الأفكار الواردة في هذه المدونة لا تُعبّر بالضرورة عن آراء “مسبار”.
يُبيّن المفكر الأميركي نعوم تشومسكي، والكاتب إدوارد هيرمان، في كتابيهما الذي حمل عنوان “صناعة الموافقة: الاقتصاد السّياسي لوسائل الإعلام”، الصّادر عام 1988، الوجه الآخر لوسائل الإعلام في الولايات المتحدة الأميركية، إذ يذهبان إلى تعريفها بأنّها وسائل مؤدلجة تعتمد على قوى السوق.
قد يبدو للبعض أنّه من المستغرب قراءة الأخبار المضللة والمتحيزة بالاستناد إلى الاقتصاد السياسيّ، لكنّ تشومسكي وهيرمان في كتابهما ينطلقان من هذه المقاربة.
يبدأ كل من المؤلفَيْن كتابهما بعنوان عريض، هو “A Propaganda Model”، وتندرج تحته عناوين فرعية عدّها كل من تشومسكي وهيرمان طريقةً "لتصفية الأخبار"، بما يتناسب مع توجهات الحكومة أو المصالح الخاصة للشركات المسيطرة على وسائل الإعلام التي يتابعها الجمهور. وعلى ذلك، فإنَّ تفاوت الثروة والسلطة له تأثيرات عميقة على خيارات وسائل الإعلام سيشرحها مؤلفا الكتاب بشكل منفصل.
في العنوان الأول (الحجم وتوجيه الربح وملكية وسائل الإعلام)، يبدأ كل من المؤلِّفين بعرضٍ تاريخيّ، من وجهة نظر أستاذي الإعلام جيمس كوران وجان سيتون، لتطور وسائل الإعلام الجماهرية. ففي القرن 19 في بريطانيا، ظهرت الصحافة الراديكالية المساندة للطبقة العمالية، وعملت على نشر الوعي الطبقي في رسائلها، وعلى تنبيه العمال بحقوقهم، وعزّزت ثقتهم في تغيير واقعهم، الأمر الذي شكّل خطرًا على النخبة الحاكمة، ما دفع الأخيرة إلى اتهام بعض الصحف الراديكالية بتأجيج مشاعر أنانية لدى العمال، والتي تخالف في نظرها، النظام الطبيعي للبشرية، سعيًا منها لإسكات صوت الصحف تلك، عبر التشهير بها، وملاحقتها قضائيًّا.
ومع عدم جدوى هذه الأساليب، لاحظ كوران وسيتون أنَّ النظام الليبرالي أنجز بنجاح ما فشلت الطبقة الحاكمة في إنجازه، ومنذ ذلك الوقت، اختفت الصحف الراديكالية، وارتبطت الصحف اليومية الجديدة بقوى السوق الحرّ، مما أفسح المجال لظهور ما يسمّى بـ "تصنيع الصحافة - industrialization of the press".
يُكمل المؤلِّفان، مع الناقد الإعلامي والصحفي الأميركي بن باجديكيان الذي يقول، إنّه "إبان الحرب العالمية الثانية، أخذت الأخبار طابعًا مركزيًّا، واتّسمت شركات الإنتاج الإعلامي بمحدودية جغرافية، جعلت السلطة الحاكمة تستعين بها لتوجيه مواطنيها، لكن اليوم، أمسى لشركات الإنتاج الإعلامي دورًا مهمًّا في تصنيع شبكة إنتاج الأخبار والجرائد والأفلام، وتعيين شكل المشاهدين بما يتناسب ومصالحها، بذلك تجاوزت نطاقها المحلي، إلى نطاق أوسع، كشركات متعددة الجنسيات، تخدم وتلبي فضول المتلقي في شكله المُعولَم الحديث. وأصبحت العلاقة بينها وبين السلطة الحاكمة أشدّ تعقيدًا، بمعنى أنّ عملية تصنيع وإنتاج الأخبار بصدقيّة وشفافية عاليتين، أصبحت قائمة بشكل أساسي على المصلحة المتبادلة بين السلطات المحلية (وزارة الإعلام للسلطة السياسية الحاكمة)، والشركات الإعلامية الضخمة.
يقول بن باجديكيان في هذا السياق "على الرغم من الوسائل الإعلامية المختلفة التي ظهرت مع انبثاق النظام الليبرالي، إلا أنّ أكبر 29 شركة إعلامية في الولايات المتحدة، تُنتج أكثر من نصف إنتاج الصحف. ويضيف "هذا الاحتكار يشكّل وزارة خاصة جديدة للإعلام والثقافة".
الجداول البيانية أعلاه، توضّح حجم ثروات مؤسسات إعلامية عملاقة في الولايات المتحدة الأميركية عام 1986، وفقًا لتشومسكي وهيرمان.
ملكية وسائل الإعلام ليست الشكل الوحيد الذي يصنع "الموافقة والاندراج"، فالعنوان الفرعي الثاني للكتاب، وهو "الإعلان.. رخصة لممارسة الأعمال التجارية"، يُسلط الضوء على الإعلان كشكل من أشكال الإعلام التسويقي. وكما هو شائع فإنَّ الإعلان وسيلة مدفوعة الأجر، موجهٌ إلى فئات كبيرة من الجماهير، ومن شأنه إقناع تلك الفئات وتعزيز النزعة الاستهلاكية لديهم.
يقول تشومسكي، إنّها “سلسلة من حلقات الرأسمالية شديدة التعقيد”، ويُضيف: “العملاء الحقيقيون الذين تخدمهم الوسائل الإعلامية هم الشركات الدافعة لهم في مقابل الترويج لسلعها المختلفة، بذا تصبح الأخبار خاضعة لمزاج الشركات الإعلانية ومصالحها بغض النظر عن معايير المهنة كالصدقيّة”.
يبيّن الكاتبان كيف تتعامل الوسائل الإعلامية مع جمهورها كسلعة، وإبقاء مستوى متابعة الجمهور عاليًا، من أجل الحفاظ على تقييمات الإعلانات والربح التي تجنيه من ذلك. بالتالي، فإنَّ أي برنامج ثقافي، قد يتسبب في خسارة، سيعمل النظام التجاري القائم على الإعلانات على التخلص منه، ما يؤدي إلى تغييب المواد الثقافية والنقدية من الوسائل الإعلامية.
إنَّ رؤية الرأسمالية للإعلام، كمنتَج تسويقي، يجعلنا نفكر مليًّا فيما قالهُ عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومن، بأنَّ الاستهلاك تخطّى فكرة السلعة المادية إلى التكنولوجيا والتواصل والعلاقات، لنكون إزاء تحوّلٍ واضح إلى السيولة، على الرغم من طرحها أمامنا خيارات لامتناهية إلّا أنّها تضيق علينا أكثر.
يعود كل من تشومسكي وزميله هيرمان ليضيفا في كتابهما أسبابًا أخرى لصناعة الموافقة، مثل مركز صناعة القرار. وبحسب رأيهم، فإنَّ مصادر الأخبار في بعض المؤسسات الإعلامية، يقدمها مسؤولو الحكومات، أو مسؤولين داخل مؤسسات اقتصادية واجتماعية، فتؤثر تلك المصادر على صياغة الخبر، وصدقيّة المعلومات.
يؤكد تشومسكي على العلاقة الوثيقة التي تجمع مراكز صنع القرار والإعلام، إذ تطمح الأولى لتمرير أيديولوجياتها وأفكارها ورؤاها السياسية، عبر قنوات اتصالية، تلعب دورًا مهمًا في توجيه الجمهور. تؤدي هذه العلاقة إلى ظهور ما يسميه تشومسكي وهيرمان بـ"moral division of labor".
يؤكد المؤلفان أنَّ وسائل الإعلام لديها جداول أخبار زمنية تكون ملزمة بإتمامها، ولا يمكنها تحمّل تكاليف وجود مراسلين وكاميرات في جميع الأماكن التي قد تُنشر فيها القصص المهمة، لذا يتمّ تركيز مواردها في الأماكن التي تكثر الشائعات والتسريبات.
وتُلبيّ بيروقراطيات السلطات الحاكمة متطلبات المؤسسات الإخبارية، بحيث يحصل الصحفيون على السبق الخبري أو المعلومة من قِبَل تلك البيروقراطيات (الشركات أو أصحاب النفوذ وصانعو القرار)، فيغدو دور الصحفي مسلوبًا وشكليًّا، أي أنّه يصبح ناقلًا لما يُمليه عليه هؤلاء، مع افتقاره لأهم أداة تميّزه كصحفي "الموضوعية والتنقيب عن الحقيقة".
يلفت تشومسكي وهيرمان الانتباه إلى ما سمّوه “FLAK”، وهو العنوان الفرعي الرابع في الكتاب، والذي يدخل في عملية "صناعة الموافقة".
تُركّز الشركات الإعلامية الكبيرة أو السلطات على بيانات، وتصريحات، ومواد متلفزة، وبرامج إعلامية، فتشكّك في أجنداتها وتوجهاتها وسياساتها التحريرية، وتلجأ في بعض الأوقات لرفع الدعاوى القضائية عليها، ويمكن أن يصل الأمر لتشويه سمعة الأفراد والعاملين داخل المؤسسات الإعلامية تلك، حال لم تتماهى مع خطاب ومصالح الشركات والسلطات والأفراد النافذين. ردّ الفعل السلبيّ ذاك، يمكن وصفه بـ"ذر الرماد في العيون" أو FLAK كما ذهب المؤلفان لتسميته أو تعريفه.
في “الفلتر” الخامس الذي حمل عنوان “ANTICOMMUNISM AS A CONTROL MECHANISM” أو "ضد الشيوعية.. كأداة ضبط"، يخوض المؤلفان في فكرة خلق عدو من قِبَل السلطة السياسية والشركات العملاقة، يكون هذا العدو بمثابة تهديد، في أوقات السلم والحرب، تستخدمه بهدف التأثير والسيطرة على الجماهير، وإبقائها موحّدة ومنضوية ومتماهية مع خطاب السلطة، وتجعل من الوسائل الإعلامية أداة لتحقيق مآربها.
في نهاية ثمانينيات القرن الفائت، تسبّب انهيار الاتحاد السوفييتي في ضرب فكرة "خلق العدو" القادم من بعيد لدى السلطة السياسية، ما ترك فراغًا في هذا التصور، الأمر الذي جعلها تذهب لخلق أعداء آخرين، فظهرت، بحسب تشومسكي، مسمّيات أخرى مثل "الحرب على الإرهاب"، وظاهرة "الإسلاموفوبيا". تمثل تلك المستميات الخوف المُتخيّل أو المبالغ فيه الذي تعمل وسائل الإعلام على تناقله باستمرار، ما قد يكشف تواطؤ حاصل بينها وبين الشركات العملاقة وسلطة الأخيرة عليها.
المصادر
MANUFACTURING CONSENT “The Political Economy of the Mass Media”