في التعبير.
تتطلع الآمال نحو التطور التقني الذي يمكن أن يوفر تقنيات جديدة للتحقق تساعد الشركات والمنصات الرقمية في رصد السلوك الضَّار والمعلومات المضللة، وتعقب الحسابات الخطرة مع الحفاظ على الخصوصية قدر الإمكان، وقد بدأت هذه التقنيات تتطور بالفعل، ولكنها لا زالت غير مُعمّمة ومنها:
1. التحقق من الهُويَّة بدون كشف البيانات الشخصية
التحقق الصفري من المعرفة Zero-Knowledge Proofs (ZKPs): أو بروتوكول المعرفة الصفرية، هو طريقة مشفرة يمكن من خلالها لطرف واحد (المثبت) أن يثبت لطرف آخر (المدقق أو مزود الخدمة) أن معلوماته صحيحة وغير ضارّة، مع تجنب نقل أي معلومات إلى المدقق خارج نطاق المعرفة. يسمح هذا الأسلوب للمستخدمين بإثبات أنهم يمتلكون معلومات حقيقية دون الكشف عن المعلومات نفسها.
2. استخدام البيانات الوصفية والأنماط السلوكية
تتطور عمليات تحليل أنماط الكتابة والتصفح القائمة على تعلم الآلة والذكاء الاصطناعي باستمرار، لتصبح قادرة على استخدام خوارزميات التعلم الآلي لتحليل أنماط الكتابة والتصفح الخاصة بالمستخدمين وتحديد الحسابات الوهمية بناءً على سمات محددة في السلوك.
تحليل البيانات الوصفية: هنالك زيادة في استخدام المعايير الأقل انتهاكًا للخصوصية مثل البيانات الوصفية كعنوان بروتوكول الإنترنت (IP)، أو نوع الجهاز أو الموقع الجغرافي، لتحديد الأنماط المشبوهة التي قد تشير إلى حسابات وهمية.
3. الاعتماد على مجتمع المستخدمين
مازال نظام التصويت والتبليغ يتطور باستمرار، وبالرغم من كونه أداة جيدة تمكن المستخدمين من الإبلاغ عن الحسابات المشبوهة، إلا أنه كثيًرا ما يساء استخدامه من قبل مجموعات كبيرة من المستخدمين.
الاعتماد على سمعة المستخدم: يحاول الباحثون باستمرار في تقنيات تعلم الآلة تدريب الذكاء الاصطناعي على نظام السمعة، للتقييم الآلي لصدقية المستخدمين ذلك بناءً على تفاعلاتهم وتقييماتهم من قبل المستخدمين الآخرين.
اقرأ/ي أيضًا
شبكة حسابات تعمل بالذكاء الاصطناعي تروّج للرواية الإسرائيلية خلال الحرب على غزة
كيف تؤثر خاصية تقييد المحتوى السياسي في انستغرام على توجهات الرأي العام؟