حياة الإنسان المعاصر أشبه بالإقامة داخل شرنقة، والشرنقة "غشاءٌ واقٍ من خيوطٍ دقيقة"، ذلك الإنسان وخلال أطوار حياته المتتالية يبني حوله ما يشبه هذا الغشاء، يريده قويًا متينًا، ليستقر ويشعر بأنه المتحكم بسير مجريات أحداثه الخاصة، أفكاره، معتقداته، دوافعه، هواجسه، رغباته، وطرائق سلوكه، لكن في الحقيقة هو مسلوب جدًا، منذ نعومة أظفاره، يرث عن عائلته ومجتمعه المحيط به آليات التفكير والسلوك، وتمارس عليه وسائل الإعلام وهي ما تعنينا هنا، دورًا أكبر بكثير مما يبدو عليه الأمر للوهلة الأولى.
"الصور والمعلومات"، التي تُضخ من أجهزة الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي تجد طريقها لآذان وعقول مستقبليها، تعيد خلق عالمهم الداخلي وإدراكهم للمعطيات انتهاءً بتشكيل سلوكهم، قد يبدو من ذلك أن الجمهور سلبي بطبعه، غير مُميّز لديناميكيات التأثير، ويسهل خداعه، هذا قد يحدث، بسبب الجهل وضعف التحصيل العلمي والافتقار للتفكير النقدي، ولكن مجمل الناس اليوم حاصلين على شهادات عليا ولديهم خبرات حياتية عميقة، ومع ذلك يتم الإيقاع بهم.
يفسر عالم الاجتماع والناقد هربرت أ. شيللر في كتابه "المتلاعبون بالعقول" الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام والقائمين عليها، وكيف أنهم تحولوا لما سمّاه "سائسي عقول"، تقوم هذه الجهات بـ "طرح أفكار وتوجهات لا تتطابق مع حقائق الوجود الاجتماعي، وتنحو هذه الأفكار عن عمد إلى استحداث معنى زائف، وإلى إنتاج وعي لا يستطيع أن يستوعب بإرادته الشروط الفعلية للحياة القائمة أو أن يرفضها."
يستعين شيللر لإيجاد معنى لكلمة التضليل "Manipulation" بمقولة لباولو فرير "تضليل عقول الآخرين ما هو إلا أداة للقهر"، كلاهما ينظران إلى عملية التضليل بأنها محاولة لسلب الإرادة الحرة، وقهر الآخر، والسيطرة عليه، من خلال إعادة تشكيل وعيه، ولا يعني التضليل عدم قول الحقيقة والكذب بشأنها، بل تقديم حقائق ناقصة منزوعة السياق لتحقيق مصالح خاصة على حساب العدالة والمصلحة العامة، لكن هل التضليل الإعلامي الأداة الأولى؟
شيللر يقول إن "تضليل الجماهير لا يمثل أول أداة تتبناها النخب الحاكمة من أجل الحفاظ على السيطرة الاجتماعية، فالحكام لا يلجؤون إلى التضليل الإعلامي إلا عندما يبدأ الشعب في الظهور كإرادة حرة."
لا حاجة لتضليل الناس، في الوقت الذي يتم فيه إنهاكهم في مرارة الحياة الواقعية، وقمعهم وسلبهم أدنى مقومات الحياة الآدمية، فينشغلون بتوفير قوت يومهم، تبرز أهمية التضليل الإعلامي "كأداة قهر" حين يدرك الجمهور أنه يمتلك وسائل تغيير واقعه.
"التضليل الإعلامي يسمح لفرصة كبيرة من السكان بالإفلات من القمع الشامل، والانخراط بشكلٍ ظاهري بالنشاط العام، لكنه يحول دون الكثير من الفوائد المادية، وكل الفوائد السيكولوجية للمشاركة الأصيلة."
التضليل الإعلامي وسيلة للسيطرة، تملكها مجموعة صغيرة من صناع القرار وأصحاب رأس المال ومسؤولي الحكومة، تلك الفئة المتحكمة بأقدار الناس وأقواتهم.
ويعتبر هربرت أن تقسيم المجتمع إلى فئتين، "فئة صغيرة" تتحكم في مصائر "الفئة الكبيرة"، أو على حد وصفه إلى "رابحين" و"خاسرين" مرد ذلك الرغبة في الحفاظ على نظام الملكية الخاصة، وتقديس هذا النظام، "وامتداد مبدأ التملك الخاص لجميع أوجه الوجود الإنساني."
إن وسائل التضليل "عديدة ومتنوعة، لكن من الواضح أن السيطرة على أجهزة المعلومات والصور على كل المستويات تمثل وسيلة أساسية، ويتم تأمين ذلك من خلال إعمال قاعدة بسيطة من قواعد اقتصاد السوق، فامتلاك وسائل الإعلام والسيطرة عليها، شأنه شأن أشكال الملكية الأخرى، متاح لمن يملكون رأس المال، والنتيجة الحتمية أن تصبح محطات الإذاعة وشبكات التلفزيون والصحف والمجلات مملوكة لمجموعة من المؤسسات المشتركة والتكتلات الإعلامية، ويصبح الجهاز الإعلامي جاهزًا تمامًا للاضطلاع بدور فعّال وحاسم في عملية التضليل."
ويحاول هربرت تحديد نوعية بعض هذه القوى المتحكمة في وسائل الإعلام، "وكيف استطاعت أن تخفي وجودها وتنكر تأثيرها؟"
في دراسته لمحتوى وسائل الإعلام، اعتبر هربرت أنه هناك خمسة أساطير تؤسس "المضمون"، لتحقيق أهداف القائمين على عملية التضليل الإعلامي، انتهاء بخلق حالة أسماها "الوعي المعلب".
الفردية والاختيار الشخصي
تعود جذور هذه الأسطورة إلى تعريف الحرية ذاته كما صيغ في الغرب، إذ "تتسم بالنزعة الفردية"، ويؤكد هربرت بأن حقوق الفرد المطلقة ليست سوى "أسطورة"، إذ لا يمكن الفصل بين الفرد والجماعة.
أسطورة الحياد
"لكي يؤدي التضليل الإعلامي دوره بفاعلية أكبر، لابد من إخفاء شواهد وجوده"، أي أن التضليل يحقق مآربه عندما لا يظن المضلَلين بأنه مضلل بهم، وأن ما يعرض ويبث ويتم التفاعل حوله ومعه، هو الواقع كما هو.
يقول هربرت "لابد أن يؤمن الشعب الذي يجري تضليله بحياد مؤسساته الاجتماعية والرئيسة، لابد من أن يؤمن الشعب بأن الحكومة والإعلام والتعليم والعلم بعيدة جميعًا عن معترك المصالح الاجتماعية المتصارعة."
إذًا أجهزة الإعلام لا تتسم بالحياد، هي مشروعات تجارية تتلقى مصادرها من الاستغلال التجاري للمساحات الزمنية أو المكانية.
أسطورة الطبيعة الإنسانية الثابتة
النظريات التي تؤكد على الجانب العدائي للإنسان، وعدم القابلية للتغيير، وأن أي سوء يرتكبه الفرد مرده للطبيعة الخاصة لكونه إنسان فحسب، وليس لظروف اجتماعية معينة، هذه الأفكار تجد صداها في وسائل الإعلام، وهنا تكمن الخطورة.
إذ "لا ينفصل السلوك الإنساني عن النظريات المتعلقة بالسلوك الإنساني التي يتبناها الناس، فما نؤمن به من أفكار فيما يتعلق بالإنسان يؤثر في سلوكنا الإنساني، وذلك لأنها تحدد ما الذي يتوقعه كل إنسان من الآخر.. إن الإيمان، أو الاعتقاد يساعد على تشكيل الواقع الفعلي."
ويلاحظ فرير أن "المضطهِدين يطورون سلسلة من المناهج، تستبعد أي تصوير للعالم بوصفه قضية أو مشكلة وتركز على إظهاره في صورة الكيان الثابت، أو بوصفه شيئًا معطى، شيئًا يتعين على الناس، بوصفهم مجرد متفرجين، أن يتكيفوا معه."
أسطورة غياب الصراع الاجتماعي
"في مجال تصويرهم للساحة الداخلية، ينكر المتحكمون في الوعي إنكارًا مطلقًا وجود الصراع الاجتماعي، على الرغم من أن وسائل الإعلام تخصص لسيناريوهات العنف مساحة مذهلة، فالصراع كما تصوره الأجهزة القومية لصنع الأفكار والتوجهات العامة، هو في الأساس مسألة فردية، سواء في تجلياته أو في أصوله، إذ إنه لا وجود أصلًا للجذور الاجتماعية للصراع في رأي مديري أجهزة الثقافة والإعلام."
السبب في رأي هربرت أن تحريف الواقع الاجتماعي، سيضمن الاستقرار وتحقيق المصالح الخاصة، فأي دراسة جادة للصراع الاجتماعي وجذوره داخل المجتمع ستؤدي إلى حالة مقاومة للظلم الاجتماعي وهو ما يهدد مصلحة "النخبة".
أسطورة التعددية الإعلامية
حرية الاختيار لا تتوفر دون وجود تنوع حقيقي، "فإذا لم توجد خيارات واقعية فإن عملية الاختيار إما أن تصبح بلا معنى وإما أن تصبح منطوية على التضليل، ويصبح احتمال انطوائها على التضليل واقعًا فعليًا عندما يصاحبها الوهم بأن الاختيار ذو معنى."
تنوع الآراء فيما يتعلق بالأخبار الخارجية والداخلية لا وجود له، ومنظور اختيار ما يتم عرضه وكيفية تناوله يخضع لمعايير تتوافق مع المصالح، لذلك ما يوحي بأنه دليل على التنوع، يصبح في حقيقة الأمر قناعًا واحدًا يقدم رؤية واحدة للواقع، والهدف النهائي "الربح".
"النتيجة واحدة في النهاية، سواء توافرت مصادر الإعلام بصورة سخية أو زهيدة، فالمادة الترفيهية والأخبار والمعلومات العامة والتوجهات والأفكار، يجرى انتقاؤها جميعًا من الإطار المرجعي الإعلامي نفسه، من جانب حراس للبوابة الإعلامية، تحركهم دوافع تجارية لا يمكن التخلي عنها، وقد يختلف الأسلوب والتعبير المجازي، لكن الجوهر واحد، ومع ذلك فإن شرط التعددية الاتصالية هذا والخالي تمامًا من أي تنوع حقيقي، هو الذي يوفر أسباب القوة للنظام السائد لتعليب الوعي."
ويؤكد هربرت أن تعليب وعي الناس يتم بصورة "محكمة" منذ الطفولة، وتشكل هذه الأساطير مجتمعة مضمون النظام التضليلي، ولا شك فيه بأن الطفرة التكنولوجية اليوم ساهمت في ظهور أشكال أكثر تعقيدًا من "التضليل الإعلامي".
المصدر:
شيللر، هربيرت. أ. ت. رضوان، عبد السلام. المتلاعبون بالعقول. عالم المعرفة، 1970.