مع كل حدثٍ عالمي تنشغل به وسائل الإعلام، تنتشر الأخبار الكاذبة والقصص الملفقة لتكون مصدر قلقٍ للمجتمعات وإرباك لهم وقت الأزمات. تتعدد الدوافع وراء نشر هذه الأخبار، بعضها سياسية أو اجتماعية أو حتى بهدف التربّح، إلا أنّ هناك دوافع كثيرة أخرى وراء نشرها.
فقد أظهرت دراسة حديثة أجراها باحثون من قسم العلوم السياسية بجامعة آرهوس بالدنمارك، أنّ الاستقطاب الحزبي له دورٌ في نشر الأخبار الكاذبة، ويشير مصطلح الاستقطاب الحزبي إلى حالة التباين المتزايد في المواقف السياسية، ويُستعمل هذا المصطلح عمومًا في الدول والأنظمة ذات الحكم الديمقراطي.
ومن أجل معرفة الدوافع النفسية وراء مشاركة الأخبار الزائفة، أجرى الباحثون استطلاعًا موسعًا للرأي بمقاييس مفصلة للمشاركين الذين بلغ عددهم 2300 مستخدمًا أميركيًا على منصة تويتر، وشمل الاستطلاع تقييماتٍ لعدد من العوامل، بما في ذلك المعرفة السياسية ومحو الأمية الإعلامية الرقمية والتفكير المعرفي وغيرها. كما أشار المشاركون في الاستطلاع إلى ميولهم السياسية الخاصة وشعورهم تجاه الجمهوريين والديمقراطيين والأحزاب الأخرى بشكلٍ عام.
جمع الباحثون أكثر من 2.7 مليون تغريدة تحتوي على روابط إخبارية نُشرت بين عامي 2018 و2019، ومطابقتها مع قائمةٍ تحتوي على مصادر الأخبار الأكثر انتشارًا، كانوا قد أعدّوها مسبقًا، ثم حدّدوا التوجهات السياسية (جمهوري وديموقراطي) بغية ربط دوافع نشر الأخبار على "تويتر" بتوجهات الناشرين السياسية، من أجل الوصول إلى تحليلٍ شامل لأنماط مشاركة المستخدمين لهذه الأخبار على منصة تويتر ومدى تأثير انتمائهم على مشاركتهم تلك التغريدات.
يقول الدكتور ماتياس أوسموندسن، أحد المشاركين في إعداد الدراسة "أردنا أن نفهم حجم المشكلة وأن نختبر النظريات المختلفة حول إقدام بعض الأشخاص على نشر الأخبار السياسية المزيفة بينما لا يفعل الآخرون ذلك".
قُسمت مصادر الأخبار لخمسة أنواع بين صحيح وزائف، وكانت نتائج الاستطلاع على النحو التالي: رصد الباحثون أكثر من 85 ألف مشاركة لروابط إخبارية، كان منها 3269 رابطًا لأخبارٍ كاذبة، شاركها المنتمين لكلا الحزبين الديموقراطي والجمهوري، إلا أنَّ المشاركات الأعلى لها كانت من قِبل الجمهوريين أو من قبل مؤيدين للحزب الجمهوري، وبالنسبة للأخبار الصحيحة التي أتت من مصادر موثوقة أو من مصادر "وطنية" (وسائل الإعلام المحلية) كان غالبية المستخدمين شاركوها ينتمون للحزب الديموقراطي بنسبة 60%، وقد أظهر التحليل أنّ جزءًا ضئيلًا من الأخبار التي تناقلها الديموقراطيين على تويتر كانت كاذبة بالمقارنة مع ما تناقله الجمهوريين.
بشكل عام، يرغب مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي بمشاركة ومشاهدة أخبار صحيحة، خصوصًا تلك التي تتعلق بالأحداث البارزة التي تهمهم، لكن طبيعة عمل بيئة تويتر وخوارزمياته المبنية على الترتيب الزمني، جعلت من تسلسل الأحداث "سريعة الخطى"، إلى جانب افتقار قسم من المستخدمين إلى التفكير المعرفي أو حتى عدم الانتباه، ممَّا جعل منهم يشاركون أخبارًا كاذبة.
إلا أنّ حالة الاستقطاب السياسي تعطي تفسيرًا آخر لدوافع نشر الأخبار الكاذبة على المنصة، واستنادًا إلى الاستطلاع الذي أجراه الباحثون، فإنهم يؤكدون أن وجودَ مناخ يسوده الاستقطاب، يعطي دافعًا أقوى لدى المستخدمين لنشر الأكاذيب، بما يتوافق مع آرائهم وتوجهاتهم السياسية، حتى في ظل علمهم أنّ ما ينشرونه غير صحيح، و إذا اكتشفوا لاحقًا عدم صحة ما قاموا بمشاركته، فإنهم لا يتراجعون عن المشاركة في كثير من الأحيان، ما دامت هذه الأخبار تتوافق مع آرائهم وتوجهاتهم، كما وقد أظهر الاستطلاع رغبة الحزبيين بمشاركة أخبارٍ صحيحة وكاذبة على حد سواء تعزز من مواقف أحزابهم السياسية في المقام الأول.
يوحي هذا الاستقطاب بشكل المقالات السياسية التي يشاركها المستخدمون عبر "تويتر"، وبينما أظهر التحليل للاستبيان أنّ كلًّا من الجمهوريين والديموقراطيين كانوا مستعدين لنشر أخبار منحازة لآرائهم السياسية، كان الجمهوريين أكثر استعدادًا لنشر أخبار كاذبة، ذلك لأن العوامل السياسية تدفع لنشر هذه الأخبار، زمن منظورٍ نفسي، فإنَّ الأخبار الكاذبة تُعدّ في جميع الأحوال مصدرًا للمعلومات التي تفيد ناشريها في تعزيز مواقفهم السياسية.
وفي تفسير الأسباب وراء رغبة الجمهوريين في نشر الأخبار الكاذبة، يضع الباحثون احتمالين، الأول أنّ الجمهوريين لا يهتمون بالمعايير التحريرية للتقارير الصحفية، وعدم تقيّد الأخبار الكاذبة بالواقع أو المعايير التحريرية، يعطيها مجالًا لكي تنطوي على مبالغة وإثارة قادرة على جذب الأنصار الذين يرغبون بمشاهدة أخبار حزبيّة مؤيدة.
أمّا الاحتمال الثاني، وفي ظل رغبة متساويةٍ من كلا الطرفين بنشر أخبار تنتقص من الآخر، فهو أن الجمهوريين ينشرون أخبارًا كاذبة تؤيد مواقفهم بدلًا من البحث عن أخبار حقيقية، ذلك أنّ الهدف الأول بالنسبة لهم هو الانتقاص من الطرف الآخر، ويفترض الباحثون أنّ مصادر الأخبار السائدة في المجتمع الأميركي تتماشى مع وجهة نظر الديموقراطيين، أو توفر لهم الحجج اللازمة في وجه الجمهوريين. ومن أجل التأكد من هذه الفرضية، قام العلماء بتحليل انطباعاتِ المستخدمين تجاه نصف مليون عنوان رئيسي ظهرت في الصفحات الأولى على أكثر وسائل الاعلام انتشارًا في الولايات الأميركية بين عاميّ 2016 و2019. سمح هذا التحليل للعلماء بمعرفة ما إذا كانت وسائل الإعلام تصور السياسيين بشكلٍ سلبي بناءً على انتماءاتهم، وقد ظهرت نتائج التحليل على النحو التالي: وسائل الإعلام المحايدة ووسائل الإعلام المؤيدة للديموقراطيين تقدم الجمهوريين بصورة سلبية أكثر من الديموقراطيين، بينما كانت وسائل الإعلام الموالية للجمهوريين تصوّر كلا الحزبين بالدرجة نفسها من السلبية، وأخيرًا، كانت الأخبار الزائفة تقدم صورة سلبية عن الديموقراطيين بشكلٍ أكبر.
يعتقد الباحثون أنّ هذه النتائج تعزز فرضيتهم بأنّ وسائل الإعلام تتماشى مع وجهات نظر الحزب الديموقراطي، مما يدفع الجمهوريين لنشر أخبار كاذبة تؤيد وجهة نظرهم وتحارب الحزب الديموقراطي. رغم ذلك، يقولون أنّ هذه النتائج لا تعني بالضرورة أن وسائل الإعلام السائدة متحيزة للديموقراطيين أو تعرضت للاستقطاب، على الرغم من أنها أظهرت تحيزًا للواقع في مراحل معينة كما في فترة رئاسة ترامب، إلا أنّ دراستهم وكما هو الحال مع جميع الدراسات والأبحاث العلمية تتضمن بعض القيود، خصوصًا أنّ العناوين الإخبارية المختارة في تحليل الانطباعات مأخوذة من فترةٍ ساد فيها التجاذب بين الطرفين.
كما ويسعى الباحثون أيضًا إلى توسيع الدراسة لتشمل منصات أخرى مثل فيسبوك وتويتر، ومجتمعات تعاني من معضلة الاستقطاب السياسي، ودوره كدافع لنشر الأخبار الكاذبة وتأثيرها على مختلف المجتمعات.
المصادر: