الآراء الواردة في هذا المقال تمثّل رأي الكاتب ولا تعبّر عن “مسبار” بالضرورة.
قلَّ ما تصلنا أخبار السينما الهندية، خاصة تلك التي تقع خارج إطار سينما بوليوود. لكن فيلم رام سيتو 2022 نجح في تصدر عناوين الأخبار الفنية الأخيرة، وذلك بسبب الدعوة المقامة ضده من قبل عضو حزب بهاراتيا جاناتا السياسي (BJP)، إذ نشر السياسي سوبرامانيان سوامي تغريدة عبر حسابه على موقع تويتر بتاريخ 29 يوليو/تموز الفائت، يعلن فيها عن مقاضاته لممثل الفيلم الرئيسي أكشاي كومار بسبب الأضرار الناجمة عن التزوير في تصوير قضية جسر رام سيتو في الفيلم المقرر صدوره في أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
يتناول فيلم رام سيتو قصة عالم آثار يبحث في طبيعة الجسر الشهير المعروف باسم (جسر آدم)، وهو من إخراج أبهيشيك شارما وبطولة أكشاي كومار، جاكلين فرنانديز، نوشرات بهاروتشا وغيرهم من نجوم السينما الهندية، وشاركت في إنتاجه شركة كيب أوف جود فيلمز إلى جانب أمازون برايم فيديو وأبوندانتيه إنترتينمنت.
يشكل جسر رام سيتو لغزًا جيولوجيًا منذ اكتشافه، وما زالت أسباب بنائه وطرقها غير محسومة حتى يومنا هذا، إذ تشير بعض الدراسات إلى كونه عملًا بشريًا، في حين ترجح أخرى فكرة كونه عملًا من أعمال الطبيعة. أما أسطورة رامايانا الهندية، فتخبرنا أن الجسر تم بناؤه من قبل جيش الإله راما لعبور المياه وإنقاذ زوجته سيتا من الملك رافانا.
بعيدًا عن التعويضات المحتملة والمتوقعة إذا ما ربح عضو حزب BJP قضيته ضد الممثل الهندي، أشار سوامي أيضًا إلى مخاطر أمنية من الممكن أن يواجهها الممثل أكشاي، إذ لوح السياسي في تغريدة منفصلة له على "تويتر" أنه كان من الممكن اعتقال أكشاي وطرده من البلاد لو كان مواطنًا أجنبيًا.
ليست قضية رام سيتو هي الأولى في عالم الترفيه، بل تغص السنوات الأخيرة بمئات الأمثلة التي تم فيها اللجوء إلى القانون لحل ملابسات مشابهة، كالتزوير أو التحريف أو الإساءة إلى الواقع عبر عمل فني، خاصة إذا ما تعرض العمل عبر محتواه لأشخاص حقيقيين، أو كانت حبكته مبنية على أحداث واقعية أو مستوحاة من الحياة الواقعية ومستمدة منها.
تأتي تلك الدعاوى بغرض حماية حقوق الخصوصية للشخصيات العامة التي يتم تصوير حياتها أمام الكاميرا، والأمثلة على هذه الحوادث عديدة، منها الدعوة التي رفعتها شركة Mossack Fonseca & Co للخدمات القانونية ضد مسلسل نتفليكس (2019) The Laundromat الذي يناقش فضيحة تسريب وثائق بنما السرية لذات الشركة، كذلك الدعوة التي رفعتها المدعية العامة السابقة لمدينة نيويورك ليندا فيرشتاين ضد مسلسل نتفليكس الشهير (2019) When They See Us، ودعوة الممثلة أوليفيا دي هافيلاند ضد شركة FX لتصويرها المُحرف في مسلسل (2017) Feud الوثائقي.
لم تكن دعاوى التشهير هي الوسيلة الأولى للدفاع عن النفس ضد زيف الحقيقة في الأعمال الفنية، ويعود ذلك لأسباب كثيرة منها قانوني والآخر اجتماعي، إلا أنها اليوم تسجل ازديادًا غير مسبوق عالميًا، إذ تشير إحصائيات أجرتها المحكمة العليا في بريطانيا إلى أن عدد دعاوى التشهير ارتفع في لندن بنسبة 70٪ في عام 2018.
اليوم، تجد دعاوى التشهير طريقها إلى المحاكم بسلاسة كبيرة، فقد باتت معظم البلدان تنظم قوانين واضحة وصريحة حول زيف الحقيقة عبر الأعمال الفنية، في محاولة لضبط تلك الظاهرة والحد من ضررها قدر الإمكان. فضلًا عن تطويع القوانين وتطويرها لتتناسب مع عالم اليوم، يتزايد الوعي بشكل مستمر حول الحقوق المدنية أيضًا، ويولى اهتمام أكبر بالأقليات والفئات المهمشة من المجتمع والتي لم يكن من النادر استهدافها عبر بعض الأعمال الفنية. أما عن الأسباب الأخرى التي ساهمت في زيادة عدد دعاوى التشهير، فهي أيضًا اقتصادية وسياسية، إذ يشير الباحث القانوني الأميركي إيروين شيميرنسكي إلى أن الزيادة الواضحة في عدد دعاوى التشهير في أميركا تعود إلى خطاب دونالد ترامب، كما أنه يعكس النمو الهائل لوسائل الإعلام التي تسمح بقول الكثير من الأشياء التشهيرية.
سواء أكانت محقة، انتقامية، أو ترويجية هدفها الربح، تواجه قضايا التشهير على اختلافها أسئلة عديدة حول شرعيتها ودورها في صياغة المعايير الفنية على وجه التحديد، فيرى البعض أن الفنان لا يصور العالم بشكل حرفي، وليست مهمته تقديم المعلومات أو سرد الحقائق، لذا يمكن التعامل مع نتاجه على أنه تأويل ذاتي للعالم المحيط، لا يجب إخضاعه لمعايير الصحة والخطأ، خلافًا للمعلومات والحقائق التي يمكن قياسها. وعليه، على العمل الفني أن يتحلى بحصانة قانونية، تقيه من الادعاءات الكاذبة والتأويلات الفردية لمحتواه الإبداعي، خاصة أنه يتعمد طمس الخيط الرفيع بين الخيال والواقع، ويميل إلى التضخيم لا عرض الحقائق كما هي.
إحدى أشهر الطرق لتحقيق تلك الغاية هي المبالغة التي استّخدمت على نطاق واسع عبر الفنون بوصفها تصويرًا صادقًا للواقع، لكن مع إظهاره بشكل أكثر وحشية وتطرفًا؛ فمن المعروف أن ممثلو المسرح اليوناني القديم ارتدوا أحذية عالية وثيابًا مبطنة لتضخيم أجسادهم ووضعوا أقنعة واسعة لتعزيز الصوت، في حين استخدم كتاب الشعر والمسرح المبالغة كأداة أدبية لإثارة المشاعر وتكثيفها، واعتمد عليها كتاب الكوميديا لخلق عنصر الضحك، واعترف بها رسامو الكاريكاتور كواحدة من أهم عناصر أعمالهم، فضلًا عن حضورها بشكل واضح وصريح في الفنون التعبيرية، خاصة تلك السريالية والانطباعية وأيضًا فن البورتريه.
تتهدد خاصية المبالغة التي ميزت الفنون منذ نشأتها بفعل رواج فكرة دعاوى التشهير، ويثار جدل واسع، ليس من المتوقع أن يحسم قريبًا، حول منافع وأضرار اللجوء إلى القانون في حالات كهذه، خاصة أن البعض يستخدمها كوسيلة لكسب النقود. وبينما ينظر كثير من الأشخاص إلى تلك الإجراءات القانونية على أنها وسيلة أساسية لحماية الحياة المهنية والشخصية للأفراد، يستقبلها البعض الآخر بوصفها مقصلة لحرية التعبير والخطاب الحر، ومعبدًا لتقديس الشخصيات العامة وتحويلها إلى ذوات لا يمكن المساس بها. أحد أشهر المدافعين عن تناول الحياة الشخصية للمشاهير بشكل حر وغير مراقب هي مؤرخة حياة فرانك سيناترا كيتي كيللي، والتي أكدت على أن حياة الشخصيات العامة، بطريقة أو بأخرى، هي ملك للجماهير.
ليس من السهل خط حدود واضحة بين ما هو واقعي وما هو فني، بل إن هذه القضية تشكل واحدة من أهم موضوعات الفن المعاصر اليوم، وإحدى أكثر الأسئلة شيوعًا في أوساط التنظير الفني؛ سؤال يزداد تعقيدًا كل يوم مع نمو عدد دعاوى التشهير؛ ليشمل في نقاشه المعضلة الأزلية المتمثلة في العلاقة بين الفرد والمجتمع والقانون، وعن علاقة الأخير بالفنون أيضًا. كيف يمكن للقانون الدخول إلى المساحات الفنية؟ وكيف له أن ينظم الممارسات الفنية المختلفة دون أن يتحول إلى قيد يكبل الحريات؟
المصادر