الأفكار الواردة في هذا المقال لا تُعبّر بالضرورة عن رأي مسبار
في السنوات الأخيرة، ركّزت دراسات علميّة عديدة على العلاقة بين غياب التحقّق من المعلومات وتوثيقها قبل نشر الأخبار المتعلقة بجرائم قتل النساء وقضايا العنف الأسري من جهة، والمساهمة في تهميش المرأة وتكريس الصور النمطية السائدة عنها من جهة ثانية. وتتجلّى هذه العلاقة من خلال عناصر عديدة تبدأ باستخدام مصطلحات خاطئة لتوصيف الحالة المجتمعية هذه وتعريف القارئ، أو المشاهد، أو المستمع عليها، واعتماد عناوين مثيرة، وصولًا الى استخدام معلومات غير دقيقة لنقل تفاصيل الجريمة أو الحادثة.
وتتركّز غالبية هذه الدراسات على توثيق وتحليل تغطية عدد من الصحف ووسائل إعلامية غربية لهذا الموضوع، ليتبيّن أنّ عدد الدراسات العربية المنشورة باللغة الانجليزية التي عالجته من جوانب مختلفة منذ بداية القرن الواحد والعشرين حتى اليوم، لا يتخطى العشر على مساحة العالم العربي. وينعكس غياب الأبحاث ونظم أخلاقية موحّدة ترشد الصحفيين العرب إلى آليات التعامل مع هذه القضية بطريقة تُجنّبهم التضليل والإثارة، من خلال نوعية التغطية التي تظهر على المواقع الإخبارية العربية والقنوات التلفزيونية، وطريقة تداولنا كمستخدمين على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة تتأثر بشكل مباشر وغير مباشر بمعالجتنا الإعلامية للموضوع.
القواسم المشتركة بين العدد الأكبر من الوسائل الإعلامية العربية كثيرة في هذا المجال، وجميعها تصبّ في الخانة نفسها. على سبيل المثال لا الحصر، انتشر خبر ضحية العنف الأسري الفلسطينية صابرين خويري من الضفة الغربية قبل بضعة أيام على عدد من المواقع الاخبارية، ليأتي الخبر مثلًا على موقع قناة روسيا اليوم "رجل يقتل زوجته ويشوّه ملامحها أمام أطفاله". وقبل شهرين تقريبًا، عرض الموقع الروسي نفسه خبرًا مماثلًا عن الضحية الأردنية هيفاء أبو هاني تحت عنوان " هيفاء أبو هاني.. ضحية قتلها زوجها حرقًا أمام أبنائها تثير صدمة بالأردن"، أمّا موقع العربية.نت وضع العنوان الآتي "حرق زوجته أمام أطفالها ورفض إسعافها.. جريمة تهز الأردن".
الإثارة هي القاسم المشترك الأوّل بين جميع هذه العناوين لأنّها تعمد الى استخدام لغة تجذب القارئ ولا تطرح جذور القضية في العنوان بغية التلاعب بمشاعر القارئ من خلال العناوين “المدوية” غير الهادفة. وعادة ما تتبلور الإثارة في هذه القضية من خلال اللغة أو المقاطع المصوّرة أو التفاصيل المرئية التي نستخدمها كصحفيين مثل صورة للجثة، للدماء، أو لأفراد عائلة الضحية، أو من خلال الإطار العام الذي نختاره كقالب للقصة التي نطرحها، وتتضمّن إهانة لكرامة الضحية أو أحد أفراد أسرتها. وتأتي على شكل تحويل مثل هذه الظاهرة التي يخسر النساء حياتهنّ بسببها، إلى مادّة استهلاكيّة يتمّ الاتجار بها بهدف استقطاب أكبر عدد من القرّاء والمتابعين.
أمّا القاسم المشترك الثاني، فيكمن في عدم استخدام أيّ من هذه المواقع مصطلح جريمة أو ضحية عنف أسري عند إشارتها الى الضحيّتين، وهو مصطلح بدأ استخدامه في سبعينيّات القرن الماضي عندما لاحظ عدد من الباحثين أنّ المصطلحات السابقة خلقت رأيًا عامًّا غير قادر على التمييز بين أنواع العنف المختلفة ضدّ المرأة، ووجدت ضرورة ملّحة في خلق مفاهيم جديدة واضحة التعريف لتجنّب الوقوع في التضليل نتيجة عدم الدقّة، وذلك حسب دراسة أجرتها الباحثة الأميركيّة كاثرين آشكروفت عام 2000 وينطلق منها عدد كبير من الأبحاث حتّى يومنا هذا.
فالتضليل أساسًا هو تشويه للحقيقة أو بناء صورة تقلّدها باطلًا دون أن تجسّدها. وفي هذه الحالة في تقديم القضيّة المطروحة على أنّها مادّة ترفيهيّة من خلال الشكل والمضمون غير الدقيق دون الأخذ بعين الاعتبار للتبعات المترتّبة عن التأطير الخاطئ لهذه القضايا وارتباطه المباشر بغياب عنصر الحقيقة والدقّة الذي يشكّل أحد الأعمدة الرئيسيّة للمادّة الصحفية إن لم يكن أبرزها، يضرّ بالقضيّة المطروحة ونتيجته الحتميّة غالبًا ما تكون بإلقاء اللّوم على الضحيّة وتحميلها مسؤولية قتلها. فالاتحاد الدولي للصحفيين في الدليل الذي أصدره عام 2009 عن كيفية تعاطي الإعلام مع قضايا العنف ضدّ المرأة، تناول موضوع إلقاء اللوم على الضحية وخلق أعذار للمجرم على أنّهما نوعان آخران من الإثارة.
وأشارت جميع الدلائل الأخلاقية الموضوعة من قبل جهات دولية ذات صدقية وباحثين في الدراسات الإعلامية وصحفيين ذوي خبرة طويلة في التعاطي مع هذه القضية، إلى أنّه لا مبرر لأي صحفي أو وسيلة إعلامية توجّه اللوم الى ضحية وتعطي دوافعًا تبرر قتلها. ومثال على ذلك، ما ورد على موقع أخبار سوريا Syria News من خلال نشره الشهر الفائت خبرًا عن ضحيّة عنف أسري عزا الجريمة فيها إلى خلاف وقع بين الزوجين بسبب عدم حضور الضحية عزاء مع والدة زوجها القاتل. وجاء ذلك في عنوان الخبر ومن خلال نقل الموقع لبيان صادر عن الشرطة حول تفاصيل الجريمة بشكل حرفي. علمًا أنّ استخدام البيانات الصادرة عن الشرطة عادة تكون غير محبذة في هذه القضايا لأنّها تستخدم مصطلحات جامدة تخالف منهج الصحافة الإنسانية وتعمد الى تأطير القضية بشكل خاطئ.
وأمثلة أخرى عن ذلك، تأتي في وصف عدد من المواقع الإخبارية زوج الضحية صابرين خويري، بالمدمن على المخدّرات. كذلك في طريقة تداول خبر قتل سعودي لزوجته في إندونيسيا قبل أيام قليلة على موقع العربية.نت، إذ ربط الموقع الجريمة بغيرة الزوج ووصفها بـ "أسيد الغيرة". وفي جميع هذه الحالات، حذف هذه المعلومات استنادًا الى مدارس إعلامية عديدة وعدد من الدلائل الأخلاقية لا يعدّ انتقائية، إنّما حجبًا لمعلومة غير مرتبطة بسبب الجريمة والهدف منها هو فقط تبرئة القاتل.
وغياب الدقّة يكمن أيضًا في نوعية الأسئلة المطروحة التي تصبّ في تكريس الأطر الإعلامية التي تحدثنا عنها أعلاه. والأسئلة الشائعة غالبًا ما تكون عندما نسأل كصحفيين أهل الضحية ما إذا كان زوجها يعاملها جيدًا، أو ما إذا كانت تحبّه ولم ترض الانفصال عنه رغم تعرضّها للتعنيف. وتكون عند سؤال القاتل أو أحد أفراد أسرته عن سبب ارتكابه للجريمة، أو عمّا إذا كانت زوجة أو أمًّا صالحة.
هذه العيّنة البسيطة عن واقع الموادّ المتداولة حول قضايا قتل النساء، تعكس وفق المعايير العلميّة والأكاديميّة لأخلاقيات الصحافة قطيعة شبه تامّة بين مضمون المنشورات ومفهومي الحقيقة/الدقّة والإنسانيّة، وجهلًا أو عدم دراية وإتقان في التعامل مع هذه القضيّة لدى عدد من العاملين في الإعلام. وتؤسّس في أحيان كثيرة لخطاب كراهية ضدّ النساء من خلال تحميلهنّ مسؤولية تعرضهنّ للعنف بسبب عدم مجاراتهنّ للصورة المجتمعيّة السائدة عن المرأة.
وتظهر دراسة أجرتها الكاتبة هي القيد النشر، أنّ لدى عدد من الصحفيين النية الحسنة والإرادة في طرح هذه القضية على أنّها مشكلة اجتماعية لا وجهة نظر، ولكن نقص التدريب والاطلاع الكافي يشكّل عائقًا أمامهم.
إقرأ/ي أيضًا:
اللاجئون في تركيا والخطاب الشعبوي المضلّل
دور التضليل في أزمة المهاجرين: كيف تحوّل فيسبوك إلى سوقٍ لتهريب البشر؟
المصادر: