انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة، ادّعاءات في دول شمال أفريقيا حول المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء.
وزاد الاهتمام بأعداد المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء مع حملات على مواقع التواصل الاجتماعي، آخرها في تونس، تستنكر وجودهم غير النظامي خوفًا من مشروع "استيطان أفريقي"، تتحول من خلالها هذه الدول إلى منطقة وصول، وليس منطقة عبور نحو أوروبا، في إحالة إلى نظرية “الاستبدال العظيم” التي ظهرت في فرنسا منذ بداية القرن العشرين وتقوم على أن تدفق المهاجرين من دول الجنوب سيدمر الحضارة الغربية ويقضي على العرق الأبيض.
محتوى مضلل عن مهاجري أفريقيا جنوب الصحراء
من بين الادّعاءات التي نشرت مؤخرًا في تونس، إحصائية شاركتها مواقع إخبارية وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، مفادها أنّ عدد الأفارقة جنوب الصحراء يبلغون 700 ألف شخص في البلاد.
لكن بالتحقق وجد "مسبار" أنّ المنظمات غير الحكومية المحلية في تونس قدّرت أنّ عددهم يتراوح بين 30 و50 ألفًا، وفق ما ذكرته صحيفة لوموند في مقال بتاريخ 23 فبراير/شباط الجاري.
وكشفت آخر إحصائية رسمية صادرة عن معهد الإحصاء التونسي حول الهجرة (2020-2021)، أنّ عدد المهاجرين في تونس عمومًا يبلغ قرابة 58 ألفًا وأنّ أكثر من 21 ألفًا منهم من الأفارقة جنوب الصحراء.
وذكر موقع نواة التونسي في أكتوبر 2022، أنّ قرابة 57 ألف مهاجر من جنوب الصحراء يعيش في تونس، وفقًا لإدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة (UNDESA).
كما نشرت صفحات تونسية دعوات لترحيل الأفارقة، تحت وسم #حملة_توانسا_ضد_الإستيطان_الأجصي، #القومية_التونسية. وتقود هذه المطالب صفحة باسم الحزب القومي التونسي، الذي يعرف نفسه كـ"حركة روحية تؤمن بالأمة التونسية و تعمل على تأسيس دولة قومية تونسية"، إلى جانب حسابات باسم "القومية التونسية".
ومن الادّعاءات التي نُشرت في هذه الحسابات والصفحات، مقاطع فيديو قديمة على أنّها حديثة، أحدها ادّعت أنّه لمواجهات في الشارع بين أفارقة من جنوب الصحراء ومغاربة بعد تحرش بفتاة مغربية.
ووجد "مسبار" أنّ القصة قديمة وتعود إلى عام 2017. وذكر، حينها، موقع مهاجر نيوز أنّ "مجموعة من الروايات انتشرت على أنها كانت سببًا في اندلاع هذه المواجهات في العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، لكن أرجحها، وفق حسن بنطالب الصحفي المتخصص في مجال الهجرة، هو "تحرش مهاجر غيني بسيدة أمام مرأى الناس".
وشاركت صفحات عدّة مقطع فيديو يظهر فيها أفارقة وهم يتوعدون دول شمال أفريقيا بالخراب والتدمير، وقالت إنّها ضمن حملتهم للتوطين الأخيرة.
وبالبحث وجد "مسبار" أنّ مقطع الفيديو مجتزأ من مقطع أصلي نُشر عام 2015، على أنّه لاقتحام أفارقة للسفارة المغربية في باريس. وأرفق بعنوان "الأفارقة يرفضون الخطة الماكيافلية للغرب عن طريق المغرب".
ويعود الفيديو إلى ناشطين في حركة الوحدة والكرامة والشجاعة الأفريقية، يحتجون على تعامل الحكومات في المغرب العربي مع الأفارقة في بلدانهم ويحذرون من مواصلة نفس الأساليب. ودعت إحدى المحتجات الأفارقة لاستعادة أراضيهم في شمال أفريقيا، وذكرت أنّ "أفريقيا يجب أن تكون سوداء من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب".
كما نشرت صفحات وحسابات مشاهد مختلفة على أنّها لأفارقة من جنوب الصحراء يدعون إلى التوطين في تونس وحمل السلاح.
منها مشهد للفنان الإيفواري ألفا بلوندي وهو يقول "السلاح سيكون رفيقكم في السفر".
لكن بالتحقق وجد "مسبار" أنّ سياق مقطع الفيديو مضلل، كما أنّه قديم ويعود إلى عام 2017، بعد بث شبكة سي إن إن، لمشاهد تظهر "سوق عبيد" يباع فيه أفارقة في مزاد علني في ليبيا.
وقال ألفا بلوندي في فيديو نشره عبر حسابه على موقع فيسبوك "ينتظر قادتنا إيجاد حل حقيقي لهذه المشاكل، بينما يترقبون الصحوة المتأخرة لمن يسمون بالمدافعين عن حقوق الإنسان.. لدينا بداية حل قد لا يكون الأفضل، لكن في حالة القوة القاهرة، نحن مضطرون للقيام بذلك".
وعلّق "يشعر الليبيون بالقوة لأنهم مسلحون بينما المهاجرون، دون أي سلاح، تحت رحمتهم تمامًا".
وأضاف "من الآن فصاعدًا، من الضروري للغاية أن يكون المهاجرون مسلحين أيضًا ليكونوا قادرين على حماية أنفسهم".
وتابع "إخوتي وأخواتي المهاجرون الأعزاء، يجب أن يكون لديكم في أمتعتكم سلاح للدفاع عن حياتكم وحياة أحبائكم. هذا السلاح سيكون رفيقكم في السفر".
كما نشرت حسابات مشاهد لأطفال يغنون "نحن تونس"، وذكرت أنّهم “المستوطنون الجدد للبلاد”.
ووجد "مسبار" أنّ الفيديو يعود إلى تقرير صحفي قامت به صفحة ( Brut Tunisie) تصوّر من خلاله حضانة لأطفال أفارقة أغلبهم من جنوب الصحراء في تونس، وهو مشروع فتحته مواطنة من الكوت ديفوار منذ عام 2018.
حملات ضد أفارقة جنوب الصحراء في المغرب ومصر
وتزامنت الحملات في تونس مع حملة في المغرب، برزت مؤخرًا ضد زواج المغربيات من الأفارقة جنوب الصحراء.
وظهرت صفحات تدعو إلى الحفاظ على الهوية المغربية. واعتمدت على هاشتاغات مثل "#لا_لتوطين_الأفارقة_في_المغرب".
وفي مصر ظهرت منشورات في صفحات وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي تحذر ممّا سمته "الاستيطان الأفريقي" والسعي لإرساء نظرية المركزية الأفريقية (الأفروسنتريك) منها صفحة باسم "الصحوة القومية" وأخرى باسم "وعي مصر". وتعتمد وسوما على غرار #القومية_المصرية، #الهوية_المصرية.
وتعتبر هذه الصفحات أنّ هناك مشروعًا من "الملوك والملكات السود لتنفيذ خطة الافروسنتريك، لإنشاء وطن قومي للأفارقة في مصر وشمال أفريقيا".
تداول مصطلح الأفروسنتريك على موقع تويتر في دول شمال أفريقيا (16 فبراير-22 فبراير الجاري).
كما نقلت تصريحًا نسبته إلى ماركوس غارفي، أحد أبرز الدعاة للمركزية الأفريقية جاء فيه "واجبنا كأفارقة أن نعيد أفريقيا كلها سوداء، كما كانت، ولهذا يجب على الأفارقة من كل قارة أن يهاجروا بأعداد ضخمة إلى شمال أفريقيا حتى نقضي على القوقازيين الدخلاء عليها". ولم يعثر "مسبار" على هذا التصريح في أي مصدر إعلامي أو بحثي موثوق.
وأطلقت هذه الصفحات حملة ضد الكوميدي الأميركي من أصول أفريقية كيفن هارت، الذي أعلن تقديمه عرضًا في مصر، قبل أن يٌلغى لأسباب لوجستية، وفق القائمين عليه.
وعلّلت الصفحات الحملة، بأن كيفن من دعاة المركزية الأفريقية وأنّه صرّح في وقت سابق “يجب أن نعلّم أطفالنا التاريخ الحقيقي للأفارقة السود عندما كانوا ملوكًا في مصر، وليس فقط عصر العبودية الذي عززه التعليم في أمريكا. هل تتذكرون الوقت الذي كنا فيه ملوكًا؟”.
وبحث "مسبار" في تصريحات كيفن لوسائل إعلام، وفي حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي ولم يعثر عليه.
تغريدات من حملة حول كيفن هارت في مصر (16-22 فبراير الجاري)
ومن الادّعاءات التي نشرت أيضًا، صور قال مستخدمون إنّها لمهاجرين يتوافدون حديثًا نحو ليبيا وتونس.
وبالبحث وجد "مسبار" أنّها قديمة ومنشورة منذ سنوات، لمهاجرين أفارقة في مناطق مختلفة.
وتعود الصورة الأولى إلى مهاجرين أفارقة في جنوبي اليمن عام 2020.
أما الثانية فهي لترحيل الجزائر مهاجرين إلى النيجر عام 2022.
والصورة الثالثة لمهاجرين أفارقة فروا إلى اليمن عام 2012.
وتعود الصورة الأخيرة إلى مهاجرين أفارقة يمشون في الصحراء الكبرى على الحدود مع الجزائر عام 2005.
نظرية الاستبدال العظيم
ولم تقتصر هذه الادّعاءات على مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، ففي تونس نشرت الصفحة الرسمية للرئاسة التونسية بيانًا عقب ترأس الرئيس قيس سعيّد، يوم الثلاثاء 21 فبراير 2023 بقصر قرطاج، اجتماعًا لمجلس الأمن القومي، خُصّص لاتخاذ إجراءات بهدف "معالجة ظاهرة توافد أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء إلى تونس".
وقال الرئيس وفق البيان إنّ "هناك ترتيبًا إجراميًّا تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس وأن هناك جهات تلقت أموالًا طائلة بعد سنة 2011 من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء في تونس".
وأشار إلى أنّ "الهدف غير المعلن من ذلك هو اعتبار تونس دولة إفريقية فقط ولا انتماء لها للأمتين العربية والإسلامية".
في المقابل، اعتبر نشطاء أنّ بيان الرئاسة التونسية يدخل ضمن نظرية تسمى “الاستبدال العظيم”.
فما هي نظرية الاستبدال العظيم وأي علاقة لها بالتغير الديمغرافي للشعوب؟
"الاستبدال العظيم" هي نظرية مؤامرة يتم الترويج لها من قبل الجماعات المناهضة للهجرة. قامت بداية على أن الأفراد غير البيض يتم جلبهم إلى الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى، "لاستبدال" الناخبين البيض لتحقيق أجندة سياسية.
ويجادل أنصار التفوق الأبيض بأن تدفق المهاجرين، الملونين بشكل أكثر تحديدًا، سيؤدي إلى انقراض العرق الأبيض.
تعود جذور نظرية "الاستبدال العظيم" إلى كتب القومية الفرنسية، ويُنسب الاستخدام الأكثر حداثة لها إلى رينو كامو، الكاتب الفرنسي الذي أصدر كتاب "Le Grand Remplacement" (الاستبدال العظيم) في عام 2011.
واعتبر فيه أنّ هجرة غير البيض إلى فرنسا من الشرق الأوسط وأفريقيا التي انتهى استعمارها "محاولة من قبل النخبة الشريرة "البديلة" لتدمير التركيبة السكانية والثقافة الفرنسية الأصلية.
المؤلف ذاته تأثر بكاتب فرنسي آخر، هو جان راسباي، الذي نشر رواية عام 1973 بعنوان Le Camp des Saints، تروي قصة خيالية عن مهاجرين من دول الجنوب يحاولون تدمير الحضارة الفرنسية والغربية.
وذكر في الرواية أنّ "نهاية العالم الأبيض، تحت غزو الملايين من الناس الجائعين (المتخلفين)، الذين يشكلون ثلاثة أرباع البشرية".
انتشرت روايته، حينها، بين الأميركيين البيض والجماعات المناهضة للمهاجرين في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الفائت، ولا تزال حتى يومنا هذا معيارًا بارزًا لمناهضي الهجرة.
يعتبر باحثون فرنسيون أنّ كتابات موريس باريه القومية المعادية للسامية في القرن التاسع عشر، تحتوي على أفكار مشابهة، وأنّه نشر في عام 1893 كتيبًا بعنوان "ضد الأجانب"، أكد فيه أنّ "جحافل المهاجرين الذين طردوا من جميع أنحاء العالم يتقدمون للتغلب على عرقنا".
لكن وفق مجلة لو نوفيل أوبسرفاتور الفرنسية، فإنّ خطاب الغزو عند باريه لم يرضخ بعد للمؤامرة، لأنّ خصوصية "الاستبدال العظيم" تربط فكرة تدفق المهاجرين بمشروع تآمري مزعوم.
وفق مركز قانون الحاجة الجنوبي "أثّرت أفكار كامو، التي ظهرت في كتب نُشرت في عامي 2010 و2011، بشكل مباشر على نمو حركة الهوية الأوروبية اليمينية المتطرفة المناهضة للهجرة في العقد التالي.
ولعل من أبرز الحوادث التي تعلقت بهذه النظرية، عملية بوفالو شمالي ولاية نيويورك في مايو/أيار 2022، التي قتل خلالها شاب أميركي عشرة أشخاص معظمهم من أصول أفريقية في محل بقالة. وذكرت وسائل إعلام حينها، أنّ مطلق النار البالغ من العمر 18 عامًا يؤيد "نظرية الاستبدال العظيم".
اقرأ/ي أيضًا
كأس العالم لفنون الطهي في تونس: ادّعاءات مضللة حول الفائزين في الدورة
ثلاثون ألف مسبح خاص في تونس: إحصائية دون مصدر؟
المصادر
حركة الوحدة والكرامة والشجاعة الأفريقية