من أنا؟ السؤال الذي يلحّ في النفس البشرية ويضرب كالمطرقة، عميقاً فيها، منقباً عن الجوهر الحقيقي للذات، فالمشهد الإنساني برمته كان غنيّاً بمحاولات بحثية جادة من علماء النفس، الفلاسفة والروحانيين على حدٍ سواء، لفهم ماهية الذات الحقيقية للإنسان.
ذهب الكثير من المفسرين إلى فهم الذات الحقيقية على أنها تلك المتجلّية في أعماق الإنسان من الداخل والواعية لعظمتها، وليست التي تتجلى في صور ذهنية تنسجها كل عناصر العالم الخارجي حولها.
الكاتب إيكهارت تول، أشار في مؤلفه "أرض جديدة" إلى تجرد الذات من كل أشكال التماهي مع الشكل، الممتلكات، الشهادات، المراكز الإجتماعية، إلخ.. وبناء عليه، فالذات تستقي قيمتها من عمق كينونتها وليس فيما تمتلكه من إضافات في رحلة الحياة، فالذات هنا هي المتدرجة في الوعي على الدوام، المراقبة لأفكارها، مشاعرها وسلوكياتها والقادرة على إيجاد مساحتها العادلة في الحكم على الأشياء بموضوعية وحيادية بعيداً عن انحيازات مسبقة.
إذاً، ماهي الذات المزّيفة أو مايُعرف بـ"الإيجو"؟
في كتابه "The Ego is the Enemy"، عرّف ريان هوليداي الإيجو، بأنه ذلك الجزء المبالغ في صورته عن نفسه، الساعي طلباً للثناء - وإن كان غير مستحق- والكاره للنقد - وإن كان يستحق.
ويمكن القول إنَ الإيجو ذاتٌ مزيفة، تقيم نفسها على أساس الصور الذهنية والأفكار المستمدة من العالم الخارجي عنها، أو بصورة أخرى هي الهوية المتشكلة من كل ماهو خارجيّ، فكلما اشتد التصفيق من حولها، كلما تضخم إحساسها بوجودها إلى الحد الذي يجعلها تُخدَع بزيف هويتها الجديدة. في سياقٍ آخر، الإيجو يتغذى على المبالغة في كل شىء، في التصورات والأشكال المُتخيّلة، وكنتيجة لهذه المبالغة، فإنها تؤول إلى أمرين: تضخّم الإحساس بالذات أو قلة تقديرها.
ماهو المحرك الأساسي للإيجو؟
الدافع الأساسي للإيجو هو "الخوف"، كونه يسعى لأن يكون مشبعاً، مثاليّاً وكاملاً، وبمجرد شعوره أنه غير كافِ، يحاول الظهور بأفضل صورة، وعلى أكمل وجه.
أغنية البوب المعروفة "لا أستطيع الحصول على الإشباع"، التي أصبحت فيما بعد أيقونة من الأعمال الكلاسيكية، هي تجسيد بشكل أو بآخر لدوافع الإيجو التي ينطوي فيها الشعور بالخوف من أن تكون ذات نكرة وغير مقدرة. ومن هنا يصبح المرء في حالة لهاث لاكتساب معارف أكثر، ممتلكات، طرق تفكير جديدة والمزيد من الاعتراف؛ حتى يشعر بحالة من الأمان والراحة الوهمية، بأنه كافٍ في نظرِ نفسه والآخر.
سلوكيات صاحب الإيجو
أورد إيكهارت تول، في معرض حديثه عن ميل صاحب الإيجو نحو صوابيته المطلقة التي تعزز خيال الأنا والأسبقية لديه، مولدّة شعوراً بتضخم الذات وتقديرها، لدرجة قد تصل إلى الثقة العمياء في النفس والأفكار.
في الجانب الموازي للإيجو يمكن أن ينخفض إحساس الشخص بذاته، وشعوره أنه أقل من الآخرين، فيلجأ إلى لعب دور الضحية؛ لخلق هوية مدموغة بالمعاناة، تمنحه رؤية صوابية لنفسه، ورؤية تشكيكية تجاه العالم.
بالنظر إلى سلوك المُبِالغ في ثقته بمعتقداته وسلوك الممتهن لدور الضحية، وجد علماء النفس أن العقل في بحث مستديم عن هوية مُقنّعة ليشكلها، تمنحه شعوراً مؤقتاً بالراحة والأمان، وفي حركة البحث هذه، تبقى الذات في حالة دفاع مستمر عن هذه الهوية. وبذلك، فإنّ سلوك الإيجو هو سلوك منحاز.
بحسب عالم النفس الأميركي Raymond S. Nickerson يذهب الآخرون بلا وعيٍ منهم إلى ما يسمّيه بـ "الانحياز التأكيدي" ليثبتوا صحة أفكارهم وسلوكياتهم من أجل صنع هوية تناسب ما يعتقدونه ويؤمنون به في سبيل اجترار ذلك الشعور المؤقت بالأمان والراحة المخادعة، وهذه الرفاهية من البحث والتنقيب وفهم أصل الأشياء غير وارد بشكل شائع، فالناس يصدقون ما يريدون تصديقه وينحازون إلى كل ما يجعلهم على صواب ويرفضون كل شيء من شأنه تهديد معتقداتهم.
ما علاقة الانحياز التأكيدي -السلوك الإيجوي- بتصديق الأخبار الزائفة؟
أوضحت بعض الأبحاث من الناحية الفيزيولوجية أن معالجة الدماغ للمعلومات التي يتعرض لها، تحفّز إفراز مادة الدوبامين في الجسم، مولدة إحساسًا عاليًّا بالسعادة والارتياح عند التفاعل مع المعلومات التي تتوافق مع ما يؤمن به الشخص وتشعره بصوابيته، وهذا بدوره يساعد في تعزيز هويته التى صنعها الإيجو لنفسه من أجل إثبات كينونته، متجاهلاً كل الحقائق التي يمكن أن تتضارب مع أفكاره على الرغم من صلتها بالموضوع، وهذا ما يفسر سلوك البعض بلهاثهم وراء الأخبار المفبركة والكاذبة، بدل قراءتها قراءة متأنية وفاحصة، لأنهم بدورهم يبحثون عما يحفز شعورهم بالسعادة والارتياح الوهمي- المؤقت.
لعل أكثر الأمثلة التى تُظهِر سلوك "الانحياز التأكيدي" هي عملية "الانتخابات"، التي بموجبها يميل الأشخاص إلى ترويج المعلومات الزائفة والسلبية عن المرشحين المنافسين مقابل مرشح آخر يدعمونه، حيث ينساقون وراء نشر معلومات مضللة عن المرشح المنافس، مصدقين كل احتمالية للشائعات والبيانات المضللَة عنه، فقط ليثبتوا لأنفسهم أنّ اختيارهم لمرشحهم صائب ودقيق.
ويقول عالم النفس ديفيد راند: "أنت لست مضطّرًّا لحمل الناس على أن يكونوا أقل حزبية والتخلي عن تحيزاتهم، الأمر أبسط من ذلك بكثير، تحتاج فقط الى حمل الناس على التفكير أكثر قليلاً". الناس عموماً وأصحاب السلوك الإيجوي على الأخص، معروفون بتجنب التفكير وبالتالي تميل عقولهم إلى القفز والاستنتاجات وعدم مقاومة الصور النمطية غير المفيدة. وهنا يُصنّف الإيجو باستخدامه لعمليات تفكير منخفضة المستوى عند معالجة المعلومات التي يتلقاها.
ما علاقة الإيجو بانخفاض مستوى التفكير والتفاعل مع الأخبار المضللة؟
حسب سلسلة من ثلاث دراسات أجراها عالم النفس "جوردون بينيكوك" هو وفريقه عام 2016، لدراسة علاقة استخدام عمليات التفكير المنخفضة بمستوى التفاعل مع عناوين الأخبار والمزيفة منها.
في البداية، قسَم تجربته على ثلاث مراحل، وعرض 12 خبراً زائفاً على المشاركين. في المرحلة الثانية عرض 12 خبراً زائفاً مرة أخرى و12 خبرًا حقيقيًّا، لكنه وضع علامة تحذيرية على الأخبار الزائفة، فكانت ردة فعل المشاركين بأنهم لم يعيروا العلامة التحذيرية أي انتباه، وتفاعلوا مع 12 خبراً زائفاً التي أصبحت "مألوفة" بالنسبة إليهم- كونهم تعرضوا إليها في المرحلة الأولى- على أنها صحيحة وصائبة أكثر من الأخبار الصحيحة التي تعرضوا إليها في المرحلة الثانية. وبهذا توصل بينيكوك وفريقه إلى أنّ المشاركين رغم وجود العلامة التحذيرية راحوا لاستخدام مستوى تفكيريّ منخفض في مراجعة ومعالجة المعلومات بدقة.
في السياق ذاته، ربط بينيكوك هذا المستوى من التفكير بما يسمى "المنطق المنحاز" وهو استخدام أقل مستويات التفكير في حال التعرض لأخبار واستنتاجات لا تتطابق مع وجهة نظر راسخة لدى الشخص، وهذا ما أثبته بينيكوك في دراسته الثالثة على نفس المشاركين، بأن التعود على رؤية الأخبار المزيفة تجعلها تبدو أكثر صحة حتى لو بعد مرور وقت على قراءتها وهذا ما أوضحته سلسلة الدراسات التي أجراها بينيكوك حول مدى خداعية الأخبار المزيفة وسطوة تأثيرها على ذاكرة المتلقي، لما لها من قدرة ترسيخ الأخبار المألوفة والشائعة في الذهن على حساب الأخبار الموثوقة، التى تحتاج إلى مجهودٍ وتحرٍّ دقيق.
واحدة من أهم الوسائل التي لجأ إليها الإيجو في سد هوة الاحتياج والرغبة الملحة في إشباع ذاته وهويته هو محاولة تضخيم الإحساس بالذات أكثر من خلال التماهي مع الجماعات المحيطة التى تتشارك معه فى الاهتمامات الفكرية السياسية أو الاجتماعية أو ما يمكن تسميته بـ الإيجو الجماعي، حيث يعكس الإيجو الجماعي خصائص الإيجو الشخصي من خلال الحاجة الى الشعور بالصواب وتعزيز الرأي ومعاداة الأفراد والجماعات الأخرى، بالمعارضة، فالإيجو يُعرّف نفسه دائما من خلال "العند"، وانطلاقاً من هذا التوجه الإيجَوي الجمعيّ تعزّزت فكرة انتشار الأخبار الزائفة على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً -موقع فيسبوك- حيث يعتبر واحداً من أهم وسائل التواصل في التفاعل الاجتماعي، فهو يعتمد بشكل أساسي على خدمة وتعزيز الشعور بالإيجو من خلال تداخل عوالم الأشخاص وبؤرة تَجمّع الأفكار والمعتقدات بين الأفراد والمجموعات الذين يسعون إلى تعزيز هوياتهم الشخصية بتأكيدهم على الهوية الجمعية، حيث تصبح منشوراتهم مرجعاً، بل ومصدراً نهائيًّا يستقي الآخرون منه معلوماتهم.
وبالتالي، فإن التفاعل المبني على تصديق ما يورده الآخرون وما يتم تداوله من قِبل محيطهم، ليس تفاعلاً نقديًّا فيه غربلة وتحقيق، بل زيفيّ، هدفه خلق المتعة والإثارة، في عصر قائم على التدفق المعلوماتي اليومي الهائل.
المصادر: