تزامنًا مع اجتياح الجيش الإسرائيلي لشمالي قطاع غزة في عملية عسكرية مركبة، روّجت إسرائيل عبر حساباتها وقنواتها الرسمية سلسلة من الادعاءات المضللة، أبرزها الزعم بأن جيشها تمكن من كسر حصار فرضته حماس على سكان جباليا، وأن عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين تمكنوا من الانتقال من المنطقة بشكل آمن عبر مسارات حددها بشكل منظم.
كما ادعى الاحتلال في إعلانه الذي روجه بلغات مختلفة مثل الإنجليزية والعبرية والعربية، أن جيشه تمكن من كسر الحصار رغم محاولات حماس منع المدنيين من المغادرة، وأن قواته تمكنت من اعتقال 150 "مخربًا" بينما استسلم آخرون.
وأضاف جيش الاحتلال في البيان ذاته أنه يعمل على التواصل عبر وحدة تنسيق أعمال الحكومة مع جهات دولية ومؤسسات صحية، لضمان استمرارية عمل أنظمة الطوارئ في المستشفيات من خلال توفير العتاد الصحي والوقود، فضلًا عن تنسيق إخلاء الطواقم والمرضى والمرافقين عبر مكتب التنسيق والارتباط.
في هذا المقال، يبيّن "مسبار" تضليل الاحتلال وزيف ادعاءاته، إذ ادعى فك الحصار عن سكان شمال القطاع، فيما هجرهم قسريًا تحت تهديد السلاح ولم يوفر مسارًا منتظمًا لضمان خروجهم بشكل آمن، بل عرض حياتهم للخطر من خلال محاصرتهم وملاحقتهم ومعاملتهم بأساليب لا إنسانية عند نقاط التفتيش التي أنشأها.
وفي حين يدّعي دعم أنظمة الطوارئ في المستشفيات، تشير الأدلة على أرض الواقع بأنه دمر المستشفيات وحاصرها واستهدف الأطقم الطبية بشكل مباشر، معرضًا حياة آلاف المرضى لخطر الموت.
إسرائيل تجبر سكان الشمال على الهجرة
منذ فرضه الحصار على شمال القطاع عامة وعلى منطقتي جباليا وبيت لاهيا خصوصًا، لجأ الاحتلال إلى إجبار السكان على إخلاء منازلهم وتهجيرهم قسريًا. يتحدث الصحفي محمد أحمد من شمالي قطاع غزة لـ"مسبار"، عن تعمّد جيش الاحتلال استهداف المدنيين في منازلهم وكذلك النازحين في مراكز الإيواء، في محاولة لترحيلهم قسريًا من شمال القطاع.
وأضاف محمد أحمد أن الاحتلال تعمد تدمير المنازل التي هجّر سكانها، وتدمير مراكز الإيواء التي لجؤوا إليها وعمل على منع النازحين من الوصول إلى أماكن إيواء بديلة في الشمال، مستهدفًا كل من يحاول البحث عن مكان آمن للبقاء فيه في شمال القطاع.
من جانب آخر، وثق المصور بلال سالم عبر مقطع فيديو نشره على حسابه في انستغرام معاناة النازحين خصوصًا كبار السن والأطفال الرضع الذين أجبروا على النزوح في ظروف قاسية، مشيرًا إلى أن المشاهد تعيد إلى الأذهان نكبة 1948.
وفيما يخص ظروف التهجير، على عكس ادعاء الاحتلال بتوفير مسارات منتظمة وآمنة لخروج المدنيين، رصد "مسبار" شهادات لمواطنين تعرضوا للتهجير القسري من منازلهم ومراكز الإيواء، وواجهوا الاستهداف والتنكيل والاحتجاز خلال محاولتهم النزوح.
في شهادة نقلتها وكالة الأناضول، تحدثت إحدى النازحات من مدارس الإيواء في مخيم جباليا، والتي أجبرها الاحتلال على المغادرة قسرًا، قائلة إن جيش الاحتلال أرسل طائرات مسيرة مزودة بمكبرات صوت، مانحًا إياهم مهلة زمنية قصيرة (ساعات) للإخلاء. وأوضحت النازحة أن الاحتلال لم يكتفِ بإنذارهم، بل استهدفهم بالقنابل التي أسقطتها الطائرات المسيرة وأطلق النار على المدرسة في محاولة لتعجيل خروجهم، ما تسبب في إصابات ومقتل عدد من النازحين هناك.
وعن معاملة الاحتلال عند نقاط التفتيش أثناء النزوح، قالت المرأة إن الجنود تعاملوا معهم بأساليب لاإنسانية، إذ تعرضوا للتفتيش والتنكيل كما وهددهم الجنود بمنحهم خمس دقائق للمغادرة فقط.
من جهة أخرى، قال الصحفي حسام شبات في فيديو نشره على حسابه في موقع إكس، يوم 24 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بأن شمالي قطاع غزة يتعرض لإبادة شاملة، حيث يجبر الاحتلال آلاف العائلات على النزوح في ساعات الليل المتأخرة تحت وطأة البرد الشديد. وأشار إلى أن المدنيين في الشمال باتوا مكدسين على الطرقات "يفترشون الأرض ويلتحفون السماء" على طول شارع صلاح الدين، دون معرفة وجهتهم.
آليات الاحتلال تحاصر شمال القطاع
وعلى عكس ادعاءات الاحتلال حول فك الحصار عن سكان الشمال، نشرت قناة الجزيرة الإخبارية صورًا ملتقطة بالأقمار الصناعية تُظهر انتشارًا كثيفًا لآليات الاحتلال في شمال قطاع غزة، وتظهر الصور أعدادًا كبيرة من الآليات العسكرية تحاصر المنطقة عبر محورين، الأول عبر بيت لاهيا شمالًا، والآخر شرق جباليا. وتوضح الصور كذلك انتشار الآليات على طول خط متصل يحاصر الشمال ويعزله عن باقي القطاع.
كما نقلت قناة الجزيرة أيضًا أنّ الاحتلال عمل عبر هذا الحصار على استهداف أي شخص يتحرك لجلب المياه أو تشغيل الآبار في المنطقة، بشكل جعل المدنيين عاجزين عن مغادرة منازلهم أو التحرك منها رغم نفاذ الغذاء والماء عنهم وذلك عقب منع الاحتلال دخول المساعدات الإغاثية وشاحنات المياه الصالحة للشرب.
ويستمر الاحتلال بترديد الادعاء بفرض حماس حصارًا على السكان في شمال القطاع ومنعها لهم من التنقل أو المغادرة مناقضًا نفسه، إذ زعم سابقًا في أكثر من مناسبة أنه قضى على وجود حماس في الشمال.
ففي مطلع فبراير/شباط الفائت، انسحب جيش الاحتلال من مناطق شمال غربي محافظة غزة وشمالي القطاع وذلك للمرة الأولى منذ بدء عمليته العسكرية البرية في 26 أكتوبر 2023.
وفي 31 مايو/أيار، انسحب جيش الاحتلال من شمالي القطاع مرة أخرى، بعد عملية عسكرية استمرت 20 يومًا، خلفت دمارًا واسعًا وغير مسبوق في مخيم جباليا ومحيطه حيث تعمد حرق مئات المنازل.
وجاء في بيان جيش الاحتلال حينها، أن قوات الفرقة 98 أكملت عمليتها في جباليا بعد "القضاء على مئات الإرهابيين" وتدمير العشرات من البنى التحتية والمجمعات القتالية في المنطقة.
إسرائيل تتعمد استهداف المنشآت الطبية في شمالي قطاع غزة
ادعت إسرائيل في بيانها الأخير أيضًا أنها تعمل للحفاظ على تشغيل أنظمة الطوارئ في المستشفيات في شمالي القطاع، من خلال نقل العتاد الصحي والوقود وإخلاء الطواقم الطبية والمرضى، لكن في الواقع فإنّ الاحتلال أقدم قبيل اقتحامه جباليا وبيت لاهيا على تهديد المستشفيات هناك، مطالبًا الطواقم الطبية بوقف الخدمات والمغادرة.
ومع بدء الاجتياح البري للشمال، قال مدير المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة إسماعيل الثوابتة، أن الاحتلال تعمد استهداف جميع المستشفيات في المنطقة، بما فيها مستشفى اليمن السعيد والمستشفى الإندونيسي. كما حاصر مستشفى العودة وأخرجه عن الخدمة، وأضاف أن الاحتلال كان قد اقتحم مستشفى كمال عدوان واعتقل عشرات الطواقم الطبية والنازحين من داخله، وتابع بأن الاحتلال أقدم على إعدام ابن مدير المستشفى كنوع من العقاب له على صموده وعدم استجابته لأوامر الاحتلال بالنزوح.
وأضاف الثوابتة أن نحو 80 ألف جريح في الشمال يحتاجون إلى عمليات جراحية عاجلة، لكن الاحتلال يمنع دخول الوقود والإمدادات الطبية عن كافة مستشفيات الشمال، ما يهدد حياة الكثيرين منهم.
وتابع أن الاحتلال في عدوانه على غزة يعتمد على خطة ثلاثية لاستهداف المنظومة الصحية وإخراجها عن الخدمة، تتمثل في تدمير المستشفيات وقتل الكوادر الطبية واعتقالها ومنع العلاجات والأدوية.
من جهتها قالت وزارة الصحة في غزة في بيان لها، أن الاحتلال اعتقل رحّل كل الكوادر الطبية في مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة، حيث لم يبقَ في المستشفى سوى طبيب واحد متخصص في طب الأطفال من بين كل التخصصات. مناشدة المؤسسات الدولية بسرعة إيفاد فرق طبية جراحية للمستشفى
تظاهر إسرائيل بتقديم المساعدة للنازحين
في إطار السعي لترسيخ السردية الإسرائيلية، عملت الحسابات الإسرائيلية على ترويج سلسلة من الصور والمشاهد الدعائية بالتزامن مع تهجير سكان الشمال قسرًا، ادعت فيها كسر “حصار تفرضه حماس عليهم”، تضمنت هذه المشاهد صورًا تُظهر مسعفة من وحدة جيفعاتي تعالج امرأة فلسطينية مسنّة في جباليا، إلى جانب لقطات تقديم المياه للنازحين.
تحقق "مسبار" من هذه المشاهد وبيّن زيفها، كاشفًا كيف يتعمد الاحتلال ترويجها لخدمة سرديته التي تسعى لترسيخ صورة "الجيش الأخلاقي" أمام الرأي العام.
استهداف إسرائيل للذين رفضوا التهجير القسري من شمال القطاع
وفيما يخص الذين رفضوا التهجير القسري من شمالي القطاع وتمسكوا بحقهم في البقاء في منازلهم، فقد استهدفهم جيش الاحتلال بشكل مباشر ومتعمد، ما أسفر عن مجازر خلفت مئات الجرحى والقتلى ، بينهم العديد من الأطفال والنساء.
وفي تصريح للناطق باسم الدفاع المدني في غزة محمود بصل لقناة الجزيرة الإخبارية، قال إن الاحتلال يتعمد إطلاق القذائف بشكل كثيف ومباشر على المدنيين، كما يتعمد استهداف المنازل التي اختار المدنيين الصمود فيها، حيث سوّى العديد من المباني والمنازل مع الأرض.
وفي بيان لها، أفادت وزارة الصحة أن الاحتلال ارتكب مجزرة باستهدافه لمنزل عائلة أبو نصر في مشروع بيت لاهيا، راح ضحيتها 93 شخصًا بين قتيل ومفقود، وأشارت الوزارة إلى أن عددًا من الضحايا ظلوا تحت الركام وفي الطرقات، ولا تستطيع طواقم الإسعاف ولا الدفاع المدني الوصول اليهم.
ووثق عدد من الناشطين المجازر التي ارتكبها الاحتلال بحق المدنيين الذين رفضوا أوامر التهجير القسري، ونشرته وسائل الإعلام تقارير تُظهر معاناتهم في انتشال الضحايا، في ظل غياب الدفاع المدني وغياب أي مرفق صحي قادر على استقبال أو علاج المصابين.
إدانات محلية ودولية لمساعي الاحتلال تهجير سكان الشمال قسريًا
اتهم المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إسرائيل بالعمل بشكل منهجي لطرد الفلسطينيين وتفريغ شمال غزة من خلال المجازر وقصف المستشفيات ومراكز الإيواء.
وقال إن إسرائيل تعمل على طرد السكان الفلسطينيين وتهجيرهم قسرًا من مناطق سكناهم شمالي قطاع غزة، تحت وطأة المجازر والقتل الجماعي وقصف المستشفيات ومراكز الإيواء وتدمير مقومات الحياة.
وأكد الأورومتوسطي أنّ جيش الاحتلال دمر وأحرق مئات المنازل في شمال غزة، خاصة مخيم جباليا، خلال الـ18 يومًا الفائتة، وما يزال عدد كبير من الضحايا تحت أنقاض المنازل المدمرة وفي مراكز الإيواء المستهدفة، يتعذر انتشالهم وإجلاؤهم نتيجة الحصار الشامل وفرض حظر التحرك والتهديدات بالقتل.
كما أدانت وزيرة الخارجية النرويجية أنيكين هويتفيلدت، الحصار المشدد الذي فرضته الاحتلال على قطاع غزة ومحاولات تهجير السكان، وقالت هويتفيلدت "إسرائيل تملك حق الدفاع عن نفسها ولكن لا تستطيع استعمال كافة الوسائل من أجل ذلك".
وأضافت "أدين هذا الحصار، لأنه عندما تطلب من هذا الكم من الناس المغادرة وليس لديهم طعام أو دواء فيجب عليك إدانة ذلك".
من جهته أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن صدمته من المستويات المروعة من القتلى والجرحى والدمار الذي ألحقه الاحتلال بشمالي قطاع غزة، محذّرًا من أن الظروف التي يعيشها المدنيون الفلسطينيون المحاصرون في المنطقة أصبحت غير محتملة بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية.
اقرأ/ي أيضًا
معاناة غزة.. المنشورات المضللة تخدم رواية التشكيك الإسرائيلية
إسرائيل وحزب الله: ما خلفية الاتهامات المتبادلة باختراق قرارات مجلس الأمن الخاصة بجنوب لبنان؟