تخبرنا وسائل التواصل الاجتماعي كثيرًا عن أنفسنا وعن المرحلة التي نعيشها بطرق مباشرة وأخرى أقلّ مباشرة، أحدها هو المحتوى البصري، والذي بات يُقدّر بـ 1.8 مليار صورة تُنشر يوميًا على موقعي فيسبوك وإنستغرام وغيرها من مواقع التواصل الإجتماعي.
وتظهر لنا ما يختار صاحب الصورة إظهاره وفقًا لاعتبارات عديدة، أهمها التريندز (trends)، وهي كلمة وسائل التواصل الأثيرة، المأخوذة من عالم الاستثمار والتداول. لكن ماذا عمّا لا تخبرنا الصور به؟ أو بالأحرى، عمّا تتركه خلفها وتتعمد إخفاءه عن أعين جمهور مواقع التواصل الاجتماعي؟
دراسة: نسبة مرتفعة من الفقراء ينشرون صورًا لهم على موقع إنستغرام من الأحياء الثرية
نظرت دراسة أجرتها جامعة مدينة نيويورك عام 2014 إلى 7.5 مليون مشاركة على موقع إنستغرام، نُشرت من حي مانهاتن في مدينة نيويورك الأميركية. ووجدت أن الأحياء الثرية كانت ممثّلة بشكل كبير في المنشورات، خاصة من قِبَل أولئك الذين يعيشون في مناطق الحي الفقيرة.
لم تختف الأحياء الفقيرة طبعًا، لكن بعضًا من ساكنيها فضّل توثيق لحظات حياته الأهم في أحياء ثرية ومرفّهة، بعيدًا عن المناطق المهملة والمهجورة. وهو أمر تسهل ملاحظته على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة تلك التي تُعنى بالمحتوى البصري بشكل أساسي، مثل مواقع إنستغرام وتيك توك وسناب تشات.
تجتاح مثل هذه الصور "المفلترة" وسائل التواصل الاجتماعي يوميًا بأعداد هائلة، وغايتها تصوير واقع مثالي، إن لم يكن مزيّف، يحظى به قلّة قليلة فقط ممّن يتمتعون بالرخاء المادي. وأصبحت جزءًا من ظاهرة اجتماعية حديثة باتت تُعرف بمصطلح "تزييف الرخاء المادي" على مواقع التواصل الاجتماعي أو (Fake Flex).
وتظهر تحديدًا على موقع إنستغرام، إذ يوثّق مستخدمو التطبيق الصادر عام 2010، بصريًا مجموعة من الأنشطة الاستهلاكية العلنية المرتبطة بالموضة والسيارات والطعام والعطلات والمناظر الطبيعية من خلال صور شخصية التقطوها لأنفسهم بواسطة هاتف ذكي، يتيح خيارات تعديل وتأطير وتجميل الصور بشكل فوري.
درجت تلك العادة أولًا في أوساط مؤثري عالم السوشال ميديا الذين يصدّرون أنفسهم كرواد أعمال وفناني استعراض بلا مهن واضحة، بشكلها التقليدي على الأقل، ولا مصادر مالية تبرّر الثراء الفاحش الذي يصوِّرونه في حساباتهم الشخصية. وهو أمر دفع بعضًا من الصحفيين ومتابعي عوالم السوشال ميديا إلى الإضاءة على أنماط حياتهم ومحاولة تفسيرها. وذهب بعضهم إلى محاولة البحث عن مصادر ثرائهم وكشف زيفها، من خلال التحقق من حساباتهم على "إنستغرام".
وخير مثال عن ذلك، هو حساب "بولير بسترز" (BallerBusters) على “إنستغرام”، وهو حساب مهمته تقصي الحقائق حول مدعي الثراء، أو أفلام وثائقية تصوِّر العوالم الخفية لتلك الصناعة.
فيلم وثائقي يوثّق عالم المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي
يوثّق فيلم وثائقي أنتجته HBO عام 2021، عالم المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي ويجري لقاءات مع عدد كبير منهم، كاشفًا عن بعض حيلهم في زيادة عدد متابعيهم. فيوضح الصحفي نيك بيلتون، وهو مخرج الفيلم أيضًا، مدى سهولة تزييف الحياة على موقع إنستغرام، ليس فقط عبر صناعة المتابعين الوهميين وشراء الإعجابات والتعليقات، ولكن من خلال "الصور المسرحية"، كما سماها، والحيل المتقنة في تزييف اللقطات وفبركة مواقع التصوير.
ويقدِّم الفيلم أمثلة عديدة عن ذلك السلوك، كأن تنشر إحدى المؤثِّرات عبر الوثائقي صورة لها وهي تطفو في حوض سباحة مغطى بالورود، في حين أن ذلك الحوض لم يكن إلّا بركة أطفال صغيرة في واقع الأمر. في ذات السياق، يكشف مصمِّم أزياء مجهول الهوية في مقالة لموقع فايس (Vice)، عن تجربته مع زبائن مؤثرين (Influencers)، زادوا من طلباتهم على صناديق العلامات التجارية الفارغة، وبالتحديد علامات هيرمس (Hermes) وباندورا (Pandora) وتيفاني (Tiffany). ويقول المصمّم في تعليق له عن الأمر "اعتقدت أنهم يستخدمون الصناديق لتخزين بعض الأشياء في المنزل، أو ربما يُعاد استخدامها كعلبة هدية لشخص ما"، مضيفًا “لم أكن أعرف أنهم يستخدمونها في لقطات على موقع إنستغرام”.
التظاهر بالغنى لم يعد حكرًا على المؤثرين والفنانين والوجوه العامة بالطبع، بل امتدّ ليشمل بعضًا من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الآخرين. ليس عليك إلّا أن تبحث عن الموضوع بكلمات ملائمة، حتى تجد على "إنستغرام" مئات الفيديوهات التعليمية باللغتين العربية والإنكليزية، التي تعطي نصائح جدية حول كيفية الظهور بمظهر الغنى بميزانية ضئيلة. ويتابع هذه الحسابات ملايين المشاهدين منهم الطامحين للانضمام إلى نادي الأثرياء، ومنهم بداعي الفضول فقط.
“اختفى الفقراء، لكنهم مازالوا هنا” يقول بازوليني واصفًا الترويج السياحي لروما في الأفلام.
ليست تلك الظاهرة بالغريبة إذا ما تابعنا تاريخ الترويج المستمرّ للثراء بوصفه هدف الحياة الكلي والدليل الأنصع على النجاح وسط عالم استهلاكي وغاية لا يصل إليها إلا "المجتهد" حسبما تروج له أساطير الثراء السريع. ولعلّ الوصف الأدق لتلك الممارسات جاء في مقالة بحثية للباحثة آليس مارفيك تصفها بـ "نقد الدخل غير المتكافئ والاحتفاء به في آن معًا". كذلك، "اختفى الفقراء"، يقول لنا بازوليني وهو يشرح عن تصوير روما السياحي في الأفلام الايطالية؛ ليتابع قائلًا "لكنهم مازالوا هنا".
يتماشى تزييف الثراء على مواقع التواصل الاجتماعي مع الفكرة الشائعة التي تفيد بأن المال يجلب مزيدًا من المال؛ إن أردت أن تزيد فرصك في الثراء، فما عليك إلا أن تبدو ثريًا أصلًا. وهي فكرة ليست خاطئة تمامًا في ما يتعلق باقتصاد وسائل التواصل، إذ توضح دراسات عديدة، ومنها أجرتها الباحثة مارينا ليبن، أن معظم مدّعي الثراء يحاولون أن يصبحوا جزءًا من علامة تجارية معروفة، أو ينشئون علامة شخصية بالتعاون مع الشركات والمسوقين للوصول إلى المزيد من المستهلكين. أما الأسباب الأخرى، فهي في غالبها سيكولوجية، تتلخص في السلوك التنافسي ومقارنة الذات مع الآخرين والرغبة في التفوق كما يشير بحث للدكتور بريندون كانافون حول تطبيع النرجسية.
لا تشوه ظاهرة تزييف الرخاء المادي ثقافة المال والاستهلاك في المجتمعات فحسب، بل تسهم في تقديس المال بوصفه حلًا لكل شيء وتشجيع نمط حياة جديد، يدفع معتنقه إلى إنفاق نقود كثيرة لشراء أغراض لا يحتاجها، هدفها التشبه بأنماط حياة الأغنياء والمشاهير، كما تشرح مارفيك في مقالها البحثي.
ويوضح استطلاع شواب موديرن ويلث (Schwab's Modern Wealth) لعام 2019، أن وسائل التواصل الاجتماعي أثّرت على 49٪ من جيل الألفية الذين تتراوح أعمارهم بين 23 و 38 عامًا، لإنفاق الأموال على التجارب، وأن 48٪ منهم أفرطوا في الإنفاق عند مشاركة تلك التجارب مع الأصدقاء. وتتنوع تلك التجارب من تناول الطعام في الخارج إلى الذهاب في إجازات جماعية. أما وجهة تلك الإجازات، فتحددها ذات الاعتبارات أيضًا، فيشير مقال نشرته صحيفة ذا إندبندنت البريطانية إلى أنّ أول ما يفكّر به جيل الألفية عند اختيار وجهة لقضاء العطلات هو مدى جاذبية موقعها على "إنستغرام".
تروِّج وسائل التواصل الاجتماعي لنفسها على أنها مساحات حرة لاكتشاف الذات والآخرين وسط مناخ ديمقراطي يسمح للجميع بالتعبير عن ذواتهم وآرائهم، إلّا أنها اليوم، وخاصة مع ظاهرة تزييف الرخاء المادي، تقف أمام تحديات كبيرة تمسّ تلك الادعاءات على وجه الخصوص، وتواجه إلى جانب مستخدميها أسئلة هامة، مثل: كيف يمكننا الحفاظ على مساحاتنا تلك حرة بالفعل؟
المصادر
اقرأ/ي أيضًا
صحافيون فقدوا سمعتهم ووظائفهم بسبب فبركتهم الأخبار والمصادر
انستغرام يعمل على التحقق من هوية الحسابات المشتبه بها عبر صور سيلفي