يُعتبر خطاب الكراهية أحد أبرز أشكال التضليل، حيث يُستخدم لتشويه الحقائق ونشر صور نمطية سلبية تُعزز الانقسامات وتثير العداء بين الأفراد والمجتمعات.
يعتمد هذا النوع من الخطاب على بث مزيح من المعلومات الصحيحة والمغلوطة قد تُضخم التهديدات المزعومة تجاه مجموعات معينة بهدف التأثير على الإدراك العام. كما يُسهم الانتشار السريع لخطاب الكراهية عبر مواقع التواصل الاجتماعي في زيادة تأثيره السلبي، حيث يُصاغ بأسلوب عاطفي يجذب التفاعل والمشاركة.
خطاب الكراهية لاسيما المبني على معلومات جزئية ومضللة، يشكل تهديدًا مباشرًا للتماسك الاجتماعي والسلم المجتمعي، خاصة أثناء الأزمات، والمراحل الانتقالية على غرار ما تشهده سوريا ما بعد سقوط النظام.
يسلط تحقيق مسبار الضوء على شبكة حسابات أنشئت أغلبها حديثًا وبالتزامن مع سقوط نظام الأسد، ركزت على نشر معلومات مضللة والترويج لأقاليم ذاتية الحكم ضمن حملة تبدو مترابطة.
صفحات مشبوهة وحديثة الإنشاء تروج للحكم الذاتي والعنف الطائفي
رصد مسبار عشرات الحسابات المشبوهة التي تم إنشاؤها خلال شهر ديسمبر/كانون الأول وأواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2024، وذلك بالتزامن مع سقوط نظام الأسد.
كانت هذه الحسابات تعمل بوتيرة نشطة على نشر ادعاءات ذات طابع طائفي. وبحسب المراجعة لشبكة المتابعة، فإن هذه الحسابات تبدو مترابطة، وتظهر عليها سمات تدل على إنشائها على عجلة، مثل استخدام صور متشابهة للحسابات وإهمال إدخال المعلومات الأساسية، بما يشبه أسلوب عمل الجيوش الإلكترونية.
في شهر ديسمبر الجاري، ظهر حساب على منصة "إكس" يحمل اسم "مرصد الساحل السوري" وهو مجهول الهوية، تتابعه مجموعة من الحسابات الإسرائيلية، ويروج لفكرة إقامة أقاليم ذات حكم ذاتي للطائفة العلوية في سوريا.
في 18 ديسمبر الجاري، نشر الحساب منشورًا باللغة العبرية ادعى فيه، دون تقديم أي دليل، أن أحد العسكريين السابقين في جيش النظام السوري قُتل برصاص مسلحين تابعين لهيئة تحرير الشام، رغم أنه كان قد سلم سلاحه وأجرى تسوية.
وفي 20 ديسمبر، نشر المرصد نفسه، منشورًا باللغتين العربية والعبرية زعم فيه أن هيئة تحرير الشام ارتكبت مجزرة ضد مدنيين من الطائفة العلوية. وأرفقت الصفحة مع المنشور مجموعة من الصور المظللة، ما يجعل التحقق من صحتها أمرًا معقدًا.
من ناحية شبكة التفاعل يرتبط حساب "مرصد الساحل السوري" بمجموعة من الحسابات التي تنشر محتوى مشابهًا، ومن بينها حسابان بارزان يروجان بشكل نشط للادعاءات الطائفية. الحساب الأول يحمل اسم "Alawite Citizen"، بينما الثاني يحمل اسم "نصيري إسرائيلي". ولوحظ أن جميع هذه الحسابات تتابع صفحة "مرصد الساحل السوري" وتتفاعل فيما بينها بشكل مستمر.
منذ سقوط النظام السوري، بدأ حساب "Alawite Citizen" بالترويج لمقاطع فيديو ومنشورات ذات طابع طائفي، وفي غضون أسبوع واحد فقط من سقوط النظام، ثبت الحساب منشورًا يدعو إلى إنشاء إقليم علوي مستقل.
في الوقت ذاته، قام حساب "نصيري إسرائيلي" بإعادة مشاركة هذا المنشور على حسابه الشخصي، مما يعكس وجود تنسيق واضح بين هذه الحسابات من ناحية المشاركة والتفاعل. وعلى النحو ذاته قام حساب من ضمن الشبكة يحمل إسم “ALAWI”، بمشاركة جزء واسع من منشورات الشبكة.
الترويج للسردية الإسرائيلية والانقسامات والتحريض الطائفي
لاحظ مسبار أن بعض الحسابات التي تروج لمنشورات طائفية وتدعم فكرة الانفصال عن سوريا عملت منذ إنشائها على تعزيز سرديات تتوافق مع الرواية الإسرائيلية. على سبيل المثال، لوحظ أن أول منشورين شاركهما حساب "نصيري إسرائيلي" عند إنشائه، كانا من حساب "إسرائيل بالعربية" وحساب الصحفي الإسرائيلي إيدي كوهين الذي يعرف بكثرة مشاركته للمنشورات الطائفية وإثارة الجدل وتضليل الرأي العام.
كما رصد مسبار أن هذه الحسابات تروج في بعض منشوراتها لمزاعم تفيد بأن طوائف أخرى، مثل طائفة الموحدين الدروز، تهدد بالقيام بأعمال مسلحة ضد فصائل المعارضة.
ومع ذلك، لم يصدر عن الرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز، وهي أعلى سلطة دينية ومسؤولة عن تمثيل الطائفة، أي بيان يدعم هذه المزاعم. بل على العكس، أصدرت الرئاسة الروحية سابقًا بيانًا حذرت فيه من مشروع انفصالي وأعلنت رفضها القاطع له، مؤكدة أن الزعم بموافقتها عليه في السويداء، كان مضللًا.
تتقاطع هذه الحسابات من حيث المتابعة مع صفحات أخرى تروج لفكرة انفصال الأكراد في إقليم حكم ذاتي داخل سوريا. وبالنظر إلى طبيعة المشاركات وتشابه المحتوى المنشور، تبرز شكوك حول وجود تنسيق بينها، مما يعزز احتمالية وجود ترابط بين هذه الجهات لترويج أفكار تقسيمية وإثارة الفتنة.
مؤيدون للنظام السابق يقودون حملة دعاية إلى جانب شبكة الحسابات
كيفورك ألماسيان ناشط سوري انتقل عام 2015 إلى ألمانيا، حيث قدم طلب لجوء هناك. اشتهر بقيادته حملة دعائية واسعة لدعم نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد. كما عمل مع حزب "البديل من أجل ألمانيا" (AfD) اليميني المتطرف. ولاحظ مسبار أن حساب مرصد الساحل السوري حديث الإنشاء يتابعه.
يُعد ألماسيان شخصية مثيرة للجدل بسبب تأييده العلني للنظام السابق في سوريا، وعلاقاته بحزب يميني متطرف في ألمانيا، ومواقفه المناهضة للاجئين السوريين. وقد ورد اسمه في وثائقي قناة الجزيرة "البحث عن جلادي الأسد"، حيث أثيرت مزاعم حول ارتباطه بالفروع الأمنية للنظام السوري.
في يناير 2021، أفادت صحيفة "دي فيلت" الألمانية بأن مكتب الهجرة واللاجئين الألماني سحب صفة اللجوء من ألماسيان، مشيرًا إلى أنه لا يواجه خطر الملاحقة السياسية في سوريا وبكونه مؤيدًا صريحًا للنظام المخلوع.
منذ سقوط النظام، كثف ألماسيان نشاطه الدعائي عبر حساباته وصفحات أخرى تنشر باللغة الإنجليزية، مستهدفًا تلميع صورة النظام المخلوع وإثارة الذعر من السلطات الجديدة في سوريا. قاد ألماسيان أيضًا حملة باللغة الإنجليزية لربط تنظيم داعش بفصائل المعارضة السورية. ويُظهر بتفحص حسابه ارتباطًا بشبكة الحسابات السابقة التي تنشر منشورات طائفية وتروج لفكرة الأقاليم المستقلة في سوريا.
كما نشر ألماسيان عدة مقاطع فيديو ومنشورات مثيرة للجدل، والتي يصعب التأكد من صحتها. على سبيل المثال، أعاد مؤخرًا، إلى جانب جزء من شبكة الحسابات السابقة، نشر مقطع فيديو يُظهر حريقًا في مقام الشيخ أبو عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي في مدينة حلب. الفيديو، الذي انتشر بشكل واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يتضمن مشاهد للحريق في محيط المقام، مع ظهور مجموعة من مقاتلي هيئة تحرير الشام داخل الموقع.
أثار مقطع الفيديو موجة من الغضب والاحتجاجات في عدة مدن سورية، منها اللاذقية وطرطوس وحمص وحماة، حيث خرج المئات للتنديد بالاعتداء على مقام يُعد رمزًا دينيًا مهمًا للطائفة العلوية.
لاحقًا، كشفت تقارير إخبارية، أن الفيديو قديم، كما انتشرت مقاطع فيديو جديدة للمقام تُظهر أنه لم يتعرض لأي اعتداء أو حرق، مؤخرًا. بدورها، أصدرت وزارة الداخلية السورية بيانًا أكدت فيه أن إعادة نشر الفيديو تهدف إلى إثارة الفتنة بين السوريين في هذه المرحلة الحساسة.
وأكدت مصادر محلية أن الفيديو يعود إلى فترة الاشتباكات بين قوات النظام السوري ومقاتلي إدارة العمليات العسكرية أثناء معارك السيطرة على حلب، وهو جزء من هذه المعارك وأن الحريق لم يكن بسبب حادثة عنف طائفي.
وأوضحت أن مقام الخصيبي يقع بجوار ثكنة هنانو وعدة مقار عسكرية، وقد استخدمه عدد من ضباط النظام وميليشياته كملاذ خلال تلك الاشتباكات، ورفضوا تسليم أنفسهم، مما أدى إلى مقتلهم داخل حرم المقام واندلاع حريق نتيجة القتال. الفيديو أُعيد تداوله على أنه يوثق اعتداءً حديثًا، ما تسبب في موجة من الغضب بين الأهالي وخروج مظاهرات غاضبة.
إلى جانب حساب كيفورك ألماسيان، يدير حساب Syrian Girl، الذي تُعرف صاحبته نفسها بأنها ناشطة سورية تهتم بالتطورات السياسية، خاصة المتعلقة بسوريا، سلسلة من الادعاءات التي تسير على نهج مشابه للحسابات المذكورة سابقًا.
يرتبط هذا الحساب من ناحية المتابعة بحساب "مرصد الساحل السوري" وحساب كيفورك ألماسيان، مما يرجح أن هذه الحسابات تعمل بنمط دعائي مماثل.
اتسمت بعض منشورات Syrian Girl بتغذية خطاب الكراهية والعنف الطائفي خاصة بعد سقوط النظام في سوريا، و تحمل عدة منشورات للحساب ملاحظات تصحيحية صادرة عن مجتمع منصة "إكس".
ومن بين المنشورات المثيرة للجدل، زعم الحساب، مؤخرًا، في محاولة لتلميع صورة النظام المخلوع، أن كميات مخدر الكبتاغون التي عثرت عليها قوات المعارضة في أحد الفروع الأمنية وأحرقتها، ما هي إلا منبه خفيف ذو آثار جانبية بسيطة كان يُصنع في ألمانيا لعلاج اضطرابات النوم.
يُذكر أن مخدر الكبتاغون يُعدّ مادة شديدة الخطورة تُستخدم على نطاق واسع في تجارة المخدرات، ويُعرف بتأثيره المدمر على الصحة الجسدية والنفسية لمتعاطيه. كما ارتبط اسم النظام السابق في سوريا بشكل وثيق بتصنيع وتصدير الكبتاغون، حيث كان من أبرز مصادر تمويل النظام أثناء الحرب، إذ كشفت تقارير دولية عن تورط مسؤولين كبار وشبكات محلية ودولية في تجارته.
سلط التحقيق الضوء على خطورة بعض الحسابات المشبوهة التي تنشط على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي قد توظف كأدوات لنشر خطاب الكراهية والمعلومات المضللة بشكل ممنهج. مع الوضع الحساس الذي تعيشه سوريا بعد سقوط النظام، تزداد خطورة هذا النوع من المحتوى، إذ تعمل هذه الحسابات على استغلال حالة عدم الاستقرار لتعزيز الانقسامات وزرع الفتنة ونشر التضليل.
كما أن انتشار المعلومات المضللة أثناء الأزمات الكبرى والفترات الحرجة يقوض عملية الوصول إلى الحقائق ويعقد جهود تحقيق الاستقرار، خاصة في ظل ضعف كفاءة أدوات التحقق مقابل الكم الكبير من التضليل الذي يتدفق أثناء الأزمات.
اقرأ/ي أيضًا
كيف تؤثر المعلومات المضللة على السلم الأهلي في سوريا؟
تدفق المعلومات المضللة بعد سقوط النظام قد يفاقم حالة الذعر بين السوريين