سلسلة "إياك والعبث مع القطط" الوثائقية تعيد إلى الواقع أهمية وسائل التحقق عن بعد وأدوات الحصول على البيانات الخفية، حتى لو لم يتح الحدث التواجد في المكان ذاته، ويعيد الاعتبار لأهمية المصادر المفتوحة في التحقق من أيِّ حدثٍ مثير للجدل، بغض النظر عن المكان والزمان، ومن هنا تأتي أهمية استعراض هذه السلسلة التي أنتجتها نتفليكس، وبثتها على شبكتها عام 2019.
وهي سلسلة وثائقية قصيرة من ثلاث حلقات تستند إلى قصّة حقيقية حدثت، تهتم بتتبّع الأحداث من خلال أصحاب القصة نفسهم، ماذا شاهدوا؟ وما الذي فعلوه، أي ما الذي حدث تحديداً.
في 2010 يظهر شاب ممسك بقطة وهو يعذبها، يصوّر نفسه وينشر الفيديو على الانترنت ليراه عدد كبير، كان العديد قد شاهده، وحالة غضب واسعة، كان سؤالاً مفرغاً، فلا يوجد أي معلومات ظاهرة، لا أين ولا من ولا أي معلومة، بمن سيتصل الناس؟ من هذا الذي يمكنه تحديد هوية شخص يظهر بالفيديو من خلال ملابسه وجانب يظهر جزءاً من وجهه ولون شعره؟ وحتى بأي قسم شرطة ستتصل؟ قد يكون في سايبيريا، قد يكون في أوروبا، قد يكون في أيّ مكان!، لتظهر مجموعة عامة على منصة فيسبوك هدفها ملاحقة خانق القطط هذا.
البحث عن بعد
بداية البحث كانت بانتقال هذه المجموعة من فكرة البحث عن الشخص نفسه من صورته، إلى البحث من خلال العناصر الظاهرة في المقطع، أي منهجية مختلفة تماماً، واستطاعوا تجزئة المقطع إلى صور بواسطة أدوات كـ InVid.
وبواسطة عناصر متعددة تظهر في الصورة التي فصلوا أجزاءها عن بعضها لتغدو كشكل القابس الكهربائي يمكن أن تعرف أنه موجود في شرق أميركا لا في بريطانيا مثلاً، ومن خلال تقسيم المقطع لأجزاء، تمكنوا إعادة تمثيل العناصر على نموذج خاص بهم، بعد تحويل جميع مقاطع الفيديو إلى لقطات مصوّرة، واكتشفوا من خلال البحث على شكل غطاء السرير الظاهر في الفيديو أنه معروض على موقع ebay، وموّرده الأول في أميركا الشمالية، أي أنه ليس في أوروبا.
ومن خلال تحليل الأصوات في الخلفية، استطاعت فتاة من أعضاء الفريق، وهي أوكرانية المولد، أن تتعرف على اللغة الظاهرة في الفيديو، وهي روسيّة، لكن بتفحّص أدق يكتشفون أنَّ هذه الأصوات من آلة تسجيل لا أصوات طبيعية، وأنه صوت لحلقة من برنامج روسي ساخر.
بعدها يظهر فيديو آخر، للشخص ذاته والغرفة ذاتها، وهو يلعب مع القطتين بعد قتلهما، ليقوم بوضع رابط من حساب مزيف له ممسكاً بالقطتين بعد أن طمس وجهه، بالتالي أدركوا أنه يبحث عن إثارة الانتباه، والأهم أنَّه مُطّلع على بحثهم، لكن هذا المقطع الجديد أظهر لهم علبة سجائر في الغرفة، وبمعرفتهم المسبقة فإنَّ السجائر تختلف من مكان لآخر؛ فاكتشفوا أنها من أميركا من خلال عبارة التحذير على العلبة "تحذير من كبير الأطباء" وهذا المنصب موجود في أميركا، فكان هذا أهم اكتشاف لهم.
وظهر في الفيديو نفسه مكنسة كهربائية صفراء، واستطاعوا تحديد الشركة المصنّعة لها، وكانت لا تُباع إلا في أميركا الشمالية، إذن فهو دليل آخر لنفس الرقعة المكانية، أي يمكنهم البحث في المكسيك أو أميركا أو كندا، هذه الدول فقط.
لاحقاً ظهر تعليق مستفز، وعندما بحثوا في الحساب الذي وضع منه التعليق كان يشير إلى ناميبيا في أفريقيا، مع أنَّ كل الأمور كانت تشير سابقاً إلى أميركا الشمالية، وليس من المنطقي الانجرار إلى ما يريده صاحب التعليق، ولعله يكون ذاته صاحب الفيديو، أو هكذا كان الحدس، فقاموا بالبحث عن الصورة المستخدمة من خلال أداة تتبع TinEye، فوجدوا أنَّ الأمر برمته مزيّف لتضليلهم عن مسار بحثهم، وأنَّ الصورة مستخدمة سابقاً.
هو شخص مشهور!
تصلهم رسالة من حساب مزيف، تقول لهم أنَّ من يبحثون عنه هو شخص يدعى "لوكا ماغنوتا"، شخص له آلاف النتائج على جوجل، وقناة يوتيوب يستعرض بها شخصيته وصوره، فيحاولون ربط ما ظهر من وجهه في فيديو قتل القطط وبين ما يظهر أمامهم، فأحسوا أن هناك أمراً خاطئاً، بالنظر إلى الصور فإنَّ لون الجلد لا يتطابق مثلاً، ووجه ماغنوتا لا يحمله ذات الجسد دائماً، فوجدوا بعض أصل هذه الصور، فتبيّن أنه يعدلها ويضع وجهه ليزيد من عدد صوره خلال سفره أو مشاركته في فعاليات هنا وهناك لإثارة الانتباه.
ومن خلال مقطع له يخوض تجارب أداء لبرنامج تلفزيوني، يكتشفون أنَّ هذا البرنامج في كندا، هنا تحوّل الأمر من تتبّع لهوية الشخص، إلى ملاحقته وتحديد مكانه، أيضاً باستخدام المصادر المفتوحة، بسبب نرجسيّته كان ينشر الإشاعات عن نفسه وينفيها، بمقابلة صحفية مثلاً ليجذب الانتباه.
الفريق بدأ بعملية تضييق رقعة البحث شيئاً فشيئاً، فبحث في كلّ صورة له على حدة، آلاف الصور، واثقاً أنه سيقع في مصيدة واحدة على الأقل ويترك ذلك "الأثر الرقمي" digital footprint له، فعند التقاط أيّ صورة هناك ما يسمى بالبيانات الرقمية تخزن في الصورة، تسمى "بيانات الملف الصوري المتبادل"، تظهر آلة التصوير التي التقطت الصورة وتاريخ الصورة وإحداثيات موقعها، بالتالي فعبر رفع أيّ صورة على مواقع لأدوات محددة مثل EXIF metadata يمكنك استخلاص كافة المعلومات عنها.
بالفعل وقع لوكا ماغنوتا، وقادتهم صورة واحدة إلى إحداثيات متجر في تورنتو كندا وكان تاريخها في نهاية شهر يناير لعام 2010، ومقطع قتل القطط كان قد تم تصويره قبلها بشهرين في نوفمبر/ تشرين الثاني، هذا يعني في خارطة التعقّب الزمني أنَّاحتمال وجود ماغنوتا في تورنتو خلال هذه الفترة كان كبيراً.
وفي صورة أخرى لماغنوتا يقف على شرفة شقته وتظهر إشارة ضوئية واسم محطة وقود، وببحث سريع على خرائط جوجل google maps، ستجد مئات من المحطات تحمل ذات الاسم، ثم عبر خاصية المعاينة المباشرة أو street view بدؤوا يتجولون في شوارع تورنتو بحثاً عن محطة قود تقع على منعطف الإشارة الضوئية وبجوارها مجمع سكني، بمعنى آخر معاينة افتراضية لذات المعالم التي تظهر في صورة ماغنوتا، فحصلوا بذلك على العنوان الفعلي للشارع ورقم المجمع السكني.
لاحقاً يفشل المهووسون بالتعاون مع الشرطة المحلية في تورنتو بالإمساك بماغنوتا لمغادرته إلى روسيا بحسب السلطات المحليّة، فتبدأ رحلة تتبّع جديدة. لينتشر بعدها مقطع آخر لقطة يتم إغراقها في حوض استحمام، تلاه مقطع لثعبان يقتل قطة،لتتسارع الاحدث وينشر مقطعاً لكن هذه المرة لإنسان يُقتل، ليأخذ التتبع والملاحقة مرحلةً أكثر جدّيةً.
الإمساك بالقاتل
عبر مقطع كان قد نشره ماغنوتا على قناته على موقع يوتيوب، كان قد أظهر صورة يشاهدونها لأول مرة حيث يظهر خلفه أشجار ببداية التبرعم توحي بقرب وقت تصويرها، لكن من خلال شكل الإشارة الضوئية التي تختلف من مدينة لأخرى عثروا عليه، إنه في مونتريال كندا، مجدداً بواسطة خرائط جوجل وخاصية مشاهدة الشوارع كانوا يعاينون المدينة بأكملها شارعاً بشارع، ويجوبونها رقمياً، ليجدوا السلالم ذاتها التي تظهر في الصورة بذات الأبعاد، تشير لجامعة مكغيل.
بدأت أخبار الجريمة تظهر في المحطات المحلية في كندا، وعاد فريق مدمني الانترنت لمساعدة السلطات، كان قد ظهر جرو في مقطع الجريمة، وقد قتل هو أيضاً، فبحثوا من خلال موقع شهير يدعى craigslist للبحث (اقتناء حيوانات، مواعدة.. إلخ)، وقرؤوا كل المنشورات والطلبات فيه في الفترة الزمنية التي سبقت الحادثة، من خلال تتبّع أسلوب كتابة ماغنوتا في مدوناته كالفواصل وتهجئة كلمات محددة بشكل خاطئ وتكراره لكلمات معيّنة،عرفوا أنَّ مجموعة المنشورات تلك هي لماغنوتا بنفسه.
لاحقاً من خلال الأدلة الجنائية علمت شرطة مونتريال هوية القاتل وهو ذاته لوكا ماغنوتا، لكنهم ما زالوا بحاجة لفهم من هو هذا الشخص وما أسلوبه ومعلومات شاملة عنه.
وهنا كان يلزم بناء مصداقية جديدة مع شرطة مونتريال خاصة بعدأن طلبت الأخيرة من فريق المهووسين إدخالهم على مجموعة التعقّب الخاصة بالفريق على فيسبوك لجمع الأدلّة والمعلومات التي استخلصها الفريق خلال سنتين من البحث والتعقّب.
ما فعله أعضاء الفريق هو أنهم نجحوافي تتبّع مسيرة لوكا ماغنوتا مذ كان عمره ١٨ عاماً عبر إعادة رسم شريط زمني له من خلال صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي فقط، واستطاعوا إيجاد مكانه أكثر من مرة تارة عبر صورة عشوائية له يظهر فيها طرف لوحة لمحطة بترول أو إشارات مرور غير مألوفة، وغيرها من دلائل بسيطة ينطلقون منها ويضيّقون رقعة بحثهم، أي أنهم كانوا يدققون بكل شاردة وواردة، صغيرة أو كبيرة، وينتقلون بنتائجهم إلى نقطة تالية أهم.
بعد رحلة تعقّب طالت، وباستعانة بالإنتربول، تمكنّت السلطات الكندية من إلقاء القبض على لوكا ماغنوتا في فرنسا والحكم عليه بالسجن لمدى الحياة.
المصادر المفتوحة.. صحافة المستقبل
تظهر أهمية تتبّع القضايا ذات المصادر المفتوحة وتوثيق الحقائق في قضايا المساءلة والشفافية، وإظهار الرواية الموثقة في مقابل الروايات المضللّة والزائفة، فتسارعت أهمية هذا الحقل الجديد، وأنشأت واحدة من أهم صحف العالم "نيويورك تايمز" منصّة تابعة لها لإنتاج التحقيقات المرئية، ويعتمد بعضها على المصادر المفتوحة، وظهرت منصات جديدة كـ belling cats، وأدوات تحقق من المعلومات لمواكبة عصر سيولة المعلومات.
هذه المنصات أنتجت خلال السنوات الماضية عشرات التحقيقات العابرة للحدود كانتهاكات قوات الشرطة في هونغ كونغ ضد المتظاهرين، مروراً إلى العراق وسوريا وغزّة، وليس انتهاءً بالصواريخ الإيرانية والانتهاكات الإنسانية في اليمن.
في حراك لبنان عام 2019 ظهر الرئيس ميشال عون بعد ثمانية أيام من خروج المتظاهرين إلى الشوارع للمطالبة بعدّة إصلاحات اقتصادية وسياسية وغيرها، بُثّ مقطع على القنوات الفضائية وظهر على الشريط كلمة "مباشر"، نشرت منصة بيلينجكات تحقيقها بعد ذلك أثبتت فيه أن المقطع الذي تم بثّه لم يكن مباشراً، وإنما مسجلاً ومقطعاً وجرى تجميعه وتعديله وبثّه لاحقاً.
حتى يُفهم الأمر بشكل أفضل، مجموعة من النشطاء والصحفيين السوريين استطاعوا من خلال المصادر المفتوحة إثبات تورط شركات أوروبية ببيع مواد استخدمت في جرائم حرب، من خلال تتبّع الشحنات ومسار الطائرات، ولاحقاً انتزاع قرار بمعاقبة هذه الشركات التي صدّرت مواد كيماوية إلى النظام السوري وتم استخدامها في قصف المدنيين بغاز السارين.
المصادر المفتوحة تأتي كأداة في يد الصحفي وحتّى المواطن، لتثبت أو تنفي ذلك الحدس بأنك تملك الكثير من أنصاف الخيوط التي تشير إلى النقطة، لكنك لا تستطيع إيصالها أو إثبات شيء حاسم لمن يملك اتخاذ القرار، كما في حالة متعقّبي قاتل القطط الافتراضي في السلسلة، وهو أمر قد نتجاوزه مع الزمن بتطوير أدوات أكثر دقة وحسماً لتوثيق المصادر والبيانات المفتوحة.