للدعاية تاريخ طويل، غير متّصل بظهور الوسائل الإعلامية الحديثة، إذ يُقال إنَّ أول بروز بدائي للدعاية الحربية كان إبّان الصراع الإغريقي-الفارسيّ، من خلال حملة التضليل التي شنّها القائد الإغريقيّ ثيميستوكليس عند مواجهته لجيوش اكزركسيس الفارسيّ؛ هذه الواقعة سجّلت أول استخدام للحيلة الدعائية بهدف تضليل الأعداء.
و يُرجع البعض استخدام مصطلح الدعاية كتسمية لمؤسسة تبشيرية تمّ تأسيسها في القرن السابع عشر في روما، بهدف نشر الديانة الكاثوليكية وسط ديانات أخرى وثنية. ولكن اكتسبت الدعاية بُعدها السياسيّ في الثورة الفرنسية التي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالجمعيات السرّية وقتذاك.
طوّر مارتن لوثر عقب الإصلاحات الدينية التي توسطت القرنين السادس والسابع عشر أسلوب الدعاية، إذ صار لها طرقًا متنوعة، وذلك بهدف مناهضة ممارسات الكنيسة الكاثوليكية، فبرعَ في إقناع الأفراد عبر أساليب دعائية مميزة كاستخدام اللغة العامية لتشمل رسالته جميع الطبقات الاجتماعية الألمانية.
وبنهاية القرن الثامن عشر، بدأت الدعاية تتوّظف لأهداف السيطرة والحكم على يد نابليون بونابرت الذي اعتُبر الأكثر ذكاءً في استخدامه للدعاية، إذ كُتِب لدعايته العسكرية النجاح؛ بسبب تنظيمها ومنهجيتها الواضحة، فضلًا عن أنها ساعدته في عملياته ونشرت مضامين وأفكار الثورة الفرنسية.
أمّا اليوم، ومع تصاعد استخدام التكنولوجيا في حياتنا المعاشة، تطورت أساليب الدعاية مع تنوع أشكالها التي لم تتوانَ عن الدخول إلى حقول كثيرة؛ نفسية وعكسرية وحربية وسياسية.. إلخ.
مفهوم الدعاية
“إنَّ الدعاية ستصبح تاريخًا للاتصال”.
أوشنسي
عرّف قاموس إيفرون الموسوعي الدعاية بأنّها: الاستخدام الممنهج لأي وسيلة اتصال للتأثير على عقل وأحاسيس هذه الفئة من الناس لهدف محدد، له أهمية اجتماعية.
وفي المجمل كان هناك الكثير من التفسيرات والتعريفات للدعاية، تناولتها العديد من المدارس الفكرية في القرن العشرين، إذ ربطت الدعاية وتعريفها بالسياسة والطبقات والتجارة. فمثلًا اعتبر علماء الاجتماع السوفييت أنّ الدعاية تسعى أحيانًا لطرح سياسة مناسبة ومعقولة تتناسب مع خطاب وأيديولوجية الطبقة البرجوازية.
أمّا بروفيسور جامعة كولومبيا مايكل شوكاس عرّف الدعاية بأنها: النشر الموجّه للتصورات الزائفة عن قصد بهدف تحريض الناس على القيام بأفعال، تلبي الأهداف المقررة مسبقًا من قبل جهات معنيّة. وقد ربطها مباشرة بالتلاعب والتزييف.
ومع هذا الانتشار الواسع للدعاية ومع توسع عملها في عالم التواصل الاجتماعي وإثارتها لإشكالية التعريفات وارتباطها بالاستغلال والكذب كان لأساليبها الدور الأكبر لنجاحها والتأثير على متصفّحي الشبكة العنكبوتية.
وفي القرن العشرين، تحديدًا عندما سعى باحثون أميركيون إلى دراسة تأثير الدعاية النازية على المجتمع الأميركي، انهالت المؤلفات العلمية والأوراق البحثية حول أساليب الدعاية، ويذكر أنّه في سنة 1937 تمَّ إنشاء مؤسسة تحليل الدعاية ISTITUDE FOR PROPAGANDA ANALYSIS، التي كان هدفها الأساسيّ توعية الرأي العام الأميركي بأساليب الدعاية السياسية والعسكرية وغيرها التي في جوهرها تسعى لتحقيق مآربها وسياساتها.
تباينت الآراء حول أساليب الدعاية خصوصًا مع صعود الذكاء الاصطناعي والتطور التكنولوجي، وفي هذا الخصوص لا بدّ من ذكر أبرزها أساليب الدعاية لتجنب الوقوع ضحية التضليل والنزييف الدعائي.
الأساليب الحديثة للدعاية
- أسلوب التضخيم Amplification: عادة ما تلجأ الحكومات لاستخدام هذا الأسلوب في حالات الحشد للانتخابات أو بهدف تضليل الرأي العام العالمي حول قضية ما، كما يحصل اليوم حول القضية الفلسطينية واستغلال الاحتلال الإسرائيلي لخبرته الواسعة في المجال الرقمي لنشر الرواية المضللة للعالم، إذ إنّها تعتمد على مكونات بشرية وآلية كالروبوتات والتشكيلات السيبرانية بالإضافة للصفحات المزيفة والمتصيدين لتحقيق السرعة في انتشار محتوى روايتها بغض النظر عن طبيعتها وعن مدى صحتّها.
- أسلوب الإطباق على الوسوم Hashtag latching: تستغل الدعاية الحديثة وسومًا شائعة لقرصنتها ونشر المحتوى المراد ترويجه، وذلك بهدف إيصاله لأكبر قدر من المستخدمين، أو قد تلجأ إلى استخدام الوسم لكن بمحتوى يعارض الموضوع الذي يروج له. على سبيل المثال ما قام به تنظيم داعش الإرهابيّ من قرصنة لوسم #زلزال_نابا الذي يحتوي على أخبار ووقائع الزلزال الذي ضرب الجزء الشمالي من ولاية كاليفورنيا، لنشر صور ومحتوى لتهديد الولايات المتحدة الأميركية.
- أسلوب توظيف المؤثرين Influencers: يملك قادة الرأي قدرة كبيرة على التأثير في سلوك وآراء المواطنين؛ نظرًا لمكانتهم الاجتماعية وتقربهم من السلطة السياسية ومنطقة النفوذ. وخلال عصرنا الحالي، الذي بات يعتمد بالدرجة الأولى على العالم الرقمي، ظهر ما يطلق عليهم بـ"المؤثرين" على مواقع التواصل الاجتماعي. وهم الأشخاص الذين يتمتعون بقدرات تؤهلهم في تقديم آراء خارج إطار السلطة، تؤثر على مستخدمي المواقع الإلكترونية، كالصحفيين والرياضيين والممثلين وصنّاع المحتوى وغيرهم من الأفراد المؤثرين.
- والمؤثر بالصيغة الدعائية يمتلك القدرة الكبيرة في إقناع المتابعين بصحة رأي صادر عن جهة الدعاية. مثال على ذلك ما تنتهجه اليوم "إسرائيل" في دعايتها التي تشير إلى أنَّ الفلسطينين المقاومين والمتصدين لانتهاكاتها هم إرهابيون، وعادة ما تستغل وجود مؤيدين مؤثرين لها لنشر دعايتها المضللة.
- أسلوب الإيحاء Suggestion: في عالم التواصل الاجتماعي، تلجأ بعض الجهات الدعائية إلى نشر محتوى يحمل إيحاءً من نوعٍ ما، أي تقوم بنشر فكرة تاركة الفضاء للمستخدم الذي لا يلبث أن يستخلص إيحاءها الخاص والذي يشترط أن يتوافق تماهيه مع أحداث آنية.
- أسلوب الملاحقة والفضح Chasing & Disclosing: تعمل جهة الدعاية كوسيلة دفاعية على تتبع الشخصيات الأكثر تأثيرًا وشهرةً على مواقع التواصل الاجتماعي وفضح جهودهم وتعريتهم أمام المستخدمين بهدف تقليل أثر الهجمات المعادية عبر تحديد الكيانات التي تؤازرها وتساندها ومهاجمتها بشكل جماعي عنيف لإسكاتها وتحييدها. وعادة ما تستخدم أسلوب الـ tag "أي إصدار إشارة للجانها السيبرانية وتوجيههم للهجوم على الصفحة أو الشخصية الواردة في الإشارة".
- أسلوب التفسير الاحتيالي Ad-Hoc Explanation : ويعني "تحايل جهة الدعاية على المستخدمين من أجل دفعهم إلى اعتناق اعتقادات خاطئة ومن ثمَّ اجترار تبريرات منهم هي في الأصل غير مطلوبة بسبب خطأ وزيف المعطى المُقدّم. فمثًلا، تدفع جهة دعائية ما، بعض المستخدمين للاعتقاد بخطأ تصرفهم، ليسارعوا إلى تفسير وتبرير الخطأ بالرغم من كون التصرف صحيح ومقبول ومشروع. وتتجسد خطورة الأسلوب في قدرته على تسطيح الإنسان، ودفعه إلى تفسير جميع الظواهر من حوله حتّى لو كانت عشوائية أو غير مرتبة، وغالبًا وهمية غير واقعية. والأخطر أن يفسر المستخدمون الظواهر الوهمية بالاستناد إلى قناعاتهم وميولهم السابقة، فيحيد تقييمهم وتفسيرهم عن الموضوعية، وقد يرسخ فترات طويلة من الزمن دون مواجهة أي تحدٍّ حقيقي".
- أسلوب نظرية المؤامرة Conspiracy Theory : أسلوب تتبعه الدعاية لأهداف تسعى إلى تحقيقها فتعتمد على الادعاءات والأساطير والشائعات من أجل تشتيت المستخدمين. وعادة ما تقوم على تقوية فكرة المؤامرة من خلال تحسين طريقتها في السرد فتقوم جهة الدعاية بتتويج المؤامرة بنظريات علمية والاستشهاد بمصادر علمية وإعلامية من جهة، ومن جهة أخرى تعمد إلى محاربة وإضعاف الجهات التي تسعى لفضح المؤامرة، ساعيةً إلى إضفاء صبغة منطقية على المؤامرة بهدف إقناع المستخدم.
- أسلوب التصيد Trolling: لصالح حوار جدلي عقيم، تقوم جهة الدعاية إلى اعتماد التصيد لإزعاج المستخدمين وإحراجهم والتقليل من قيمة المحتوى الخاصّ بهم عبر بثّ التعليقات التي لا فائدة منها، سوى لهدف التضليل.
- أسلوب الطُعم المعلوماتي Bait : حين يقوم الفاعلون بالدعاية بنشر محتوى ناقص، غير مكتمل، ولجهل المستخدم يقوم بنشرها دون التأكد من مصدرها، وبالتالي إنَّ هذا الأسلوب يمهد الطريق لظهور الأخبار والمعلومات المزيفة والمضللة.
- أسلوب صناعة الحملات الرقمية المزيفة False trends: يتم صناعة الحملة الرقمية المزيفة بمساعدة الروبوتات الاجتماعية والجهود البشرية، وتنفذها لجان إلكترونية تابعة لجهة الدعاية الصانعة للحملة المزيفة، والهدف من ذلك هو تسليط الضوء على موضوع ما، أو العمل على تخريب حملة رقمية أخرى.
وأخيرًا، يعني أسلوب الإعلانات الموجهة Ads توظيف واستغلال جهة الدعاية لخدمة الإعلانات الممولة Sponsored Ads، أو خدمة تعزيز وتدعيم المنشورات Boots Post التي توفرها مواقع التواصل الإجتماعية من أجل توجيه أو ترويج رسائل محددة لصنف معين من المستخدمين. تستخدم جهة الدعاية بيانات الجمهور من أجل إرسال رسائل لهم، وقد جرى استخدام أسلوب عُرف بـ "المنشورات الخفية" واستُخدم خلال الحملة الانتخابية الأميركية عام 2016، لكنّ موقع فيسبوك أوقف هذه الخدمة بعد الاتهامات التي ظهرت حول التدخل الروسي لصالح فوز دونالد ترامب.
المصادر:
كتاب الدعاية على شبكات التواصل الإجتماعي
كتاب الدعاية والتضليل الإعلامي