` `

بروباغندا الخطاب الإسرائيلي وأساليب تبرير الجرائم خلال الحرب على غزة

محمود حسن محمود حسن
أخبار
11 يونيو 2024
بروباغندا الخطاب الإسرائيلي وأساليب تبرير الجرائم خلال الحرب على غزة
يتضمن خطاب المسؤولين الإسرائيليين مغالطات منطقية عدة لتبرير مقتل مدنيين (Getty)

منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، انخرط مسؤولون إسرائيليون ومؤثرون على وسائل التواصل الاجتماعي، في حملة لتبرير العنف الإسرائيلي بوسائل مختلفة، منها مقارنة هذا العنف بفظائع تاريخية أخرى واستخدام مغالطات منطقية مضللة للرأي العام

في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وفي ردّه على أسئلة الصحفيين، برّر بنيامين نتنياهو مقتل المدنيين في قطاع غزة بالإشارة للمرة الثانية إلى غارة جوية بريطانية وقعت قبل نحو 80 عامًا وأسفرت عن مقتل أطفال. في تلك الغارة، قصفت القوات الجوية الملكية البريطانية مقرًا للغستابو (الشرطة السّرية الألمانية) في كوبنهاغن عام 1944 عن طريق الخطأ، استهدفت مستشفى للأطفال بدلًا من المقر المطلوب. علّق نتنياهو على تلك الحادثة قائلًا "هذه ليست جريمة حرب، ولا يمكننا لوم بريطانيا على فعل ذلك، كان ذلك عملًا حربيًّا مشروعًا تلاه عواقب مأساوية ترافق مثل هذه الأعمال المشروعة".

لكن هذا الأسلوب وغيره في تبرير العنف الإسرائيلي، قد يؤدي إلى تحويل الانتباه عن القضية الأساسية إلى حوادث تاريخية أخرى بعد عزلها عن السياق، وقد ينجح في توفير غطاء أخلاقي للحرب الإسرائيلية بتكتيكات لفظية ومغالطات منطقية عديدة تقدم للجمهور.

انتبه للسمكة الحمراء

كثّفت الصفحات الإسرائيلية من أسلوب حرف النظر عما يجري في قطاع غزة من خلال الإشارة إلى مجموعة من الأحداث المأساوية التي تدور في المنطقة، كالحرب في السودان واليمن وغيرها، باستخدام تكتيك "الرنجة الحمراء".

الرنجة الحمراء (Red Herring) هي مغالطة منطقية تتمثل بعرض معلومات قد تكون حقيقية أو جاذبة، لتشتيت انتباه الطرف الآخر عن المسألة الأصلية. في بعض الأحيان تكون الرنجة الحمراء أداة توجيه الجمهور إلى نتيجة زائفة. وتعدّ مغالطة الرنجة الحمراء أداة إلهاء وتزييف للحقائق، إذ إن عدم وجود اهتمام إعلامي للفظائع التي تحدث في بلدٍ ما، لا يجب أن يُستخدم كحجة لتقليل الاهتمام بما يجري من فظائع في مكان آخر، وخاصة عند عزل كل حدث عن السياق وظرفية الحدث، وهو ما يجري فعليًّا في خطاب الساسة الإسرائيليين لخدمة غرض التأثير على الرأي العام. 

عوضًا عن ذلك فقد يحجب هذا النوع من التضليل الحقائق المتعددة المتاحة حول الموضوع، فعلى سبيل المثال ليست كل وسائل الاعلام تغطي ما يجري في غزة كما هو الحال في بعض وسائل الإعلام الغربية. من ناحية أخرى يؤدي هذا النوع من التضليل لدورة مستمرة من التطبيع مع العنف، وهو ما يمكن ملاحظته تاريخيًّا عندما استخدمت مغالطة "الرنجة الحمراء" في تبرير العنف في سوريا، إذ وُجّهت اتهامات للنظام السوري بارتكاب جرائم ضد الإنسانية خلال الحرب، وكان ردّ النظام أحيانًا بتوجيه الانتباه إلى الحروب في العراق وأفغانستان، أو إلى المجازر التي ارتكبها تنظيم داعش، بهدف الإفلات من العقاب وتخفيف حدة الانتقادات ضد النظام السوري. كذلك حين استخدمت الصين الحجة نفسها في مواجهة الانتقادات الغربية بشأن قمع الاحتجاجات في هونغ كونغ. 

نتيجة ذلك يُعدّ هذا التكتيك مضللًا بشكلٍ جذاب لأنه يشتت الانتباه عن القضية الأساسية بتركيز النقاش على قضايا أخرى لا تقل أهمية أحيانًا عنها، وبذلك يكون لهذا النوع من التضليل أرضية يستند عليها، مما يصب في مصلحة إغفال الاهتمام بحدث مأساوي أو حرب مدمرة وتجنب المساءلة، مما يشوّه الحقائق، ويخلق انطباعًا زائفًا بأن الأفعال الحالية أقل خطورة بالمقارنة مع فظائع أخرى. عدا عن كونه يخلق مناخًا من النسبية الأخلاقية والتبريرات المستمرة لتغدو كل الأفعال العنيفة مُباحة.

مغالطة الرنجة الحمراء عبر تشتيت انتباه الجمهور
المقارنة بصراعات أخرى لتشتيت الانتباه

ماذا عن؟

كثّف المسؤولون الإسرائيليون مؤخرًا استخدام تكتيك ماذا عن "Whataboutism"، لتحويل انتباه الناس عن الانتقادات الموجهة لإسرائيل، وذلك عبر إشارتهم إعلاميًّا إلى سلوك وأخطاء مؤيدي القضية الفلسطينية. يقوم الأسلوب على عكس الانتقاد الموّجه، عبر تسليط الضوء على انتقاد آخر في الخصم غير مرتبط بجوهر الموضوع، ليصوّر الخصم كطرف مماثل أو أسوأ.

في سياق التحرك القضائي الذي قادته جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام المحكمة الدولية، استخدمت الصفحات الإسرائيلية هذا التكتيك لتحويل الانتباه عن القضية الرئيسية. ففي أعقاب رفعها الدعوى ضد إسرائيل، انتقد رئيس الوزراء نتنياهو جنوب أفريقيا، مشيرًا إلى عدم اكتراثها بالأزمات الإنسانية في سوريا واليمن. ومهما كانت حقيقة سلوك جنوب أفريقيا وموقفها مما يجري في سوريا واليمن، فإن استخدام التكتيك المذكور يهدف إلى تضليل الجمهور بشأن القضية الرئيسية وتجاهل النقاش الأساسي، وجعله موجهًا نحو شخصية المدعي وتاريخ أفعاله وليس ما يقدمه من أدلة، مما يعفي من تقديم حجة مضادة ومتعلقة بالاتهام الأصلي، وهو ما يعد جانبًا من التضليل. فعدم اهتمام جنوب أفريقيا فيما جرى في بلدان أخرى لا يغيّر من حقيقة ما يجري فعليًّا في غزة.

استُخدم تكتيك "ماذا عن" مرات عديدة تاريخيًّا فأثناء الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تستخدمان هذا التكتيك لتبرير أفعالهما. فإذا انتقد الغرب انتهاكات حقوق الإنسان في الاتحاد السوفييتي، كانت الدعاية السوفيتية ترد بالإشارة إلى العنصرية والانتهاكات في الولايات المتحدة، والعكس صحيح.

المعادلة الكاذبة

هي مغالطة منطقية تعتمد على فرضية تحدّ بشكل خاطئ من الخيارات المتاحة، إذ تقدم خيارين فقط وكأنهما الحلّان الوحيدان، عندما يوجد في الواقع خيارات أخرى. استخدم السياسيون الإسرائيليون هذه المغالطة لتبرير القتل من خلال صنع صورة "الموقف المعقد". 

على سبيل المثال، كرر الإعلام والمسؤولون الاسرائيليون ادعاءاتهم بأن إسرائيل تخوض حرب وجودية ضد العدو لمواجهة خطر الفناء، كما كرر المسؤولون الإسرائيليون المزاعم بأن ضحايا  المدنيين في غزة هم أمر لا يمكن تجنبه. وبذلك قدموا العنف كخيار حصري وضروري لحماية "الأمة"، وهكذا تعمل هذه المعادلة المضللة على تضييق الخيارات وخلق شعور بالخوف وبحالة الطوارئ لدى الرأي العام، كالقول "إذا لم نهاجم الآن، سيهاجموننا لاحقًا ويقتلوننا".

كذلك، قد يتم تجريد الطرف الآخر من الإنسانية لتبرير وتبسيط أعمال العنف، وهذا ما يمكن ملاحظاته من التصريحات الإسرائيلية الكثيرة حول الفلسطينيين، كتلك التي ذكرها وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بقوله "من نقاتلهم حيوانات بشرية" وقول نتنياهو "الحرب هي بين أبناء النور وأبناء الظلام".

يمكن تجنب الوقوع في مغالطة الاختيار الزائف بالتفكير في نقطتين: هل الخيارات المطروحة هي حقًا الخيارات الوحيدة المتاحة؟ إنّ قدرتنا على تجنب هذا النوع من التضليل يُعرف بـ "الهروب بين قرني المعادلة الكاذبة" مما يتيح اتخاذ قرارات أكثر دقة وشمولية، ويجعلنا أقل عرضة للتضليل.

تَبسيط مُخِلٌ

استحضار التاريخ لتبرير العنف الذي ترتكبه إسرائيل في حربها الأخيرة يمكن أن يكون خطيرًا، إذ قد يجعل العنف مقبولًا لدى الناس، كما أنه غالبًا ما يحتوي على جوانب مضللة وتبسيطات مخلّة تتطلب فحصًا دقيقًا من قبل المتلقي لفهم التبعات الكاملة للأحداث. في الخطاب الإسرائيلي، يسعى المسؤولون إلى تضليل الجمهور وتجاهل الانتقادات الموجهة إليهم. فنتنياهو وساسة إسرائيليون آخرون رفضوا مرارًا دعوات وقف إطلاق النار، مشيرين إلى أمثلة تاريخية مثل عدم موافقة الولايات المتحدة على وقف إطلاق النار بعد قصف بيرل هاربور في عام 1941، واستخدام القنابل النووية، وكذلك حروب الولايات المتحدة بعد هجمات 2001.

نادرًا ما يناقش المسؤولون الإسرائيليون أمام الجمهور التبعات الكاملة للمآسي التاريخية التي يستشهدون بها لتبرير العنف، مما قد يجعل الجمهور يعتقد أن قصف المناطق المأهولة بالمدنيين هو أمر عادي ومألوف. إلا أن الحرب العالمية الثانية والحرب الأميركية على العراق تسببت في تبعات مأساوية مستمرة حتى اليوم، وهذه الجوانب هي جزء هام في فهم الصورة الكاملة وعدم الوقوع في فخ التضليل.

ذكرت صحيفة ذا واشنطن بوست في مقالٍ لها أن هناك جدلًا حتى اليوم حول الضرورة العسكرية للغارة الجوية البريطانية على موقع الغيستابو في كوبنهاغن نظرًا للتكلفة البشرية الثقيلة. فقد عارض الجيش البريطاني في البداية ضرب الموقع السّري للشرطة الألمانية لأنه كان في منطقة مليئة بالمدنيين. عندما استشهد نتنياهو بهذه الحادثة لتبرير القصف الإسرائيلي، أغفل التعقيدات الحقيقية وراء الحادثة. ففي الغارة البريطانية قُتل ما لا يقل عن 87 طفلًا و19 بالغًا، ولم يُنسَ هذا الحدث المأساوي. في عام 2011، خُلدت ذكرى الحدث في فيلم يحمل عنوان "القصف"، مما أثار جدلًا كبيرًا وذكريات مؤلمة. وخلّف الحادث غضبًا عارمًا وأضرارًا استمرت لسنوات، ولم تُحَلّ قضايا التعويض الخاصة بالعائلات المتضررة بشكل تام حتى عام 1960.

ختامًا إن إسرائيل تفتخر بكونها دولة ديمقراطية وتمتلك جيشًا هو "الأكثر أخلاقية في العالم" بحسب زعمها، ومن ينتقد جرائمها إنما يحكم عليها بمعايير العصر الحالي التي تطبّق على سلوك بريطانيا أو فرنسا أو الولايات المتحدة، وهي المعايير نفسها التي تدعي إسرائيل أنها تملكها.

اقرأ/ي أيضًا

تقرير: إسرائيل تشن حملة تأثير على وسائل التواصل للضغط على صنّاع السياسة في أميركا الشمالية

إسرائيل تستغل أنّ بوستر "كل العيون على رفح" مولد بالذكاء الاصطناعي لتشكك بمأساة الفلسطينيين

اقرأ أيضاً

الأكثر قراءة