الأفكار الواردة في هذه المدونة لا تُعبّر بالضرورة عن رأي “مسبار”.
ليسَ السّؤال عمّا يدور داخل الكائن الرقميّ الضّخم homo digitalis بالأمر البسيط والسهل، كما يُخيّل للكثيرين الذين يتسمّرون لفتراتٍ طويلة أمام الشّاشات الإلكترونية. فالمستخدم، يُضيف الأشخاص على منصته، وينتقي ضمن أبواب يحددها هو، أو تحددها لهُ هي، المؤسسات التي يُفترض أنها تعبّر عن أهوائه وملذاته، وما يُرضي ويؤكد ما يؤمن به.
هذه الحسابات التي تصبح موائمة للنشاط اليومي، وملتصقة بالحياة المعاشة للفرد، الذائب في الواقع الافتراضي للشبكة العنكوبتية، تحثّ العلماء والخبراء في المجال الاتصالي والرقمي، على التساؤل حول طبيعة متابعة هؤلاء الأفراد لواحدٍ دون آخر من الحسابات، وشكل المحتوى الذي يطالعه الفرد والخلاصات الإخبارية التي تصل إليه وما يُعرض أمامه من صفحات وأفكار ومنشورات كلّ يوم.
ويأتي التساؤل هُنا عمّا إذا كان الفرد يعيش في غرفة الصدى خاصّته، ولا يعتقد أو يفكر إلّا من خلالها، تلك البيئة التي تحوي فقط على آراء تغذي "التحيّز التأكيدي" عنده.
فما سمات غرف الصدى؟ وكيف لها أن تحبس الفرد في عالم يتسم بـ “القبليّة والعشائرية”؟ وكيف لحالة التقوقع داخل غرف الصدى أن تؤدي إلى تصاعد الأخبار المضللة والزائفة وتصديق الفرد لنظريات المؤامرة.
لعلّ الكلام عن غرف الصدى، صارَ لزامًا بعد أن دخل العالم في عصر ما بعد الحقيقة Post truth، وبعد أن ضُخّ على مواقع التواصل الاجتماعيّ، ذلك الكمّ الهائل من الأخبار المزيفة. فالبيئة التي يواجه فيها الفرد المعلومات والأخبار والآراء التي تخدم فقط معتقداته، أصبحت بيئة تُعزّز ظاهرة “القبليّة الإلكترونية”، وتقوّض الديمقراطية والنقاش العميق الذي يمكن أن يكون حلًّا معقولًا لمعضلة الشعبوية.
وترتبط "غرف الصدى"، بالمفهوم الذي يطلق عليه علماء النفس "الانحياز التأكيديّ"، والذي يؤشر إلى ميل الإنسان للبحث عن كلّ ما يعزّز ويؤكد لديه ما يتبناه من معتقدات وقيم. وبالتالي يمكن القول بأنّ غرف الصدى، قد تجعل من وجهات النظر المختلفة، هامشيةً، ليس فقط لعدم تكرارها داخل هذه الحلقة المفرغة، إنما أيضًا بسبب تعرضها لنزعة الفرد القبلية التي تأطّرت بفعل غرف الصدى، والتي تُعيق الذات عن التطور وامتلاك عقلّ نقدي يُدرك الاختلافات والأمور المركّبة. إذ إنّ هذه الغرف بيئة آمنة للفرد، بدلًا من التطلع إلى محتويات مختلفة تساعده في الحدّ من التكرار وتجنّب الوقوع في مصيدة الاستقطاب السياسي والمعلومات المضخّمة والمضللة.
ومن جهة ثانية، يرتبط مصطلح agnotology –صناعة الجهل- والذي يُعدّ جانبًا من جوانب المعرفة الذي لا يمكن تجزئته، بسمات غرف الصدى التي تنتج الحقيقة من طرفها، وتتناقلها مع الأقران والأفراد على اعتبار أنها الحقيقة المطلقة، ويتم تعزيزها بواسطة المجتمعات الضيقة.
في هذا الصدد، يذهب الباحثون والمهتمون في المجال الرقمي، إلى القول بأنّ ذلك النوع المُنتَج من الحقائق، قد يكون بالفعل مزيف، لاموضوعي أو مشوه في بعض جوانبه، فكيف إذا تبناه الفرد من دون مرجعيات أو مصادر موثوقة؟
يمكن أن نرى بوضوح، مثلًا، خطابات اليمين المتطرف وما يتناقله حول حقيقة أنَّ للمهاجرين الدور الأبرز في تلاحق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وزيادة معدل الجريمة. هذه الخطابات التي تُنتج الجهل باعتمادها على وقائع غير علمية وغير صادقةـ تودي إلى أحداث لا يمكن التنبؤ إلا بمساوئها وخطرها. وكذلك الأمر بالنسبة للكثيرين الذين يعتمدون على أوراق بحثية- علمية زائفة للتدليل على أنَّ الأرض مسطحة الشكل، ولا صحة لكرويتها، وعبر خوارزميات التغذية التي تقترح للمستخدم معلومات ومحتويات مشابهة كليًّا لما يعتقد به، تزيد ثقته بالمعلومات الزائفة والمضللة.
وإنَّ لشركات التكنولوجيا الدور البارز والهام في إنشاء غرف للتقوقع والصدى، وعلى الرغم من فائدة هذه الشركات، من حيث تزويد المستخدم بخوارزميات ذكية، تقوم على توسيع العقل والبحث والتزوّد بمعلومات لا نهائية، إلّا أنَّ اعتمادها على الخوارزميات التفضيلية تعمّق من صلب المشكلة. فخلال الوباء الأخير، عززت الوسائط التّشاركية في الكثير من الأحيان على انتشار النظريات المؤامرتية، والأخبار الزائفة، التي دفعت بالمستخدمين إلى تكرارها وإعادة التأكيد عليها.
يمكن القول إنّ تطور الذكاء الاصطناعي، قد جعل من العالم الرقمي المحيط بالفرد، أيّ فردٍ، مكانا يخدم سلوكه، توجهاته، تطلعاته، وأحلامه، فتقوم المنصة الرقمية الخاصة بالفرد، باقتراح ثلاثة أشخاص آخرين يؤمنون بالأخبار ذاتها، ويفكرون بالطريقة ذاتها، ويتداولون المعلومات ذاتها، إذ هل يمكن هنا، إحالة الأمر إلى الصدفة الخوازرمية؟ قد يكون الجواب إشكالياً. لكن من خلال ظاهرة "التعرض الانتقائي" التي تستخدمها تلك المنصات لتقدم للفرد طريقة تزوده بالمعلومات ووجهات النظر المتقاربة مع تلك التي يعتقد بها، وبذلك تجنِّبُه المعلومات المتناقضة مع رأيه، وهذا الشيء ينسحب بطبيعة الحال، على الأفراد داخل هذه المنصة.
ذلك دفع بعض الباحثين لتوجيه أصابع الاتهام صوب الشركات الرقمية، لما تمتلكه من القدرة على بناء قوقعات فردانية وشلليات إلكترونية، تزيد من أخطار تداول الشائعات المنُتجة داخل غرف الصدى، كشائعات اللقاح، أو استخدام علاجات زائفة؛ تؤدي إلى ارتفاع معدل وفيات كوفيد-19، على سبيل المثال لا الحصر.
القبليّة والعجرفة المعرفية
لغرف الصدى، أبواب من صنع أصحابها، وإنّ في داخل هذه الغرف فقاعات معرفية ثقافية، واجتماعية، وداخل كل فقاعة ثمة فرد، تجعله شديد الثقة بمعرفته وقدراته الفكرية التي تلقّاها من المحيط الذي يدور حوله، فيميل وينحاز لمعرفته، بغض النظر عن صحتها وقوة منهجيتها. ويمكن القول هنا، ببساطة شديدة، إنّ الفرد قد يصبح عبدًا لفكرةٍ ما، وتصبح قدرته عن التخلي عنها صعبة ومعقدة.
إنَّ هذا “التعجرف والغرور المعرفي”، تجلّى أثناء محاولة أنصار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، اقتحام مبنى الكابيتول. فبالعودة إلى الانتخابات التي جرت مؤخرًا بين ترامب والرئيس الحالي جو بايدن والتي فاز فيها الأخير بغالبية الأصوات، تبيّن أنّ الهجوم على مبنى الكابيتول وكما أوضحت رينيا ديريستا، الباحثة في المجال الرقمي، كان في جزء كبير منه نتيجة غرف الصدى التي عمد فيها أنصار حركة "ريد ستايت سيكيشون" على نشر المعلومات المضللة حول صحة الانتخابات وتناقل تصريحات ترامب حول تزوير الانتخابات، إضافة لنشرهم صور الأسلحة والتحريض على الاقتحام بهدف ثني الكونغرس عن التصديق بفوز بايدن، بهذا الصدد تقول الباحثة ديريستا "إنّ ما جرى هو إظهار للتأثير الحقيقي لما يُعرف بغرف الصدى".
بين غرف الصدى وفقاعات التّصفية
هناك فارق بسيط، بين فقاعات التصفية وغرف الصدى، وعادة ما يتم الخلط بين المصطلحين، فـلفقاعات التصفية القدرة على جمع بيانات الفرد، وعلى معرفة ميوله، وبالتالي تقدم له محتوىً شبيهًا ومماثلًا لا يُشكّل لهُ قلقًا ولا تنافرًا معرفيًا، الأمر الذي يعكس دورها الكبير في نشوء غرف الصدى، وفي خلق مناخ عشائريّ يصعب الخروج منه.
كما أنَّ المستخدم الذي يقع ضحية غرف الصدى، لا يثق ولا يُصدّق أيّ صوتٍ خارجي يحمل أفكارًا مغايرة، وعلى سبيل المثال: إنَّ المشككين حجم تداعيات التغير المناخيّ، وكان على رأسهم الرئيس السابق دونالد ترامب ينكرون كل بحث وكل معلومة تصب في توصيف مدى خطورة تغير المناخ على البشرية، لكنهم يرفضون كل الأدلة من مصدرها ويصرون على أرائهم في غرفة الصدى خاصّتهم. وإذا كانت غرف الصدى الخاصة بالأفراد تُنكر صدقيّة المختلف، فإنَّ فقاعات التصفية لا يسمع فيها الأفراد أيّ صوتٍ خارجي.
وللحرص على عدم الوقوع في أفخاخ غرف الصدى، لا بدّ من إضفاء أشكال وأدوات تضطلع بمهمة تحليل الأفكار بشكل منطقي وتفعيل العقل النقدي خصوصًا مع انخراط الأفراد في المناقشات التي لا تظهر سوى وجهة نظر واحدة. وبالتالي الانتباه لنوعية الأشخاص الذيم يتم الاستماع إليهم ويتم متابعتهم بشكل أو بآخر، يحمي المستخدم من العشائرية والقبلية الإلكترونية.
بالإضافة إلى أنَّ متابعة الفرد لوجهات نظر متباينة، يحميه من الجمود الفكريّ ومن العقلية التي تبقى أسيرة صندوق الأفكار غير الصحيّة. هذه الصيرورة تُطور المسار العقليّ للمستخدم، لتمتد لاحقًا إلى الاعتراف بتوجهات الآخرين المختلفة عن توجهاته.
ولأنَّ الفرد وكما يقول الخبراء، يميل إلى تصديق الأشخاص الذين يعرفهم، والذين يتبنون أفكارًا تتوافق مع معتقداته، يحرص عادةً على التشبّث بهم. لهذا فإنّ من واجب كلّ مستخدم استحداث طرائق لتدريب العقل على النجاة من استمالات القطيع المستمرة. ونرى هذا بوضوح في المجموعات التي ينشئها الأقارب والأصدقاء وأفراد العائلة على منصات كواتساب وفيسبوك، لتشكل الأخيرة جزءًا لا يتجزأ من الحياة خارج الشبكة العنكوتية، وهذا التشابك بين الواقع الافتراضي والواقع المعاش يصبح أكثر خطرًا لأي فرد عاقل.
إذ إنَّ عملية متابعة الأخبار الموثوقة والتدريب على البحث الممنهج في الاعتماد على مصادر المعلومات، تضع الفرد في حالة تنبّه ويقظة للمخاطر الناجمة عن غرف الصدى.
المصادر والمراجع:
-Echo chambers are dangerous – we must try to break free of our online bubbles
-هل تقتل مواقع التواصل الاجتماعي التواضع الفكري؟
-الطريق إلى الكابيتول- كيف خطّط أنصار ترامب ليوم الاقتحام؟
-الحياة أفضل خارج غرف الصدى.. كيف عززت التكنولوجيا الانقسام في المجتمعات؟