الأفكار الواردة في هذه المدونة تعبّر عن آراء الكاتب وليس عن “مسبار” بالضرورة
في أواخر سبعينيات القرن الفائت، تمت صياغة النظام العالمي الجديد للمعلومات والاتصالات (NWICO)، الذي يمثِّل تطلعات العديد من دول عالم الجنوب في إضفاء طابع ديمقراطي على نظام الاتصال الدولي وإعادة التوازن إلى تدفق المعلومات في جميع أنحاء العالم. ومازال النظام الذي اعتُمد في المؤتمر العام الحادي والعشرين لليونسكو في بلغراد عام 1980، يشكِّل علامة فارقة في تاريخ المناقشات العالمية حول قضايا الاتصال.
على الرغم من أهمية النظام الجديد في حماية الوسائط من الفوضى المعلوماتية وهيمنة رأس المال، إلا أنَّ بنوده غير الملزمة سمحت للولايات المتحدة الأميركية الانسحاب منه حينها، بحجة أنه قد يمسّ مبادئ الحرية الصحفية التي تدرجها في قوانينها. ولكن إذا تتبعنا المشهد الإعلامي اليوم في الولايات المتحدة الأميركية، سنلاحظ أنَّ الحرية الصحفية فيها باتت معرّضة للخطر بسبب السوق الاقتصادي الضخم وعلاقات موازين القوى العالمية.
فمساعي NWICO إلى تحقيق المساواة على صعيد أممي غير كافية، في غياب تفعيل الدول لدورها في إقامة توازن بين المصالح العامة من جهة والخاصة من جهة ثانية، خصوصًا أنَّ هذه الموازين المطروحة قد تؤثر على ملكية وسائل الإعلام، علمًا أنّ الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية تعاني من هذه المشكلة على حد سواء، إنْ على المستوى الداخلي أو في علاقاتها مع بعضها البعض.
فعلى سبيل المثال، كشفت كلّ من سالي أثيلستون ومارتا وينجز، في تحقيق لهما بعنوان "من يملك المعلومات" أسماء الأفراد والشركات التي تستحوذ على أكبر الشبكات التلفزيونية ومختلف أنواع وسائل الإعلام التي تعدّ الأكثر شعبية في الولايات المتحدة الأميركية. وذكرتا في هذا التحقيق الذي نُشر في العدد الأول من مجلة رؤى مغايرة في فبراير/شباط عام1997، ترجمة عن مجلة ماريب (MERIP)، تفاصيل عن شركات كبرى مثل كابيتال سيتيز، وجنرال إليكتريك، وكوكس إنتربرايز، إضافة إلى أسماء المساهمين وكبار المالكين الأفراد مثل روبرت مردوخ ولورانس تيتش، صاحب سلسلة فنادق لويس، وأسرة أوشز-سلزبرجر؛ إذ إنّ جميهم يملكون وسائل إعلام معروفة.
ولعلّ حال المؤسسات الإعلامية في الولايات المتحدة الأميركية بهذا الخصوص لا يختلف كثيرًا عن ذلك القائم في بلدان مختلفة حول العالم من ضمنها لبنان، الذي يعاني هو الآخر من التدفق غير المتكافئ وغير المتوازن للمعلومات خدمة لموازين القوى والمصالح المؤسساتية.
ومن هنا، تناقش هذه المدونة ملكية وسائل الإعلام في لبنان، وتحاول الإجابة عن الأسئلة الآتية: مَن يملك وسائل الإعلام اللبنانية؟ عن أي مصالح سياسية تعبّر هذه الوسائل المحلية، التقليدية منها والرقمية؟ وكيف تخلق غرف صدى (Echo Chamber)، وتنافر معرفيّ (cognitive dissonance) في المجتمع اللبنانيّ المنقسم أصلًا؟
الانتماءات السياسية لوسائل الإعلام اللبنانية
لا تزال الصحف اللبنانية تعمل بموجب قانون المطبوعات الصادر عام 1962، مع بعض التعديلات التي أجراها رئيس الجمهورية اللبنانية الراحل فؤاد شهاب. وعلى الرغم من أنّ هذا القانون وفّر مستوى من الحرية للعمل الصحافي، إلّا أنّ الحرية الإعلامية في لبنان مقيدة كما هو الحال في الكثير من الدول العربية. ويعزو الباحث في الدراسات الإعلامية الدكتور نبيل دجاني، في ورقته البحثية التي تحمل عنوان “أسطورة الحرية الإعلامية في لبنان”، سبب هذه القيود ليس إلى طبيعة الحكم في لبنان كأن يكون توتاليتاريًا مثلًا، بل يعتقد أنّ القيود هي من نوع آخر وتتمثل في وجود هياكل طائفية ومالية تتحكم في الرأي العام وبغالبية الوسائل الإعلامية. وهو أيضًا ما تعاني منه وسائل الإعلام المرئية والمسموعة.
وأظهرت بيانات أعدّتها مؤسسة سمير قصير ضمن مشروع “مرصد ملكية وسائل الإعلام في لبنان” الذي أطلقته المؤسسة عام 2018 بالتعاون مع منظمة “مراسلون بلا حدود”، أنّ أكثر من عشر صحف خاصة يوميًا تصدر في لبنان في اللغات الثلاث: الإنجليزية والفرنسية والعربية، وأكثر من 1500 دورية أسبوعية وشهرية، "ويستحوذ لبنان على نصف الدوريات الصادرة في منطقة الشرق الأوسط تقريبًا؛ إضافة إلى ذلك، يوجد في لبنان تسع محطات تلفزيونية ونحو 40 إذاعة".
وعلى الرغم من هذا الزخم في الإنتاج والتنوع، إلّا أنَّ 78.4% من وسائل الإعلام المشمولة في الرصد لها انتماءات سياسية. إذ إنّ 21.62% منها لها انتماءات مباشرة مرتبطة بأحزاب سياسية لبنانية، فيما ينتمي 43.24% منها إلى الحكومة (وسائل مملوكة من الدولة) أو إلى وزراء ونواب حاليين بصورة كاملة أو جزئية، و13.51% منها مملوكة من أفراد عملوا في الحياة السياسية أو يأملون امتهان العمل السياسي. كما يبيّن المسح أنّ 32% من وسائل الإعلام المشمولة والأكثر شعبية تابعة لثماني أسر لبنانية نافذة على الأقل. ويمثّل ذلك حصّة متابعة تصل إلى 30% من المشاهدين و72% من المستمعين و60% من القرّاء.
وتلتزم وسائل الإعلام اللبنانية التقليدية بإعداد وتحرير الأخبار التي تخدم مصالح الراعي لها، سواء كانت دولة أو مجموعة رجال أعمال، كما أنها تدعم وتدافع عن مالكها وتوجهاته. ويعود ذلك إلى تراجع السوق الإعلانيّ بفعل الأزمات الاقتصادية المتعاقبة، إضافة إلى صعود سوق الإعلام الإلكتروني، فتتجه هذه الوسائل لقبول المساعدات المالية من الخارج أو من رجال أعمال لبنانيين أو سياسيين طائفيين. ويمكن البت بأنّ وسائل الإعلام اللبنانية أصبحت المتحدثة باسم الطوائف اللبنانية، وتحولت من ناشرة للأخبار والحقائق إلى بوق لهذه المجموعات، تركز على نشر آرائها وعلى تحقيق أهدافها (دجاني، 2013).
بالتالي، إنَّ المشكلة الأخطر التي يعاني منها القطاع الإعلامي في لبنان لا تتعلق بالرقابة السلطوية، إنما بالاستحواذ عليه، الأمر الذي يحول دون قيامه بمهامه الحقيقية، كخدمة المصلحة العامة.
التلفزيون في لبنان
كان لبنان أوّل من ضمّ التلفزيون في الشرق الأوسط، وأُنشئت أول محطة تلفزيونية في لبنان عام 1959 باسم شركة التلفزيون اللبنانية، وهي ما أصبحت تُعرف اليوم باسم تلفزيون لبنان. وبعد صدور قانون الإعلام المرئي والمسموع عام 1994، الذي أتاح نشأة عدد من المحطات الخاصة، فقدَ تلفزيون لبنان حقّه الحصري الممنوح له.
والجدير ذكره أنّ القنوات التلفزيونية باستثاء تلفزيون لبنان الذي تملكه الدولة اللبنانية، هي ملك لرجال السياسة والأعمال والأحزاب اللبنانية الطائفية، وهم الممولين الأساسيين لها.
فما تأثير هذه الملكية على المحتوى من جهة، وعلى الجمهور اللبنانيّ من جهة أخرى؟
سياسة المحتوى التلفزيوني
استندت دراسة أعدّتها الباحثة اللبنانية سارة الريشاني لصالح كلية الفلسفة في جامعة إرفورت الألمانية بعنوان "قراءات مقارنة لنظام الإعلام اللبناني"، إلى بيانات صادرة عن مكتب الإحصاء اللبناني سابقًا بتاريخ 12 أكتوبر/تشرين الأول عام 2014، لتظهر أنَّ "الشخصيات السياسية التي تعتبر قريبة من تحالف 8 آذار ظهرت بأغلبية ساحقة في المحطات التي تمثل هذا التحالف، بينما استُضيف ناشطو وسياسيو 14 آذار في الغالب على تلفزيون المستقبل المملوك من آل الحريري قبل تعليق عمله عام 2019 لأسباب مالية، وقناة المؤسسة اللبنانية للإرسال (LBCI) قبل فوز بيار الضاهر بالدعوى القضائية على القوات اللبنانية لإثبات ملكية أسهم القناة، وقناة المر (MTV) التي تعود أغلب أسهمها لآل المر، وقناة الجديد التي يديرها آل الخياط.
وكان من الواضح أنَّ مديري البرامج الحوارية والسياسية يستضيفون أفرادا بعينهم يشاركونهم الرؤية ذاتها.
ويقول الباحث الإعلامي جاد ملكي، عندما تستضيف القنوات أطيافًا سياسية مختلفة، فإنه غالبًا ما يكون هؤلاء الضيوف الأكثر اعتدالًا، بحسب تعبيره. وعادة ما يتم تحدّيهم بأسئلة حرجة، ويميل مديرو البرامج السياسية إلى اختيار أشخاص متكررين إلى الاستديو، ذلك لتجنب أي وجهة نظر قد لا تعجب سياسة المحطة الإعلامية.
وقد خلص تحليل محتوى نشرات الأخبار في نوتسولد Nötzold 2009، إلى أنَّ الرؤساء التنفيذيين يتحكمون في قرارات المحتوى الإعلامي. ويشير التحليل إلى أنَّ وسائل الإعلام اللبنانية تخدم النخب بدل الجمهور وتركز بشكل أساسي على نقل الأخبار التي تتعلق بمسؤوليها السياسيين والدينيين.
وبحسب الدراسة التي أجرتها الباحثة اللبنانية سارة الريشاني، فقد لوحظ خلال الأزمة الداخلية التي وقعت عام 2008 في لبنان بين المعارضة والموالاة، كيف أنّ الوسائل الإعلامية سواء الإذاعية أو المطبوعة، حرّضت الجماهير وكشفت عن تهميش كامل لخصومها السياسيين، إذ إنها لم تقدم أي محتوى واضح ومتوازن، بحسب ما نقلته الدراسة عن مؤسسة مهارات.
الصحافة الرقمية في لبنان
تشير مؤسسة سمير قصير في تقرير من إعداد "الإعلام العربي" ما بين عاميّ 2009 – 2013، إلى أنّ 23٪ من اللبنانيّين يتابعون الأخبار عبر الإنترنت أكثر من خمس مرّات أسبوعيًا، في حين يتابع 40٪ منهم الأخبار عبر الإنترنت بين مرّة وأربع مرات أسبوعيًا، و37٪ منهم يتابعونها أربع مرات شهريًّا أو أقل.
كما بلغ عدد مستخدمي الإنترنت في لبنان قرابة 4.5 مليون شخص، أي ما يعادل 75.9٪ من السكان حتى عام 2016. والجدير بالذكر أنَّ معظم المواقع الإلكترونية الإخبارية في لبنان، تنتمي إلى الأحزاب السياسية نفسها التي تمتلك وسائل الإعلام التقليدية، لتشكّل هذه المواقع مصدرًا مكررًا لصوت الأحزاب الحاكمة على الإنترنت.
وأظهر الصحافيون الذين قابلتهم منظمة Open Society في تقرير Mapping Digital Media لعام 2012، عدم الثقة في المواد التي تبث على الإنترنت. وأشاروا إلى أنّ وسائل الإعلام الرقمية التي تدعم صحافة المواطن تؤدي في لبنان إلى تفاقم الانقسامات والتحيزات لصالح الأحزاب الطائفية.
ووفقًا لتقرير Arab Media Outlook 2009-2013، "فإن أهم المواقع الإخبارية في لبنان تنتمي للأحزاب السياسة نفسها التي تمتلك وسائل الإعلام التقليدية في البلاد". ويذكر التقرير أنّ موقع قناة الجديد وموقع قناة المؤسسة اللبنانية للإرسال وموقع ليبانون24 وموقع التيار الوطني الحر تيار.أورغ، هي من بين المواقع التي تتلقف أكبر عدد من الزيارات.
ويظهر تقرير القياس الفعال المستند إلى البيانات التي تم جمعها من 11937 فردًا كانوا ناشطين على الإنترنت في لبنان خلال سبتمبر 2016، أن موقع Lbcgroup.tv حاز على أكبر جمهور في لبنان في تلك الفترة، إذ زار الموقع ما يقرب من 1.2 مليون متصفّح فريد خلال الشهر. واحتل موقع Lebanon24 وTayyar.org المرتبة الثانية والثالثة.
من يملك وسائل الإعلام في لبنان؟
يمثل السياسيون في لبنان ثلث العديد من المجالس الإدارية للوسائل الإعلامية، فلديهم القدرة على توظيف وخلق المحتوى الذي يناسبهم وعلى الحوكمة الداخلية. وعادةً ما يستخدمون هذا النفوذ للتأثر على الرأي العام اللبنانيّ والترويج لمصالحهم وأيديولوجياتهم.
وكل وسيلة إعلامية في لبنان تنتمي بالمسح إلى كيان قانونيّ منفصل، إلّا أنَّ 12 عائلة لبنانية، مشاركة في ملكية الأجهزة الإعلامية، ما يمنحها الصلاحية الكاملة في التحكم بجمهورها الذي ينقسم بحسب الطوائف الموجودة.
ويصبح الصحفيون بمثابة ناشطين سياسيين، ينتقون المعلومات التي تخدم مصلحة الممول، مع تغييب مهامهم الأساسية في نقل الحقائق إلى الجمهور والاهتمام بالقضايا العادلة، ما يعزز الاستقطاب الطائفي في لبنان، و"الغيتو" الذي يتمثل بغرف الصدى بين المجموعات الطائفية.
وتعدّ السيطرة العائلية والتشعّب السياسي في القطاع الإعلامي مشكلة على أصعد كثيرة، من بينها ما ركّز عليه مشروع مؤسسة سمير قصير من خطر فقدان التعددية في الحقل الإعلامي، وما يرافقها من انحيازات وتسييس، ويكفي إلقاء نظرة على البرامج التلفزيونية وعلى النشرات الإخبارية والمواقع الإلكترونية لملاحظة ذلك.
هذه السيطرة شبه الكاملة على الأجهزة الإعلامية، سمحت للأفكار السلبية المعادية للآخر وللكراهية والشوفينية في التفشي والتغلغل داخل الجسم الاجتماعي اللبنانيّ. كما ساهمت في تشكيل غرف الصدى، وأصبحت كلّ طائفة في لبنان تعيش داخل فقاعتها الخاصة، التي عادة ما تنفجر على شكل حروب أهلية صغيرة، وإشكالات طائفية ومذهبية، وجرائم من النوع العنصري والطائفي.
وتظهر هذه الفقاعات في البيئة التفاعلية اللبنانية على شكل غرف صدى (استعارة مجازية مأخوذة من علم الأصوات) وهي الحالة التي يرتد فيها الصوت (المعلومات والأخبار من الوسائل الإعلامية)، وينعكس داخل فراغ أجوف (كل طائفة في لبنان) متخذًا هيئة رجع الصدى.
تخلق هذه الغرف "عشائر إلكترونية" لتمتد إلى الواقع اللبناني، متجسدة على شكل عشائر طائفية تتشبث كلّ منها بآرائها ومعتقداتها وتتناحر فيما بينها. وتستمدّ أسباب تماسكها من الرغبة في العيش بشكل شبيه مع البيئة التي تؤمّن لها التواصل والترابط مع الأفراد الذين يتشاركون نفس المشاعر والأحاسيس.
وعندما ترفض كل عشيرة من هذه العشائر أي معلومة جديدة وتحصر نفسها داخل ما تعتقده وتفكر به وتتابعه، يتولّد لديها ما يسمى بـ"التنافر المعرفي"، النظرية التي صاغها عالم النفس الاجتماعي ليون فيستينغر عام 1957.
وترتبط هذه النظرية بنظريات الاعتقاد والسلوك وتعني مجمل الاضطرابات التي تظهر لدى الفرد، والتوتر والقلق الفكريّ حين يتعرض لأفكار وسلوكيات ومعتقدات مخالفة ومتضادة مع معتقداته الذاتية، فيتولد عنده شعور بالنفور والتناقض. لذلك يرفض كل ما هو مغاير ومختلف وجديد، ويحصر نفسه في غرفة الصدى التي تزوده بالمعلومات التي تتوافق مع سلوكه وحاجاته فقط. وهذا هو حال الطوائف والمذاهب والمجموعات الدينية في لبنان اليوم.
اقرأ/ي أيضًا
التضليل وتحفيز الخوف: عنوان الحملات الدعائية في الانتخابات النيابية اللبنانية الأخيرة
المصادر
كتاب التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول
كتاب الدعاية على الشبكات الاجتماعية