هذا المقال ترجمة بتصرف عن مقال منشور في موقع ذا كونفيرسيشن
هناك أشكال مختلفة من الخصوصية، ولعلّ أبرزها في عصرنا الحالي الخصوصية الرقمية عبر الإنترنت، وهي جميع المعلومات عن حياة الناس في الفضاء الإلكتروني. من جهة أخرى، هناك خصوصية للناس بعيدًا عن شبكة الإنترنت، وهي المعلومات المرتبطة بحياتهم في العالم المادي.
نعيش في عصر أصبح فيه من الصعب على الناس الحفاظ على خصوصياتهم الرقمية، إذ عرفت الشركات التكنولوجية العملاقة مثل ميتا وغوغل الكثير عن حياة المستخدمين، من خلال بياناتهم ومعلوماتهم الشخصية على مواقع الإنترنت، ولكن بالنسبة للخصوصية في العالم المادي، فهل هناك أمل في حفاظ الناس عليها؟
تكمن المشكلة الحقيقية في ربط الناس حياتهم ومنازلهم وأماكن عملهم وكل ما يتعلق بهم بالعديد من الأجهزة المتصلة بالإنترنت، على سبيل المثال، تُسجّل الأجهزة المنزلية مثل الساعات والمصابيح الذكية وأجراس الأبواب، أفعال الناس بعناية ودقة شديدة لأنها متصلة ببعضها البعض عبر الإنترنت.
إضافة إلى ذلك، فهي تسجّل عناوين السكن ونبضات القلب وضغط الدم والوزن، وفترات تناول الطعام والزيارات والتدريبات، وفي المستقبل القريب ستراقب الأجهزة المتصلة بالإنترنت حياة الإنسان على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، بينما ستجمع شركات مثل غوغل وأمازون كل هذه المعلومات.
على سبيل المثال، لماذا اشترت “غوغل" كلًا من شركتي نيست وفيتبيت مؤخرًا؟ ولماذا استحوذت أمازون على شركتين للمنازل الذكية، رينج وبلينك هوم، وصنّعت ساعاتهما الذكية؟ وكأنّها في سباق للتعرُّف على حياة الناس بشكل أفضل.
والفوائد التي تعود على تلك الشركات واضحة تمامًا، كلما زادت معرفتهم عن الناس والمجتمعات أكثر، زادت قدرتهم على استهدافهم بالإعلانات وتسويق المنتجات عبر الإنترنت.
إن سياسة “أمازون” تعتمد بشكل أساسي على جمع بيانات عن المستهلكين بشكل متزايد، لتساعد في استهداف الناس بالإعلانات وإجراء المزيد من عمليات الشراء على الموقع.
على الجانب الآخر، سيستفيد المجتمع من جمع بعض الشركات لبيانات المستخدمين في حقول مختلفة، فمن المحتمل أن يساعد جمع البيانات الصحية في منح الناس حياة صحية أفضل.
كما ستساهم هذه العملية في منح الناس المزيد من الراحة، خاصةً حينما تُسلّط الأضواء عند دخولهم الغرفة، وتتحرك منظمات الحرارة تلقائيًا إلى درجة الحرارة المفضلة لديهم، وتظهر أمامهم الأفلام التي يرغبون في مشاهدتها والأغاني التي يريدون سماعها، والمنتجات التي يحتاجون شرائها.
ولكن ماذا لو زادت أقساط التأمين الصحي في كل مرة يغيب فيها الأشخاص عن حصتهم في صالة الألعاب الرياضية؟ أو أنّ صاحب العمل طرد العامل لأنّ ساعته الذكية كشفت أنه استغرق الكثير من فترات الراحة في استخدام المرحاض؟
في الحياة الرقمية، يمكن للأشخاص الكذب بشأن حياتهم الخاصة وتفضيلاتهم الشخصية، يمكنهم أيضًا الاتصال بالشبكات الافتراضية VPN وحسابات البريد الإلكتروني المزيفة بشكل مجهول. لكن من الصعب الكذب عندما ترتبط حياة الناس بالأجهزة الذكية، فهم لا يملكون القدرة على التحكم في سرعة دقات القلب أو مدى اتساع حدقة العين.
وقد شهدنا سابقًا تلاعب الأحزاب السياسية بالتصويت بناءً على البصمات الرقمية للأشخاص، وكيف تم استغلال بيانات المستخدمين على فيسبوك في الترويج لأخبار زائفة تدعم دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، فتخيل أنّ الأحزاب السياسية ستستطيع الوصول إلى نبضات قلب الشخص وضغط دمه. حتى الروائي جورج أورويل في تخيلاته لم يذهب إلى هذا الحد.
الأسوأ من ذلك أننا نقدّم هذه البيانات لشركات خاصة لا تجيد مشاركة أرباحها معنا. فعندما يرسل الشخص لعابه إلى شركة 23AndMe المتخصصة في الجينات والتكنولوجيا الحيوية للاختبار الجيني، فإنه يمنحهم الوصول إلى جوهر هويته، الحمض النووي الخاص به. ولو حدث أن استخدمت الشركة حمضه النووي لتطوير علاج لمرض وراثي نادر لديه، سيتعين عليه دفع ثمن هذا العلاج، وفقًا لشروط وأحكام شركة 23AndMe، التي تنصّ على الآتي:
“يدرك الناس أنه من خلال تقديم أي عينة خاصة بهم، أو معالجة معلوماتهم الجينية، أو الوصول إلى المعلومات الجينية الخاصة بهم، أو تقديم معلومات شخصية، فإنهم لا يحصلون على أي حقوق أو تعويض في أي بحث أو منتجات تجارية قد يتم تطويرها لا حقًا بواسطة الشركة أو شركائها”.
فكيف يمكن للناس وضع ضمانات للحفاظ على خصوصياتهم في عالم الذكاء الاصطناعي؟
كل ما بوسع الناس فعله اليوم، هو تسجيل الخروج من المواقع الإلكترونية وعدم استخدام خدماتهم، فلا يمكن لهم المطالبة بخصوصية أكبر تتعارض مع هدف الشركات التكنولوجية. بعبارة بسيطة، إذا كنت لا ترغب بأن تنكشف رسائلك الإلكترونية من قبل خدمة جيميل، فلا يمكنك استخدامها. كما يتحتّم عليك ألّا تُرسل أيّ بريد إلكتروني إلى أي شخص لديه حساب على الخدمة، لأن “غوغل” تقرأ كل رسائل البريد الإلكتروني التي تمر عبر نظام جيميل.
وبالتالي، ما هو البديل عن ذلك؟
يقترح كاتب المقال أنّ الخدمات الرقمية يجب أن توفّر أربعة مستويات من الخصوصية:
المستوى الأول: لا تحتفظ الشركة بأي معلومات عن الشخص بخلاف اسمه والبريد الإلكتروني وكلمة المرور.
المستوى الثاني: تحتفظ الشركة بمعلومات عنه فقط لتزويده بخدمة أفضل، لكن لا تشارك هذه المعلومات مع أي شخص أو جهة.
المستوى الثالث: تحتفظ الشركة بمعلومات عنه يمكن مشاركتها مع الشركات المتعاونة.
المستوى الرابع: أن تعتبر الشركة المعلومات التي تجمعها عن المستخدم عامّة ويمكن لأي جهة الاطّلاع عليها.
وعليه، يمكن للمستخدم تحديد مستوى الخصوصية بنقرة واحدة من صفحة الإعدادات، بحيث تكون أي تغييرات مربوطة بأثر رجعي. بمعنى أنه إذا حدد المستخدم خصوصية المستوى الأول، فيجب على الشركة حذف جميع المعلومات الموجودة عنه حاليًا، بخلاف اسم المستخدم والبريد الإلكتروني وكلمة المرور. هذا البديل سيقدّم للناس خصوصية عالية، وأيضًا المزيد من الراحة والأمان في التعامل مع الخدمات الرقمية.
لا بدّ من التعامل بجدّية مع مشكلة خصوصية بيانات المستخدمين في شبكة الإنترنت، فنحن في عصر بتنا نخاف فيه على الشباب الذين تتم أرشفة كل منشور لهم على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ قد يتم استغلال ذلك ضدهم من قبل صاحب عمل، أو خصم سياسي، وهذا هو أحد أهم الأسباب الداعية إلى حذف البيانات الرقمية للفرد من المواقع.
لا يمكنك نقل جميع بياناتك وشبكتك الاجتماعية ومنشوراتك وصورك إلى موقع تواصل اجتماعي منافس، في الواقع لا يوجد منافس حقيقي لـ "فيسبوك"، فهو عبارة عن حديقة مُسوّرة، تتمسك ببيانات المستخدمين وتضع القواعد، لذلك نحن بحاجة إلى إرجاع تلك البيانات وإخراجها وحذفها من الموقع، حتى يتم إيجاد منافسة حقيقية.
ربما نكون في أدنى مستوى تكنولوجي اليوم على صعيد حماية بيانات المستخدم، فللقيام بأي شيء نحتاج أولًا إلى إرسال البيانات إلى السحابة الإلكترونية لتخزينها والاستفادة من الموارد الحسابية الهائلة التي يمكن العثور عليها هناك. على سبيل المثال، لا يعمل برنامج سيري على جهاز الآيفون الخاص بك بل يعمل على خوادم “آبل”،وبمجرد أن تترك بياناتك في حوزتهم، يمكنك أيضًا اعتبارها عامة، لذلك يجب أن نتطلّع إلى مستقبل يمكن فيه أن يتم تشغيل الذكاء الاصطناعي على جهازك، ولا يلزم إرسال بياناتك إلى أي جهة أو طرف آخر.
هذا هو نوع المستقبل الذي نحتاج أن يدعمه الذكاء الاصطناعي، مستقبل يعزز الذكاء الاصطناعي دور التكنولوجيا في الحفاظ على خصوصية المستخدمين.
اقرأ/ي أيضًا:
