معلومٌ أن الإصابات الأولى بفايروس كورونا المستجد رُصدت في مدينة ووهان الصينية، وفي الوقت الذي ترقب فيه العالم إجابةً على سؤال "ما هو أصل الفايروس وكيف نشأ؟"، أفادت تقارير المؤسسات المعنية في الصين أن البحث ما زال مستمرًّا وأن أصله غير معروف بعد، إلا أنها رجحت فرضية انتقاله إلى البشر عبر وسيط حيواني (الخفاش)، وتحديدًا من سوق هوانان المختص ببيع الحيوانات البحرية في مدينة ووهان. ولكن سرعان ما ظهرت فرضية جديدة، قالت بتسرّب الفايروس من معهد ووهان لعلم الفايروسات (The Wuhan Institute of Virology)، في إشارة إلى أنه مصنّع ولم يتطوّر طبيعيًّا. الفرضية التي تبناها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وحكومته علنًا وروجوا لها في أكثر من مناسبة.
تحليلات خبراء أم تضليل للرأي العام؟
يوم 26 يناير/كانون الثاني من عام 2020، نشرت صحيفة ذا واشنطن تايمز المعروفة بمواقفها السياسية المحافظة والداعمة لسياسة دونالد ترامب، خبرًا بعنوان "من المحتمل أن يكون فايروس كورونا المستجد نشأ في مختبر تابع لبرنامج الحرب البيولوجية الصيني"، استندت فيه بشكل رئيسي إلى تحليلات ضابط إسرائيلي في المخابرات العسكرية يدعى داني شوهام، ذكرت أنه حاصل على درجة الدكتوراة في علم الأحياء الدقيقة، وأنه درس ما يدعى بالحرب البيولوجية الصينية، إذ نقلت عنه "قد يكون فايروس كورونا المستجد نشأ في معهد ووهان لعلم الفايروسات المرتبط ببرنامج الأسلحة البيولوجية الصيني السري"، وأضاف قائلًا للصحيفة: "لقد تمت دراسة فايروسات كورونا وخاصة السارس في معهد ووهان وربما تكون محتجزة فيه" وأكمل "السارس مدرج في برنامج الأسلحة البيولوجية الصيني، وبشكل عام ، يتم التعامل معه في العديد من المرافق ذات الصلة بالبرنامج"، ولكن عند سؤاله مباشرةً عن ما إذا كان فايروس كوفيد-19 تسرب من معهد ووهان أجاب: "من حيث المبدأ، من الممكن أن يخرج الفايروس من المنشأة إما كتسرّب أو كإصابة غير ملاحظة لشخص ما يخرج عادةً من المعهد، لكن إلى الآن لا دليل أو إشارة على حدث كهذا".
وعلى الرغم من أن فرضية تسرّب الفايروس من معهد ووهان لم تستند إلى أية أدلة علمية، إلا أن خروج تحليلات كهذه في وقت يتوق فيه العالم إلى تفسير التغيرات السريعة التي أحدثتها الجائحة ومعرفة أسبابها، ساهم في تضليل الرأي العام، وسهّل الطريق أمام مروجي نظريات المؤامرة، الذين روجوا للفرضية على أنها حقيقة تم إثباتها. الأمر الذي لعب دورًا هامًّا في تحديد موقف العديد من الناس من منظمة الصحة العالمية وتصريحات الجهات المختصة، ولا نبالغ إن قلنا إنها ساهمت في تحديد موقفهم من اللقاح أيضًا.
أنباء عن تحقيقات أميركية ومطالبات بتحقيقات مستقلة
في منتصف أبريل/نيسان 2020، انتشرت أنباء عن إجراء مجتمع الاستخبارات الأميركية تحقيق في أصل فايروس كورونا المستجد، وتحديدًا في فرضية كونه مُصنّع في مختبر ولم يتطور طبيعيًّا، تزامنت الأنباء مع مطالبات بعض الدول -أبرزها أستراليا وبريطانيا- إجراء تحقيق مستقل يبحث في أصل الفايروس ولا يعتمد على نتائج تحقيقات المؤسسات الصينية. وفي يوم 30 أبريل، خرج مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية ببيان قال فيه "المجتمع الاستخباري يتفق مع الإجماع العلمي الواسع على أن فايروس COVID-19 لم يكن من صنع الإنسان أو معدّل وراثيًا"، وأن البحث سيستمر للتأكد مما إذا كان كوفيد-19 قد تسرب من مختبر في ووهان أم لا.
لم تمضِ ساعات على بيان مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية، حتى خرج ترامب بتصريحات مربكة تناقض ما جاء في البيان، إذ سأله أحد الصحافيين عما إذا كان قد رأى أي شيء أعطاه هذه الثقة العالية للقول بأن معهد ووهان لعلم الفايروسات هو مصدر الفايروس، وأجاب بـ "نعم، رأيت". أضاف :"ويجب على منظمة الصحة العالمية أن تخجل من نفسها لأنها تتصرف كمسؤولة علاقات عامة للصين"، مشيرًا إلى أن المنظمة تواطئت مع الصين بتبنيها القول بأن فايروس كورونا المستجد تطور طبيعيًّا، ضاربًا بعرض الحائط نتائج الدراسات العلمية التي بحثت في التراتب الجيني للفايروس وأكدت أنه ليس مصنّعًا في مختبر. وأكمل ترامب "على الرغم من أن هذه البلاد (الولايات المتحدة) تدفع للمنظمة 500 مليون دولار سنويًّا، والصين تدفع 38 مليون دولارسنويًّا!" متسائلًا عن سبب انحياز المنظمة للصين، ثم استدرك قائلًا "سواء كان ما تدفعه الصين أكثر أو أقل، فإن منظمة الصحة العالمية لا يجوز لها أن تختلق مبررات للتغطية على أخطاء فادحة تسببت في موت مئات الآلاف من الناس حول العالم". وعندما سأله ذات الصحافي عن طبيعة الدليل الذي يؤكد أن معهد ووهان مصدر الفايروس قال "لا يمكنني أن أخبرك، ليس مسموحًا لي أن أخبرك". مغذيًّا بتصريحاته غير المستندة إلى دليل واضح هذه الفرضية من جديد.
تحقيقات منظمة الصحة العالمية في ووهان
ولكن من الجدير بالذكر، أن موقف الصين الرافض لأي تدخل في التحقيقات حول أصل كوفيد-19 آنذاك، زاد الوضع سوءًا، فبحسب ما صرّح به ممثل منظمة الصحة العالمية في الصين لموقع سكاي نيوز الإخباري، فإن "الصين رفضت طلبات المنظمة المتكررة للمشاركة بالتحقيقات" وأنه لا يرى مبررًا لرفضها. وأضاف أن الهدف من المشاركة في التحقيقات هو منع حدوث جائحة جديدة في المستقبل. استمرت المفاوضات بين الصين ومنظمة الصحة العالمية أشهر عدة، أسفرت أخيرًا عن إعلان منظمة الصحة العالمية في منتصف ديسمبر/كانون الأول الفائت، موافقة الصين على استقبال عشرة علماء عالميين للتحقيق في أصل فايروس كوفيد-19 خلال شهر يناير/كانون الثاني 2021.
بعد ما يقارب شهر على بدء تحقيقات بعثة منظمة الصحة العالمية في ووهان، صرّح رئيس البعثة يوم 9 فبراير/شباط الجاري، بأنه "من المستبعد جدًا أن يكون فايروس كوفيد-19 تسرّب من مختبر في مدينة ووهان"، وأن الخبراء يعتقدون أن الفايروس تطوّر بدايةً في الحيوانات ثم انتقل إلى الإنسان، مؤكدًا بذلك على ما توصل له العلماء وأجمعوا عليه منذ مارس/آذار 2020. وكان من أبرز نتائج التحقيق وأكثرها إثارة للدهشة، ما كشفته البعثة عن عدم وجود أي دليل يؤكد أن الفايروس كان في مدينة ووهان قبل رصد الإصابات، وأنهم في صدد البحث في سلاسل التوريد لسوق هوانان لتحديد مسار الحيوان الذي انتقل منه الفايروس للإنسان.
وبذلك يكون مضى أكثر من عام في التحقيق في فرضية لم تستند إلى أي دليل علمي، في وقت أحوج ما يكون فيه العالم لتركيز جهود العلماء والخبراء على كشف الحقائق.