بالحديث عن التحيز، هناك فيلم يظهر حقاً كيف يمكن للتحيز أن يؤثر بشكل كبير على تقييم الناس تجاه قضية ما، دون معرفة الحقائق، حتى أن الأمر قد يتسبّب في قتل الأبرياء. لنراجع أحد أفضل الأفلام الذي ناقشت مشاكل التحيز.
يبدأ فيلم " 12 Angry Men" (12 رجلاً غاضباً )، بطفل يبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً، يُحاكم داخل قاعة المحكمة في مدينة نيويورك الأميركية، بتهمة قتل والده الذي أساء معاملته. ويتم حجز هيئة محلفين مكونة من اثنا عشر رجلاً في غرفة المداولات لتقرير مصير الطفل، الذي كل الأدلة كانت ضده وحكم الإدانة سيرسله ليموت على الكرسي الكهربائي. يُبلغ القاضي المحلفين بأنهم يواجهون قراراً خطيراً وأن المحكمة لن تقبل بأي رحمة للطفل إذا ثبتت إدانته.
فالأمر كله يتوقف على 12 محلفاً شاهدوا إجراءات المحاكمة من البداية إلى النهاية. ونظام محاكم القانون العام الذي تتبناه الولايات المتحدة، هو أن المحلفين هم الذين يقررون بالإجماع ما إذا كان المدعى عليه مذنباً أم بريئاً. لذلك، بعد أن أكمل المدعون ومحامو الدفاع واجباتهم، وأدلى الشهود بشهاداتهم، كانت هناك أدلة كافية، ثم أعطى القاضي للـ12 محلفاً، وهم أشخاص من خلفيات مختلفة، ولاية التفاوض ليقرروا بالإجماع ما إذا كان المتهم مذنب أو بريء.
عندما جلست هيئة المحلفين في الغرفة الخلفية واحداً تلو الآخر، فإنهم يلقون نظرة أخيرة على المدعى عليه؛ طفل منهك، هزيل، يرتجف من الخوف. وفي الغرفة الخلفية الضيقة، المزاج مرح على الرغم من الحرارة الشديدة ووقار الموقف. قررت هيئة المحلفين على عجل إجراء تصويت من أجل العودة إلى حياتهم العادية، دون مناقشة القضية وكل جوانبها، ولم تقم بدورها المطلوب منها، كما لو أن الحكم هو نتيجة ضائعة والنتيجة الوحيدة الممكنة هي إدانة الطفل.
قالت الهيئة في بداية الجلسة إن الأطفال دائماً مذنبون، وكان الشهود جميعاً يشيرون أن الطفل بالفعل مذنب. وذهبوا مباشرة للتصويت ومع ذلك، فإن النتيجة من بين 12 محلفاً، كان 11 شخصاً فقط حكموا بأن المدعى عليه مذنب، دون مراجعة كافة تفاصيل القضايا. والشخص الذي صوت بأنه غير مذنب هو المحلف رقم 8. ووفقاً للقاعدة لا يمكن تصنيف 11 صوتاً على أنها تزكية، لذلك يجب أن يقرروا جميعاً من 11 صوتاً إلى 12، أو العكس. لكنها لم تكن مهمة سهلة، خاصةً بالنسبة للمحلف رقم 8 الذي كان يقف وحيداً في صف أن الطفل غير مذنب، ضد 11 آخرين ضغطوا عليه بسبب اختياره.
المحلف رقم 8 نفسه لم يكن متأكداً مما إذا كان المدعى عليه بريئاً حقاً، أم لا، لكن بالنسبة له ليس من المناسب تحديد حياة شخص في خمس دقائق فقط من أجل أن يعودوا إلى حياتهم. وكان أقل يقيناً من أن المدعى عليه مذنب، وهو ما يسمى في الفيلم بـ"الشك المعقول".
لا يمكن للمحلفين الآخرين قبول هذا السبب، في الأجواء التي لا معنى لها والساخنة، مع تقاطع الآراء، وحرب الكلمات وقصف الأنا المختلفة، يبدؤون في الجدل والجدال لإقناع المحلف رقم 8 بأن الطفل مذنب وينتهي الأمر.
في هذا الفيلم، تصبح الحوارات الذكية هي العامل الرئيسي، إذ أظهر المحلفون أنهم لا يناقشون فقط بدون هدف، لكنهم استخدموا حجة بناءة، للحقائق القائمة على الأدلة والشهود، وكذلك بعض النظريات لدعم رأي الشخص الآخر. ويتم منح كل شخصية وقتاً وجزءاً للتباهي، بحيث يتم تسليط الضوء على شخصيات المحلفين الـ 12. وهناك أشخاص مختلفون بشخصيات مختلفة، المحلف رقم 1 الذي ينظم الأشياء ويقود الآخرين، المحلف رقم 2 من السهل جداً ترهيبه، المحلف رقم 3 الفخور جداً ولن يعترف بأنه مخطئ حتى الأخير، المحلف رقم 4 الذي يبالغ في الثقة، المحلف رقم 5 ذلك يخاف من التعبير عن آرائه وتركوه في حالة ركود، المحلف رقم 6 الذي لا يفهم تماماً ما يجري، المحلف رقم 7 الذي يأخذ الأمور بسهولة حتى لو كانت حياة بشرية، المحلف رقم 8 الذي هو بطلنا يمتاز بالهدوء والذكاء، المحلف رقم 9 الرجل العجوز الحكيم للغاية، المحلف رقم 10 الذي دائماً ما يغضب ويترك تحيزه يلقي بظلاله على ملاحظته، المحلف رقم 11 الذي هو صانع ساعات ومهذب للغاية والمحلف رقم 12 الذي يسير مع التيار.
طوال الفيلم، نرى المحلف 8 يقف بمفرده على الجانب "غير المذنب"، ويقول إن الأدلة ظرفية، والشهود ضعيفون، ولا يوجد ما يكفي لإدانة الطفل بعقوبة الإعدام لأن هناك شكاً معقولاً في إدانته. ويحاول كسب زملائه المحلفين فقط لمناقشة القضية والاطلاع على كافة التفاصيل، ليقرروا بشكل واضح مصير الطفل. على الرغم أنه مازال غير مقتنع ببراءته، فهو يرغب ببساطة في مناقشة نتيجة القضية بما لا يدع مجالاً للشك، وهو أمر يبدو أن الرجال الـ 11 الآخرين غير مستعدين للقبول فيه. وبعد ساعة من المحاولات لاقناع المحلفين بضرورة المناقشة، دون فائدة، اقترحوا أن يجروا تصويتاً آخر، وإذا كانت النتيجة نفس الشيء، سيكون القرار بالإجماع أن الطفل مذنب، لكن بعد إجراء التصويت أصبحت النتيجة 10-2، إذ أن المحلف 9 انضم لرقم 8 ويغير تصويته لغير مذنب، ليس لأنه كان مقتنعاً، ولكن لأنه اعتقد أن المحادثة يجب أن تستمر. ثم بدأ المحلف رقم 8 في مناقشة القضية، وشكك ببطء في التفاصيل، ولكن بشكل منهجي، من أجل الوصول إلى الحقيقة.
يعيش الفيلم ككلاسيكية خالدة بسبب الموضوع العميق الذي يتعامل معه، واللغز الخطير في الحبكة. إنه استكشاف مثير للعديد من الموضوعات مثل التحيزات البشرية، والحواجز الطبقية، والثبات الأخلاقي، والعدالة. وفي جو مكثف من غرفة مزدحمة وساخنة، يتصارع 12 محلفاً على قرار إرسال طفل إلى وفاته.
مع تفكك كل طبقة، تضاءل عدد الأشخاص الذين كانوا متأكدين من أن الطفل مذنب، وطوال الفيلم نشاهد هيئة المحلفين تتجادل حول هذه المسألة. وهناك مزيج من الازدراء ونفاد الصبر والإحباط منهم لأنهم فشلوا في التوصل إلى حكم بالإجماع.
يستمر الجدل ونرى ببطء العقليات المختلفة لجميع المحلفين، وكل الأسباب التي دفعتهم إلى القفز إلى الاستنتاجات؛ من نفاد الصبر والتحيز إلى الهواجس الشخصية والغضب. ومع بدء كل هذه الأسباب في التلاشي، يبدأ الرجال الغاضبون في الغرفة في مواجهتهم وجهاً لوجه، بحلول الوقت الذي تصل فيه الدراما إلى ذروتها، يمكن أن يشعر كل من المحلفين والمشاهد أن هذه المحاكمة لا تتعلق فقط بطفل، بل تتعلق بإنسانيتنا ككل.
يستمر المحلف 8 بشكل قاطع في عرض شهادات الشهود والأدلة، ويبحث عن أدلة جديدة حتى أن المحامين قد فاتتهم. وبضبط النفس الذي لا يضاهى، يفضح عيوب الشخصيات والأيديولوجيات الفاشلة والتحيزات غير العادلة للمحلفين الآخرين. سواء كان ذلك بسبب العنصرية الصارخة عندهم أو الكراهية المؤلمة، فإن المحلف 8 يجبر المحلفين الآخرين بمهارة على تجاوز أحكامهم المسبقة والحصول على حكم محايد تجاه المدعى عليه، لأنه كما يقول المحلف في نهاية الفيلم "التحيز يحجب الحقيقة دائماً".
نقطة التحول في الفيلم، هي عندما اظهر المحلف رقم 8 سكيناً مطابقاً للسكين المستخدم في القتل، اشتراها من نفس حي المتهم في الليلة السابقة. إنها لحظة مؤثرة بسبب الاحتمال الملموس أن يكون لدى شخص آخر نفس السكين بالضبط. ثم أجروا تصويتاً آخر بعد ذلك، وقام أربعة محلفين إضافيين بتغيير تصويتهم، حيث أنهوا الجزء الأول من الفيلم بستة أصوات مقابل ستة.
نقطة تحول أخرى في فحص الأدلة هي عندما أدلى المحلف رقم 5 بتصريحات حول الرجل العجوز الذي شهد ضد الطفل. وأكد على أن الشهود يمكن أن يرتكبوا أخطاء أيضاً، يلهمهم ذلك لمعرفة المزيد عن القضية. واستمر المحلف في العرض الملموس لأعضاء هيئة المحلفين الآخرين وساعدهم على فهم ما سمعوه مقابل ما كان ممكناً، مما يجعله ملموساً.
تستمر المناقشة في النصف الثاني من الفيلم، ويستمر أيضاً الجدال والكبرياء من بعض المحلفين، على الرغم من الحجج والأدلة الواضحة التي بدأت أن تظهر، لكن كان من الصعب أن يتنازل البعض عن رأيهم بسهولة، حتى أصبح الموقف يبدو كدفاع عن موقفهم السيء الذي اتخذوه من البداية وليس دفاع عن الحقيقة التي ظهرت مع مناقشة كل أبعاد القضية، والموضوع أخذ وقته المستحق لعرض الحقائق.
وعلى الرغم من عناد بعض المحلفين استمر المحلف رقم 8 والمحلفين الذين صوتوا بعد ذلك بغير مذنب، في مناقشة حقائق أخرى في القضية. وبدأ كل الآخرين واحد تلو الآخر يتنازل عن كبريائه وعناده، ويناقش بعقل وحكمه. وبعد وضوح كل تفاصيل القضية وكل الحقائق والأدلة طرحت أمامهم، صوت الجميع في النهاية بأن الطفل غير مذنب، وليس هو من قتل والده.
من خلال مشاهدة هذا الفيلم، يمكننا أخذ بعض الدروس التي يمكننا تطبيقها في مواقف العالم الحقيقي. الأول هو أهمية المناقشة، ولا نستخدم طريقة التصويت المباشرة دون مناقشة، لأنها ستعتمد على الأغلبية. وأن المداولة في الإجماع هي أفضل طريقة لاتخاذ القرار، خاصةً إذا كان القرار مهماً للغاية، لأنه بهذه الطريقة يمكننا سماع رأي بعضنا البعض قبل اتخاذ قرار.
درس آخر هو أن الأغلبية ليست صحيحة دائماً والأقلية ليست بالضرورة على خطأ، ويحق لأصوات الأقليات سماع صوتهم حتى لا تقمعهم الأغلبية بشكل مباشر. ويعطي المحلف رقم 8 فكرة عن مدى فاعلية التواصل المقنع، وهي طريقة فعالة لتغيير عقول وسلوكيات من تختلف معهم. على الرغم من أنه أصبح أقلية، فلا يهم. طالما يمكننا دعم حجتنا.
يعلمنا المحلف رقم 8 أيضاً التزام الهدوء، ومراقبة السلوكيات الأخرى وإعداد دليل قوي في النهاية، بتحليل نقدي ومنطقي وعقلاني مدعوم بالحقائق. وسعى إلى التآكل التدريجي للعيوب التحليلية للشهود والأدلة. علاوة على ذلك، فإن عزمه وتصميمه جعل المحلف الآخر يغير رأيه بنجاح.
الدرس التالي هو إذا كنا لا نعرف الحقيقة على وجه اليقين، فيجب أن نفكر جيداً ويجب إبعاد جميع القضايا الشخصية والعواطف والأحكام المسبقة قبل اتخاذ القرار، والبحث عن شك معقول. والأهم من ذلك، يجب أن نعترف بأنه إذا كنا مخطئين، فلا نكون عنيدين ونستمر في تجاهل الحقيقة التي قدمت لنا.
الشيء الأخير والأهم، تحديد ما إذا كان الشخص يستحق الموت أم لا هو أحد القرارات الكبيرة التي يجب أن نتحمل المسؤولية عنها لبقية حياتنا، وليس قراراً تافهاً يمكننا أن نقرره بسرعة وعاطفية الطريق. وليس من المنطقي حتى أن تحكم على شخص قبل أن تعرفه، فهذا غير عادل بالنسبة له. ناهيك عن إلقاء اللوم على شخص دون دليل ومنطق واضح.
من دون شك، يحتاج كل شخص يعيش ويعمل في مجتمع حديث إلى مشاهدة هذا الفيلم. على الرغم من أنه تم إنتاجه منذ أكثر من 60 عاماً وباللونين الأبيض والأسود، إلا أن هذا الفيلم وشخصياته لهما صلة مذهلة بعالم اليوم.
الفيلم بطولة الأميركي هنري فوندا، ومن إخراج سيدني لوميت وكتابة ريجنالد روز، مستوحى من مسرحية تلفزيونية كتبها ريجنالد بنفسه. وتدور أحداثه في غرفة واحدة لمدة ساعة وستة وثلاثين دقيقة.