الأفكار الواردة في هذا المقال لا تُعبّر بالضرورة عن آراء مسبار.
تصدّر خبر زيارة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس اليوم في 20 ديسمبر/كانون الأول، عناوين الصحف اللبنانية باعتباره الحدث السياسي الأبرز في لبنان، نظرًا لكونه يجسّد زيارة مسؤول رفيع المستوى إلى العاصمة بيروت بعد أن افتقدت لمثل هذه الزيارات التي أصبحت نادرة كي لا نقول منعدمة في السنوات الأخيرة، بسبب العزلة غير المعلنة المفروضة على لبنان عربيًا ودوليًا. وعرضت الصحف اللبنانية أهداف الزيارة وبرنامجها في صفحاتها الأولى، إلاّ أنّ هذا الخبر على الرغم من أهميته ودلالاته السياسية غاب تمامًا عن صفحات جريدة الأخبار اللبنانية اليوم، فلم يظهر لا في الصفحة الأولى ولا الثانية ولا حتى في الصفحة الأخيرة.
لا يأتي الحديث عن جريدة الأخبار هنا، بهدف تحليل دوافعها وراء مسحها كليًّا، لحدث يحصل في البقعة الجغرافية التي يصدف أن تكون هي أيضًا موجودة فيها؛ إنّما نطرحه ليكون بمثابة مثل عن التعتيم الإعلامي، علاقته بالتضليل ومدى جدواه في عصرنا اليوم. فهل اختفى الخبر وغاب عن مسامعنا لأنّ "الأخبار" قررت إخفاءه؟
وفق المعجم المعاصر، التعتيم الإعلامي هو إخفاء الأخبار عن الجمهور، عن طريق تشديد الرقابة على مصادرها، وبالتالي يمكن أن يندرج في خانة التضليل لأنّه يحجب معلومات عن الجمهور ويوجهّهم حسب الأيديولوجية التي يتبنى والتي يرغب أن يفرضها على الآخرين من خلال المحتوى الموجّه الذي يقدمّه، بينما يكون للحقيقة غالبًا وجهًا أو أوجهًا أخرى قد تكون مغايرة تمامًا.
ومع تعدّد الوسائل والوسائط الإعلامية بات إخفاء المعلومات أمرًا صعبًا ومهمة شبه مستحيلة، لأنّ البديل دائمًا متاح ليكون منبرًا يعكس ما غاب عن منبرٍ آخر، غير أنّ الوسائط البديلة أيضًا تتعرّض لأشكال مختلفة من التعتيم، مثل قطع الانترنت خلال الاضطربات والانقلابات والثورات. وفي هذا الإطار، أمثلة عديدة تندرج في السياق نفسه وتصعّب لا بل وتجعل من المستحيل الحصول على معلومات دقيقة حول قضايا وأحداث تحصل من حولنا، تُزهَق خلالها أرواح أو يُظلَم فيها أشخاص أو يشرَّد آخرون. وهنا، لابدّ من الحديث عن انقطاع الإنترنت في السودان منذ انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأوّل بهدف التعتيم على الأحداث الدائرة هناك والحدّ من قدرة تدفّق المعلومات. وفي إقليم تيغراي الإثيوبي، اشتكى صحافيون كثر من عدم قدرتهم على توثيق الأحداث الدائرة والحصول على معلومات دقيقة بسبب انقطاع الانترنت، ويعود ذلك لعدم قدرتهم على التحقّق من المصادر ومراجعتها والتثبّت من صحّتها أو عدمه.
وفي تونس، تحدّث اليوم نقيب الصحفيين التونسيين محمد ياسين الجالصي، عن تداعيات التعتيم الإعلامي الذي تشهده بلاده، والخطر الذي يترّبص بخسارة حقّ الوصول للمعلومات، الذي يتيح كشف الفساد ويمنع التضليل ويسهّل عمل الصحفيين وحقّ الأفراد بالمعرفة.
ومن جهة ثانية، يأتي التعتيم الإعلامي أحيانًا من مالكي مواقع التواصل الاجتماعي أنفسهم، عندما تتقاطع مصالحهم أو سردياتهم مع السردية التي يريد مستخدموهم نشرها. والقضية الفلسطينية تأتي خير مثال عن هذا الموضوع، فمع كلّ نكسة أو غارة أو عدوان إسرائيلي جديد، تختفي السردية الفلسطينية عن هذه المواقع أو بالأحرى تُحذف تمامًا، بهدف التعتيم الإعلامي وانتصار سردية الأقوى، ما يشير إلى تزييف الحقائق وطمسها وتضليل الجمهور.
والمهم ذكره، أنّ السبل دائمًا موجودة لمكافحة التعتيم الإعلامي ومحاولة حجب الحقائق حتّى عندما يتعلّق الأمر بالإعلام البديل الذي بات يحتاج بديلًا هو الآخر. فقبل عامين أطلقت مجموعة من الصحفيين والأكاديميين في الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت مبادرة تتجسّد في التجمّع المناهض للفصل العنصري. وكان الهدف من هذه المبادرة التي ما زالت فاعلة اليوم، حسب مديرة التجمّع مايا مجذوب، خلق سردية مضادّة في مواجهة السردية الإسرائيلية، من خلال استخدام وسائل القتال الإلكتروني نفسها. ومن الآليات المتبعة لمواجهة السرديات السائدة هي المساهمة في كتابة محتوى جديد في موقع ويكيبيديا مثلًا، وإجراء ورش تدريبية بهدف تمكين الأشخاص العاديين من استخدام مصطلحات وسرديات يستطيعون من خلالها نقل معاناتهم وقضيتهم وتصويرها بطريقة تمنع التضليل والتعتيم على القمع والعنصرية التي يتعرضون لها بشكل يومي.
إذًا، علاقة وثيقة تجمع التعتيم الإعلامي بالتضليل، فهما يسيران جنبًا إلى حنب بهدف محو حدث أو حقيقة ما من الوجود واعتبار أنّها لم تكن ولن تكون طالما قبضة الممسكين بهذه الوسائط محكمة على مصادر المعلومات وطريقة عرضها. فقد قالها الباحث والمنظر الإعلامي مارشال ماكلوهان، منذ عام 1967 "الوسيط هو الرسالة" في إشارة إلى أنّ الرسالة التي تصل إلى المتلقي تعتمد على الوسيط الذي نسجها وتشكّلت فيه لتجسّده وتكون صورة عنه، لذا فمواجهة التعتيم ممكنة من خلال وسائط يكون لدينا سلطة عليها أو أقلّه القدرة على المشاركة في صناعة مضمونها.
إقرأ/ي أيضًا:
هل تجعلنا وسائل التواصل الاجتماعي أكثر غضبًا من أجل مصلحتها؟
كيف يتعامل الإعلام العربي مع قضايا الأشخاص ذوي الإعاقة؟
المصادر: