“نحن نحارب وحوشًا بشرية نيابةً عنكم قبل أن تصل إليكم”؛ كان هذا التصريح أحد أبرز الادعاءات التي اعتمدت عليها الدعاية المؤيدة لإسرائيل طوال عام من الحرب على غزة، حيث برزت حملات عديدة صوّرت الفلسطينيين والمساندين لهم على أنهم عنيفون، متطرفون، وأقل "تحضرًا" و"رقيًا"، وأكثر تهديدًا للغرب والديمقراطية.
واستخدمت هذه الرواية، بشكل بارز لتبرير استهداف الفلسطينيين، خصوصًا أمام الرأي العام الغربي. وكانت إحدى الأدوات الأكثر تأثيرًا في تغذية الرواية التحريضية، استغلال القضايا الداخلية في الدول الأوروبية والغربية، مثل أزمة الهجرة والعداء المتزايد للإسلام في الغرب، لنشر صورة نمطية سلبية ومزاعم كاذبة ضد الفلسطينيين ومؤيديهم، وذلك باستغلال حقيقة أن غالبية الفلسطينيين مسلمون.
يرصد "مسبار" في هذا التقرير جزءًا من حملات متعددة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كان هدفها إقناع المؤيدين والداعمين للقضية الفلسطينية خاصة في الغرب بأن مواقفهم تتعارض مع مصلحتهم ومصلحة بلادهم.
إقحام مسألة تأييد فلسطين "بالصراع الحضاري" مع الإسلام
منذ بدايتها، كان التوجه نحو تصوير الحرب على غزة وكأنه صراع حضاري واضحُا، وجرى في كثير من الحالات ربط مساندة فلسطين بموضوعات التطرف والإرهاب، حيث قامت حسابات متعددة، ومسؤولون رسميون، بنشر مزاعم وتصريحات تهدف إلى تغذية هذا النوع من السرد الإعلامي.
في خطابه أمام الكونغرس الأميركي في يوليو/تموز 2024، روّج بنيامين نتنياهو لفكرة أن إسرائيل هي في طليعة الدول في الحرب التي يشنها الغرب ضد الإسلام المتطرف عالميًا، وهي تقاتل في الصدام بين "البربرية" و"الحضارة". وأوضح نتنياهو أنه يحمي الأميركيين ويشن الحرب بالنيابة عنهم، وطالب الولايات المتحدة بشكره ودعمه وليس العكس.
التعميم واللغة التي تفتقر للسياق
يرفق حساب "Quantum Flux" الذي ينشر منشورات مؤيدة لإسرائيل مقطع فيديو لمظاهرة داعمة لفلسطين في لندن بوصف تحريضي يستغل الجدل المتصاعد في بريطانيا حول أزمة الهجرة. يحاول المنشور تصوير “الصراع” في فلسطين في سياق الحرب الأخيرة على غزة، على أنه ليس نزاعًا على الأرض، بل انعكاسًا لرغبة الإسلام في تدمير الأديان الأخرى.
كما يصوّر المنشور الفلسطينيين كغالبية مسلمة تسعى للحصول على اللجوء في أوروبا، مستخدمًا تعميمات وأسلوبًا تحريضيًا قائمًا على خلق صورة نمطية سلبية حولهم، ويجري وصف المظاهرات بأنها تتكون أساسًا من أشخاص ذوي خلفيات مسلمة ولاجئين، ذوي أهداف خاصة، مع محاولة إثارة مزاعم بوجود مشاكل كراهية بينهم وبين حكومات الدول المضيفة.
بهذا الأسلوب، تُهمل السردية الأساسية ويجري صرف النظر عن جوهر القصة، وهي أن المتظاهرين خرجوا للاحتجاج ضد الحرب الدموية التي تُشن على الفلسطينيين، ويتم تحويل الموضوع إلى ما يُعتبر "مشكلة حضارية" مع التركيز على خلفيات الأشخاص بدلًا من الوقائع. وتستخدم هذه المنشورات خطابًا يستغل مشاعر العداء تجاه المهاجرين وتنجح في كثير من الأحيان بحصد تفاعل واسع مستغلة المخاوف المتزايدة مع تفاقم أزمة اللجوء، والهجرة، ويتم تحويل النقاش من التركيز على القضايا الإنسانية والحقوقية إلى قضايا ثقافية ودينية تهدف إلى تعزيز الانقسامات بين المجتمعات.
نظرية المؤامرة وسيطرة مساندي الفلسطينيين على المجتمعات الغربية
تحرّض الحسابات ضد المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين بمزاعم تندرج ضمن نظرية المؤامرة، حيث تزعم على سبيل المثال أن الزخم الذي اكتسبته المظاهرات في لندن كان نتيجة انحياز الشرطة البريطانية للمتظاهرين، وكونه مؤامرة داخلية في البلاد.
في 16 أغسطس/آب 2024، كشف تحقيق مسبار عن صورة مضللة ولدت بالذكاء الاصطناعي وجرى تداولها على نطاق واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، على أنها لضباط شرطة بريطانيين يركعون أمام مجموعة من الرجال بالعباءات، زُعِمَ أنهم مسلمون.
على الرغم من أن الصورة كانت مزيفة بوضوح، بملاحظة العلامات التي يتركها الذكاء الاصطناعي والتشويهات الواضحة، مثل ملامح الوجه والتناظر غير الطبيعي، فقد استخدمت للترويج لرواية كاذبة بأن المجتمع المسلم في بريطانيا الذي صور بأنه يقود المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين يسيطر على البلاد، وخلقت المنشورات المضللة، بمعزل عن تأثيراتها السلبية في مفاقمة الانقسام الداخلي، تعزيزًا لسردية الصراع بين الإسلام والغرب، بأسلوب التخويف وصرف النظر عن موضوع المظاهرات العام.
في نفس الإطار تقود صفحة RadioGenoa وهي صفحة مجهولة الهوية ومعادية للإسلام حملة ضخمة لربط مساندة الفلسطينيين بدعم الإرهاب والتطرف، يقوم القائمون على الحساب بتضخيم الحوادث الفردية وإخراجها من سياقها لخلق انطباعات سلبية عامة حول المهاجرين، ومن ثم يصوّرون في منشورات أخرى المنتقدين لسياسات إسرائيل على أنهم من المهاجرين وخصوصًا المسلمين. تستخدم الصفحة، في منشورات، تعبيرات تلعب على مشاعر الخوف والقلق مثل "الغزو الإسلامي" و"تهديد الحضارة الغربية" في محاولة لتصوير المسلمين كتهديد دائم لأوروبا، وبأن قمع الأصوات الفلسطينية هو ضرورة ملحة لمواجهة هذا التهديد.
في أكتوبر/تشرين الأول الجاري، زعمت الصفحة بدون الاستناد إلى أي أدلة أن شخصًا يُدعى محمد من غزة اعتقل أكثر من 50 مرة على يد الشرطة الألمانية، وكجزء من نظرية المؤامرة، ادعت الصفحة أن محمد هو جزء من عشيرة تشكل طالبي لجوء مزيفين ينتقلون من فلسطين إلى العاصمة الألمانية برلين ليمجدوا الإرهاب ويهاجمون الشرطة بوحشية، وذلك بالرغم من أن مقطع الفيديو المرفق لا يظهر أي شيء يؤكد هذه الادعاءات، بل لا يعدو كونه يظهر شخصًا يرتدي الكوفية ضمن مظاهرة مؤيدة لفلسطين.
إضفاء طابع التجانس على منتقدي إسرائيل
منذ بداية الحرب على غزة، اكتسبت المظاهرات المؤيدة لفلسطين زخمًا واسعًا على مستوى الدول الغربية، وكان الحراك الطلابي في الجامعات الأميركية من أبرز الأمثلة على ذلك. واتسعت دائرة منظمي هذه المظاهرات والمشاركين فيها، لتشمل فئات متنوعة تمثل عدة شرائح من المجتمعات الأوروبية والغربية. ومع ذلك، سعت بعض الصفحات التي تروّج لمزاعم تحريضية إلى خلق صورة نمطية بأن مؤيدي فلسطين هم مجموعة عرقية محددة، فهم إما مهاجرون تم تصويرهم على أنهم مخربون، أو من الفلسطينيين أنفسهم.
ولإضفاء تفسيرات تآمرية على مشاركة فئات أخرى من المجتمع والتي تظهر ضمن الاحتجاجات، مثل السكان الأصليين، روّجت هذه الصفحات لنظريات مؤامرة تزعم أن ظهور هؤلاء المشاركين يمثلون التيار السياسي اليساري الذي يتعاون مع المسلمين للسيطرة على أوروبا. ولا تقدم هذه الصفحات في كثير من الحالات أي أدلة أو تفسير منطقي لكيفية الوصول إلى هذه الاستنتاجات.
علاوة على ذلك، قامت بعض الحسابات بنشر مزاعم عنصرية مبالغ فيها، حيث صورت مؤيدي فلسطين على أنهم يحملون جينات عنيفة متأصلة في حمضهم النووي (DNA)، في محاولة لتصويرهم على أنهم تهديد للمجتمعات التي يعيشون فيها.
يأتون للغرب.. لأن الدول المسلمة لا تقبلهم لإدراكها خطرهم
تسعى الحسابات المؤيدة للسردية الإسرائيلية الترويج لشخصية "الوحش" و"المخيف"، وذلك عن طريق ترتيب الحقائق بطريقة توصل المتلقي لنتيجة مضللة، حيث تستغل على سبيل المثال عدم وجود قوانين واضحة في الدول العربية تعطي حق اللجوء كما هو الحال في الدول الأوربية والغربية، وتزعم أن الدول المحيطة بالفلسطينيين لا تستقبلهم لأنهم عنيفون وتخاف أن ينشروا هذا العنف في البلدان العربية المضيفة، وذلك بإنكار حقيقة أن الكثير من الفلسطينيين يعيشون في الدول العربية منذُ عقود عندما هجروا من أراضيهم على يد إسرائيل.
خلق التباس بين مساندي حماس والمؤيدين للقضية الفلسطينية
عملت الحسابات المساندة لإسرائيل على ربط الشخصيات المدافعة عن حقوق الفلسطينيين والمنتقدة لإسرائيل بحركة حماس، وبأن انتقاد إسرائيل يعني تأييد حماس، وذلك على الرغم من أن انتقاد إسرائيل والالتفات لمعاناة الفلسطينيين لا يعني بالضرورة مساندة حماس إلا أن الحملات على سبيل المثال صوّرت المظاهرات المؤيدة لفلسطين بأنها دفاع عن حماس التي تعرف أساسًا كحركة مقاومة إسلامية، وانتشرت مصطلحات مضللة لتعزيز هذه السردية كانت ترفق بالمنشورات المنتقدة للمظاهرات المساندة للفلسطينيين، مثل “Pro Hamas” “Hamas Supporters”.
وباستخدام الحقيقة الجزئية وهي أن حماس ذات توجه إسلامي، سعت الحملات إلى تغذية سردية تتماشى مع خطاب رهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) لتعكس للرأي العام خطورة تأييد الفلسطينيين كمجموعة، وضرورة الوقوف مع إسرائيل بما يصب في مصلحة الغرب أولًا قبل أن يكون ذلك في مصلحة إسرائيل.
على سبيل المثال في هولندا يقوم زعيم حزب الحرية اليميني المتطرف، خيرت فلدرز، الذي فاز بأغلبية مقاعد البرلمان في الانتخابات الأخيرة والذي يعرف بمواقفه المتطرفة والمعادية للمسلمين، على ربط المظاهرات والشخصيات المؤيدة لفلسطين في هولندا بالإرهاب والتطرف ويستخدم الخطاب المعادي للهجرة مع تفاقم أزمة اللجوء في هولندا للربط بين تأييد الفلسطينيين وتصاعد الهجرة، حيث يروّج فلدرز لمزاعم أن هولندا أصبحت ملاذًا آمنًا للمتطرفين، فيما يتعارض مع حقيقة تنوع خلفيات الفئات التي خرجت في المظاهرات المساندة للفلسطينيين على مدى عام.
في إبريل/نيسان 2024، نشر فلدرز الذي يتابعه مليون ونصف حساب على إكس، تقريبًا، مقطعًا قصيرًا مجتزأً من مظاهرة ومدته 11 ثانية، حيث كانت الجموع القليلة تحيي المتحدث باسم حماس "أبو عبيدة". ورغم أن هولندا شهدت مظاهرات عديدة ورفعت شعارات متنوعة، يعتبر التركيز على مقاطع مجتزأة ومحددة لتعميم صورة عامة سلبية حول المتظاهرين المساندين للفلسطينيين، انتقائية بغاية التضليل. إذ تحاول هذه المنشورات إضفاء التجانس الفكري والشعاراتي على المظاهرات وربطها بمصطلحات تثير القلق لدى الجمهور في ظل تصاعد أزمة الهجرة، كمصطلح "الجهاد" "الإرهابيين.
وفي منشور حصد أكثر من ثلاثة ملايين مشاهدة، كتب فيلدرز على إكس في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، مزاعم تحريضية مفادها أن فلسطين هي الأردن ودعا إلى إعادة توطين الفلسطينيين في الأردن، وذلك في خطاب تحريضي يعمل على إثارة مخاوف الرأي العام من الفلسطينيين باعتبارهم مسلمين.
دراما التهديد الوجودي للغرب والتلاعب العاطفي
تلجأ السردية المؤيدة لإسرائيل إلى الترويج لمزاعم تفتقر للأدلة بأن المسلمين يسعون للسيطرة على أوروبا. من بين أبرز هذه المزاعم، نظرية "الاستبدال الكبير"، التي تدعي وجود خطة ممنهجة لاستبدال السكان الأوروبيين الأصليين بالمهاجرين المسلمين لتغيير التركيبة الديموغرافية للقارة. يتم دعم هذه النظرية بأدلة مختلقة أو مشوهة، مع استغلال أحداث فردية حقيقية ومشكلات تتعلق بالمسلمين لتأجيج الخوف والكراهية. استخدمت نظرية "الاستبدال الكبير" في سياق الحرب على غزة، خاصة مع تصاعد الحركة الشعبية المساندة للفلسطينيين.
على سبيل المثال، طرح حساب واسع الانتشار، يصل عدد متابعيه إلى أكثر من 3.8 مليون، سؤالًل على الجمهور حول أي طرف من طرفي "الصراع" الإسرائيلي الفلسطيني يتعاطفون معه أكثر؟ أجاب 51.4% بأنهم يقفون إلى جانب فلسطين، بينما أبدى 48.6% تعاطفهم مع إسرائيل. وتحت هذا الاستطلاع، انتشرت تعليقات تحريضية وكراهية ضد الفلسطينيين، إلى جانب مقطع فيديو واسع الانتشار نشرته حسابات إسرائيلية.
يظهر الفيديو صخرة كبيرة تحمل عبارة "لا إله إلا الله"، وهي تتدحرج باتجاه قلعة تحمل علم الاتحاد الأوروبي. وفي المنتصف، تظهر صخرة ثالثة على شكل بطل تحمل علم إسرائيل، تحاول التصدي للصخرة الأولى ومنعها من الوصول، بينما تطلق القلعة الأوروبية السهام باتجاه الصخرة التي تحمل علم إسرائيل. في النهاية، تصل الصخرة التي تحمل العبارة الإسلامية إلى القلعة الأوروبية وتدمرها تمامًا. الجدير بالذكر أن المقطع أعيدت مشاركته مع أحداث سياسية كما هو الحال عندما صوتت دول أوروبية، مثل بلجيكا، فرنسا، إيرلندا، وإسبانيا، لصالح قرار الأمم المتحدة الداعي إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة.
يهدف الفيديو إلى تكرار مزاعم تروّج لفكرة أن إسرائيل هي الحصن الذي يدافع عن أوروبا في مواجهة "الخطر الإسلامي" المزعوم، مما يصور الفلسطينيين وغيرهم كتهديد وجودي. في النهاية، يستخدم هذا التمثيل كدعاية مضللة كونها لا تستند إلى أي دليل وقد تحرف الحقائق، كونها تستفيد من ترسخ المزاعم لدى بعض شرائح المجتمعات الغربية التي روّج لها اليمين المتطرف لعقود في أوروبا، واستغلال الأمر سياسيًا وإعلاميًا لصالح إسرائيل.
اقرأ/ي أيضًا
كيف تستخدم إسرائيل مقولة حرب الحضارات لتبرير جرائمها في غزة؟
حملة دعائية واسعة على مواقع التواصل لتشويه مواقف الدول الأوروبية المساندة لفلسطين