` `

لماذا تنجح المحتويات الساخرة في تضليل أعداد متزايدة من المستخدمين؟

وئام صاحب وئام صاحب
أخبار
26 أغسطس 2024
لماذا تنجح المحتويات الساخرة في تضليل أعداد متزايدة من المستخدمين؟
البالغين الأكبر سنًا يواجهون مشكلات في فك تشفير أنواع مختلفة من السخرية

تعود إشكالية إساءة فهم واستخدام المحتويات الساخرة في الفضاء الرقمي إلى الواجهة، كلما نجحت تلك المحتويات بقصد أو دون قصد في تضليل أعداد كبيرة من المستخدمين، حيال مواضيع تتفاوت في حساسيتها.

ورغم إقرار منظمة اليونيسكو بإمكانية اعتبار السخرية والباروديا شكلًا من أشكال الفن، إلا أنّ دليلها "الصحافة والأخبار الزائفة والتضليل"، الذي يصنف اضطرابات المعلومة، يُدرج الصحافة الساخرة ضمن نموذج التضليل والأخبار الخاطئة، بسبب ما يصفه بـ "حالة الارتباك" التي يُسببها تعذر التمييز بين المواقع الساخرة والمواقع الجادة، في ظل التدفق المتزايد للمعلومات عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

وفي السياق، يشير مقال صحيفة ذا غارديان البريطانية إلى أن إساءة فهم محتويات الصحافة الساخرة، باتت أمرًا شائعًا في أوساط مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، الذين أصبحوا يتداولونها على أنها أخبار صحيحة. يؤكّد ذلك مالك موقع "الأخبار الحقيقية الآن" "Real News Right Now"، الذي جرى تداول أخبار ساخرة من موقعه على أنها أخبار صحيحة، حتى من قبل شخصيات مهمة مثل دونالد ترامب.

وتعدى الأمر عامة الناس والشخصيات السياسية إلى الصحافيين أنفسهم، عندما نقلت صحيفة الشعب اليومية، التابعة للحزب الشيوعي الصيني، خبر اختيار الموقع ذي أونيون "The Onion" الأميركي الساخر زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون كـ "أكثر الرجال إثارة في العالم لعام 2012".

كيم جونغ أون الرجل الأكثر إثارة في العالم عام 2012

وعلقت الصحيفة على الخبر بجدية "مباركًا بهالة من القوة التي تخفي جانبًا لطيفًا لا يمكن إنكاره، جعل كيم لجنة تحرير هذه الصحيفة [The Onion] تذوب إعجابًا بذوقه الرائع في الموضة، وتسريحة شعره القصيرة الأنيقة، وابتسامته الشهيرة".

واضطرت وكالة الأنباء الإيرانية شبه الرسمية "فارس" للاعتذار بعدما وقعت في مصيدة خبر ساخر من الموقع نفسه، مفاده أن سكان الريف الأميركيين يُفضلون الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد على الرئيس الأميركي باراك أوباما.

لماذا يصعب تمييز الأخبار الساخرة عن الأخبار الصحيحة؟

اعتبر كثيرون النماذج السابقة مؤشرًا على تلاشي الحد الفاصل بين السخرية والحقيقة، وذهب بعضهم حد فرض التصريح المباشر بالطابع الساخر للمحتويات التي توضع في متناول الجمهور. ومن بين هؤلاء نجد إريك إفورون، مدير تحرير موقع NewsGuard المتخصص في تقييم الأخبار والمواقع الإخبارية، الذي اقترح وضع علامة واضحة على المحتوى الساخر لتمييزه عن المحتوى الجاد، ومن ثمة تجنب إساءة فهمه والمشاكل المترتبة عن ذلك. 

واشترط موقع إكس (تويتر سابقًا) على حسابات المحاكاة الساخرة، تضمين عبارة "محاكاة ساخرة" (Parody) إلى جانب أسمائها، كي يسهل تمييزها عن حسابات التي تنتحل الشخصية بنية إلحاق الأذى.

يفرض موقع إكس على حسابات المحاكاة الساخرة للشخصيات العامة إضافة عبارة “Parody” إلى أسمائها
يفرض موقع إكس على حسابات المحاكاة الساخرة للشخصيات العامة إضافة عبارة “Parody” إلى أسمائها

ورغم وجود مبررات لمقترح توضيح النية، لا تزال الجدوى منه محل شك، فتصريح موقع مثل The Onion بطابعه الساخر لم يحل دون نقل أخباره وتقديمها إلى الجمهور على أنها أخبار جادة.

كذلك فإن عدم الإشارة إلى مصدر الخبر، وإعادة نشر مقاطع الفيديو دون علامة مائية للحساب الأصلي، وتجنب توضيح طابع المحتوى الساخر، تزيد كلها من احتمال تعرض الجمهور للتضليل، إذ لن يكون بوسعه العودة بسهولة إلى مصدر المحتوى، أو التفطن لنبرته التهكمية.

لكن احتمالية وسم كل خبر ساخر بأنه كذلك تبدو غير واردة، لأن ذلك سيقلل التفاعل مع المحتويات المثيرة للجدل، وهو ما لن يكون في صالح صناع المحتوى، الذين ترتبط مداخيلهم من مواقع التواصل الاجتماعي طردًا مع أرقام التفاعل مع محتوياتهم.

وتملك المحتويات الساخرة المحركة للعواطف مثل الدهشة والحماسة والغضب والحزن والفرح حظوظ انتشار أكبر عندما لا يصرّح صناعها بطابعها الساخر وتحقق بذلك عائدات أعلى.

وتأتي مداخل صناع المحتوى إمّا من عائدات الإعلانات المرافقة لمحتوياتهم، أو بشكل مباشر على منصتي تيك توك ويوتيوب، اللّتين تدفعان مبالغ قد تقل أو تزيد، بحسب عدد المشاهدات.

في هذه الحالة، حري بنا فهم الأسباب التي تجعل الجمهور غير قادر على رصد الإشارات التهكمية عندما لا يتم التصريح بها.

انتشار أخبار صحيحة صعبة التصديق 

صحيح أن بعض الأخبار الواقعية تبدو أقرب إلى المحاكاة الساخرة بسبب غرابتها وخروجها عن المألوف، وقد اعتادت وسائل الإعلام نشرها ضمن فقرات ذات عناوين مثل "غرائب وعجائب". وفي المقابل، بات عدد متزايد من المواقع الساخرة ينشر أخبار صحيحة قد تبدو ساخرة، وينفي شبهة السخرية عنها. ومن أمثلة ذلك ركن "ليتها الحدود"، الذي يعرض فيه الموقع العربي الساخر "الحدود"، أخبارًا صحيحة تبدو ساخرة، ويؤكد أنها ليست تهكمية مثلما قد يظن أو يرغب المتابع.

يعيد موقع "الحدود" نشر أخبار صحيحة غريبة بغرض نفي طابع السخرية عنها
يعيد موقع "الحدود" نشر أخبار صحيحة غريبة بغرض نفي طابع السخرية عنها

أدى تعرض الجمهور المستمر إلى الأخبار الغريبة الصحيحة ودعم خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي للمحتويات الرائجة أساسًا، إلى زيادة قابلية تصديق المحتويات الساخرة واتساع رقعته وتراجع حس التشكيك لدى المستخدمين، الذين باتوا لا يستبعدون إمكانية كون الأخبار الساخرة صحيحة هي الأخرى. يمنح كل ذلك المحتوى الساخر قدرة على تضليل الجمهور.

وانتشر في ديسمبر عام 2020 مقطع فيديو مفبرك، ظهر فيه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، خلال احتفالات عيد الهالوين، وهو يتعرض للمضايقة من أطفال رموه بالبيض والسوائل. وصدّق مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي المقطع الساخر، بعد أن تم تداوله على نطاق واسع على أنه حقيقي. وتحقّق مسبار حينها من المقطع وتبين أنّه عرض في سياق هزلي ضمن البرنامج الحواري الأميركي Jimmy Kimmel Live، الذي يقدمه الممثل الكوميدي جيمي كيمل.

وانتشر مشهد تمثيلي ساخر آخر، بُعيد الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2020، على أنه لمحاولة إخراج دونالد ترامب بالقوة من البيت الأبيض، عقب تفوّق جو بايدن، مرشح الحزب الديمقراطي عليه في الرئاسيات.

وأظهر تحقق أعده مسبار، حينها، أنّ المشهد تمثيلي وأنه مقتبس من برنامج "The President Show" الساخر، الذي يقدمه الكاتب والممثل الكوميدي الأميركي أنثوني أتامانويك، والمعروف بتقليده لترامب.

ويمكن الربط بين تصديق عدد كبير من المستخدمين للمقطعين الساخرين، وبين انتشار أخبار صحيحة غريبة عن دونالد ترامب، هيأت المتلقين لتصديق مشاهد تمثيلية ساخرة عنه توثق سلوكات خارجة المألوف، وعدم استبعاد احتمال صدورها عنه بالفعل.

ففي أثناء أزمة كورونا، مثلًا، انتشر خبر بدا للكثيرين في البداية ساخرًا قبل أن يتبين أنه صحيح وأن دونالد ترامب اقترح بالفعل حقن مواد مطهرة داخل أجساد المصابين بمرض كوفيد-19 للقضاء على الفايروس المسبب للمرض.

صورة متعلقة توضيحية

أثارت تصريحاته تلك ذهولًا في الأوساط العلمية وخارجها، فيما اتهمه أخصائيون بعدم المسؤولية لتقديمه ذلك الاقتراح الخطير.

يعلّق آرون هاجي-ماكاي، الكاتب والمحرر السابق بموقع The Beaverton الساخر، على المشهد السريالي للحدود المتلاشية بين الأخبار الساخرة وتلك التي تبدو ساخرة قائلًا "قبل الكسوف الكلي للشمس في عام 2017، كتب الموقع محتوى ساخر عن ترامب، وعن كيف سيكون جاهلًا بالظاهرة الفلكية لدرجة أنه سيحدّق مباشرة في الكسوف، ثم تحول الخبر الساخر إلى حقيقة بعد أن قام بذلك بالفعل".

شاهد دونالد ترامب الكسوف الكلي للشمس في أغسطس عام 2017 دون نظارات واقية (Getty)
شاهد دونالد ترامب الكسوف الكلي للشمس في أغسطس عام 2017 دون نظارات واقية (Getty)

دور التحيز التأكيدي في تصديق المحتويات الساخرة

يعزز التحيز التأكيدي تصديق المستخدمين للأخبار الساخرة، ويحدث ذلك عندما يؤكّد الخبر الساخر ويدعم انطباعات المستخدم وأفكاره المسبقة حول موضوع ما، ويترتب عنه تلاشي حس التشكيك وزيادة قابلية تصديق الخبر الساخر مقارنة بآخر يناقض اعتقاداته المسبقة.

وقد يكون أحد أمثلة ذلك مقطع فيديو انتشر حديثًا على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام في المنطقة العربية. وظهرت في المقطع الذي حقق ملايين المشاهدات سيدة بريطانية ادّعت أن زوجها توفي أثناء قضائها عطلة في تونس، وأنها قررت استكمال عطلتها وعدم حضور جنازته لأنه توفي في وقت غير مناسب.

 يمكن إرجاع تصديق عدد كبير من المستخدمين العرب للقصة إلى أفكارهم وانطباعاتهم المسبقة، عن التفكك الأسري في الدول الغربية ونمط الحياة الفرداني، اللذين يجعلان قصة كالتي روتها السيدة في المقطع الساخر واردة الحدوث، وهو ما أشار إليه بالفعل العديد من المعلقين.

صورة متعلقة توضيحية

في هذا السياق، توضح البروفيسورة لورا جراهام، من جامعة نورث كارولاينا المركزية، أنه غالبًا ما تؤدي رغبة الناس في تصديق شيء ما إلى تثبيطهم عن التحقق من مصدره، "فالتحيز التأكيدي هو تحيز معرفي يجعلنا نبحث عن المصادر والمعلومات التي تؤكد ما نعتقده بالفعل". وضربت جراهام مثالًا بالموقع الساخر المتخصص في الشأن العسكري، "Duffel Blog"، الذي نشر خبرًا ساخرًا مفاده أن كلمة المرور لقيادة الأمن السيبراني الأمريكية قد ضاعت. وأكدت البروفيسورة أن بعض الأفراد صدقوا الخبر الساخر بسبب آرائهم المسبقة بشأن الجيش الأمريكي.

كبار السن أقل مهارة في اكتشاف السخرية 

يرتبط تمييز الأخبار الساخرة عن غيرها بالفئة العمرية التي ينتمي إليها الأفراد. فبحسب دراسة نُشرت في مجلة علم النفس التنموي "Developmental Psychology"، تكون قدرة كبار السن على اكتشاف وفهم السخرية أقل مقارنة بنظرائهم الأصغر سنًا.

في الدراسة، التي قادتها البروفيسورة لويز فيليبس من جامعة أبردين، عُرضت سلسلة من مقاطع الفيديو والقصص المكتوبة على 116 مشاركًا، تتراوح أعمارهم ما بين 18 و86 عامًا ثم سُئلوا عمّا إذا كان ينبغي تفسيرها حرفيًا أم بشكل ساخر.

خلصت الدراسة إلى أن البالغين الأكبر سنًا يواجهون مشكلات في فك تشفير أنواع مختلفة من السخرية، وأن التقدّم في السن يرتبط بصعوبات في استخدام الإشارات غير اللفظية والسياقية لفهم النوايا الساخرة.

يترتب عن إساءة كبار السن تفسير المحتوى الساخر وأخذهم إياه على محمل الجد، مشاركتهم الأخبار الساخرة وتفاعلهم معها على أنها أخبار صحيحة. من شأن ذلك أن يتسبب في تراكم سوء الفهم، خاصة إذا كانوا شخصيات مؤثرة تحظى بمتابعة وتأييد واسع على وسائل التواصل الاجتماعي.

يعاني كبار السن من صعوبات في فهم السخرية

خلاصة القول هي أن المحتويات الساخرة يساء فهمها في أحيان كثيرة. وقد ظهرت على إثر ذلك توصيات بضرورة التصريح بطابعها الساخر. ومع ذلك، لا تزال تلك المحتويات تساهم في تضليل الجمهور لأسباب عديدة، ترتبط أساسًا بطبيعة البيئة الإعلامية من جهة وطبيعة الجمهور والتحيزات المعرفية لأفراده. وفي هذا الصدد ترى ميليسا زيمدارز، الأستاذة المساعدة في الاتصال والإعلام في كلية ميريميك في ماساتشوستس، أن هناك شيئًا واحدًا يمكن للأشخاص فعله، وهو قراءة ما يشاركونه، وإذا قرأ الشخص شيئًا وأثار لديه رد فعل قوي، عليه أن يقرأ المزيد عنه بدلاً من قبوله كمعلومة كاملة.

اقرأ/ي أيضًا

موجة من المعلومات المضللة مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية

فيديو السيدة البريطانية التي قررت استكمال إجازتها وعدم حضور جنازة زوجها ساخر

الأكثر قراءة