كيف بهت أَلْقُ صحافة المواطن ؟
إنّ المساحة الحرة التي توفرها شبكة الانترنت للجميع، تجعل لكل مستخدمٍ حقّه في التعبير عن رأيه مهما كان هذا الرأي يبدو غير مقبولٍ للآخر، ومهما كان الآخر رأيه غير مقبولٍ للطرف الأول، ففي هذه المساحة تتوازن سلطات الجميع، ولا تكون للصحافة سلطةٌ رابعة، كذلك ليست هناك سلطةٌ قضائيةٌ أو تنفيذيةٌ أو تشريعيةٌ لها قدرة على التحكم فيما يكتبه الناس، إلا أنّ هذه السلطات تظهر بعد أن يكتب هؤلاء آراءهم وتعليقاتهم وينشروا فيديوهات أو صور- أي في العالم الحقيقي-، تبدأ الملاحقات والمساءلة القانونية وربما العقاب غير القانوني، وبذلك تنمو الرقابة الذاتية عند جميع المواطنين ويصبح الرقيب الذاتي مصطلحاً لا يُستخدم لوصف عالم الصحافة فقط بل وعالم الانترنت للمستخدمين العاديين؛ ولذلك نرى أنّ صحافة المواطن في السنوات الأخيرة غدت غير فعالة، وذهب أَلْقُها الذي كان في أوّجَه خلال السنوات الأولى من الربيع العربي وفي إرهاصاته المبكرة.
الآن تدهور الوضع إلى درجة أنّنا نرى النخبة المثقفة تطالب بالرقابة الإلكترونية، وسن قوانين، وتنسى هذه النخبة أنهم سيغيّرون بذلك شكل هذا السوق الحرة من الأفكار والأمزجة إلى الأبد، بل يريدونه أن يصبح كما هي الصحافة التقليدية التي تميل إلى طرف من يُموّل أو يضع سياسات التحرير، يقول " جان فرانسوا جوليار الأمين العام السابق لمنظمة "مراسلون بلا حدود" "توفّر شبكة الإنترنت مساحة فريدة لمناقشة المعلومات وتبادلها كما تُقدّم محرّكاً للاحتجاج والتعبئة بما تمثله من بوتقةٍ تولد فيها المجتمعات المدنية المخنوقة وتتطور. وفي ظل نمو القدرة على التعبئة لدى مواطنين إلكترونيين أكثر ابتكاراً وتضامناً من أي وقت مضى. الإنترنت، مساحة للتبادل والتعبئة في البلدان السلطوية حيث ترزح وسائل الإعلام التقليدية تحت سطوة النظام، ومن هنا يرتسم ميل عام إلى تشديد الرقابة على مساحة التعبير هذه في عددٍ متزايدٍ من البلدان".
وكان فرانسوا أحد الذين طالبوا باعتماد هذا التاريخ الموافق 12 مارس/ آذار كيوم عالمي لمكافحة الرقابة الإلكترونية في العام 2008 حين أرسل خطاب كتبه مع لاري كوكس-المدير التنفيذي لمنظمة العفو الدولية "أمنستي"- إلى كبار المسؤولين التنفيذيين في جوجل، وياهو، وإنك، وشركة مايكروسوفت؛ لطلب الاحتفاء بهذا اليوم، وهذا ما حدث إضافةً إلى أنّ عام 2010، بدأت السنوية الأولى لمنح جائزة نتيزن، برعاية جوجل، وهي تمنح للمحتوى المنشور عبر الانترنت.
وفي غضون ذلك كانت منظمة العفو الدولية "أمنستي" وغيرها من المؤسسات الحقوقية تركز على الحق في التعبير الإلكتروني ورصد الانتهاكات، ففي عام 2017 ذكرت "أمنستي" أنّ هناك خمساً وخمسين دولةً في العالم يُقبض فيها على أشخاص بسبب تعبيرهم السلمي عبر الانترنت، وفي كل عام تقوم الحكومات في العالم بتقييد حرية الإنترنت بشكل متزايد .
كما نبّه التقرير ليس فقط إلى تزايد الرقابة الحكومية على الانترنت وأجهزة الاتصالات بل إلى عدم اكتراث شركات التكنولوجيا؛ لخصوصية مستخدميها.
وفي دراسة ترجمها موقع "مسبار" قامت بها مؤسسة بروكنجير Brookings أوضحت أنّ بعض الحكومات وضعت لوائح وقواعد حكومية؛ للتحكم في تدفق المعلومات ومراقبة المحتوى على منصات التواصل الاجتماعي، فمثلاً أنشأت إندونيسيا وكالة حكومية "لمراقبة الأخبار المتداولة عبر الانترنت، ومعالجة الأخبار المزيّفة".
في الفلبين، قدّم السيناتور جويل فيلانويفا مشروع قانون من شأنه أن يفرض عقوبة السجن لمدة خمس سنوات على أولئك الذين ينشرون أو يوزعون أخباراً مزيّفة، والتي عرَّفها التشريع أنّها: أنشطةٌ تسبب الذعر، والانقسام، والفوضى، والعنف، والكراهية أو تلك التي تعرض دعاية؛ لتشويهأو تلويث سمعة أحدٍ ما.
وأدان النُقّاد تعريف مشروع القانون للشبكات الاجتماعية، والتضليل، وخطاب الكراهية، والكلام غير القانوني باعتباره واسعاً أو عامّاً جداً؛ إذ يعتقدون أنّه ينطوي على خطر تجريم الصحافة الاستقصائية، وتقييد حرية التعبير.
إلّا أنّه تبقى هناك دائماً حجةً قويةً عند واضعي هذه القوانين ومقترحي فرض الرقابة على المحتوى الإلكتروني ألا وهي انتشار الإشاعة والأخبار المزيّفة وتسويقها لأغراضٍ بعينها وخدمة سياسات محددة، لكن أليس هناك وجهٌ قبيحٌ من كل شيء، ومن الممكن معالجة هذا المحتوى بطرق أخرى، أحدها يشبه هذا المنبر "مسبار" كأداة لفحص المعلومات والأخبار؛لذلك من المهم أن تكون هذه التجربة متكررة وملاصقة للمواقع الإلكترونية وللمؤسسات الإخبارية عبر الإعلان اليومي عن الأخبار الوهمية والمعلومات المضلّلة، دون إضفاء الشرعية عليها، ويمكنهم ذلك من خلال الاعتماد على محترفين ومدقّقين للحقائق يعملون معهم في نفس المؤسسة من أجل توعية المستخدمين بهذه الأخبار والمعلومات المضلّلة، وتنمية الحس النقدي لديهم، وهذا أيضا يقع على المؤسسات التعليمية ليتعرف الطلبة على المحتوى الإلكتروني مبكراً، فيجب أن يكون القارئ مشككاً فيما يقرأ حتى يقتنع بصوابية المعلومة، كما على الحكومات العمل على محو أمية الانترنت، أما الشركات العالمية لمنصات وسائل التواصل الاجتماعي فمن مهامها محاربة الحسابات والمعلومات الزائفة، ودعم الحسابات الحقيقية.
إلّا أنّ كل هذه الإجراءات لو حدثت لن تكف أيدي الأنظمة القمعية عن مواطنٍ غرّد برأيه على تويتر أو كتب تعليقاً لدى معارضٍ سياسي، فالأمر يحتاج إلى قانون يضمن حماية هذه الحرية الشاسعة للانترنت وليس تقنيّنها، فضمان وِسعها يعني ضمان حرية التعبير، وبالتالي نمو المسؤولية الاجتماعية بين المستخدمين، والقمع سيفعل عكس كل ذلك، بل لن نرى قريباً صحافة المواطن تمارس دوراً كاشفاً ورقابياً وتضامنياً كما فعلت يوماً في زمن الربيع العربي!.