ربما يكون الخوض فيما قاله محمود فهمي في كتابه هندسة الجمهور، حول خدعة “الإعلام لا يكذب”، مدخلًا لفهم الكيفية التي يتلقى من خلالها الفرد هذا الكمّ الهائل من البيانات المتدفقة يوميًا عبر الوسائط الإعلامية التقليدية والحديثة.
فحين تذهب نظريات مثل Magic bullet theory، لتبيّن حجم الخداع والتضليل الذي يتعرض له الفرد خلال تلقّيه لوسائل الإعلام، تقول نظريات أخرى إنّ الفرد يملك قدرة وكفاءة عاليتين لينتقي ما يريده فقط من البيانات المتدفقة عبر نفس وسائل الإعلام.
وفي الحالتين، يوضّح كاتب "هندسة الجمهور" أنّ الفرد والإعلام يسيران جنبًا إلى جنب، لكن الأول يضطلع بمسؤولية كبرى لإدراك الحقيقة بعيدًا عن تضخيمات وسائل الإعلام، بينما الأخيرة تقوم بممارسات معينة لتوليد سلوكيات لدى هذا الفرد وإعادة توجيهه، بما يتماشى مع أجنداتها. سنوضّح في هذه المادّة بعض الخدع التي تستعملها بعض وسائل الإعلام للأغراض ذاتها.
حينَ تغيب الحقيقة في "دوامة الصمت"
عام 1974، أسست الصحفية الألمانية إليزابيث نويل نيومان لنظريتها التي حملت عنوان: دوامة الصمت The Spiral of Silence. وقالت فيها بوضوح، إنّ الأفراد بطبيعتهم البشرية، يهابون العزلة، لذلك يحرصون البقاء داخل بوتقة الجماعة مهما كلفهم الأمر، حتّى ولو على حساب الحقيقة أو قناعاتهم.
ويمكن أخذ التقاليد المجتمعية كمثال لفهم النظرية أكثر، فعندما تكون الآراء ثابتة ومهيمنة حول تقليد ما، تلتزم الأقلية المعارضة الصمت، لكيّ لا تكون عرضة للعزلة.
وتشرح نيومان في نظريتها، دور الوسائط الإعلامية في استيعاب الأفراد للرأي العام الآني، ليصبح مستقبَلًا، هو الرأي السائد، لتكون مثال العملية الحلزونية التي تدفع أفراد الرأي الآخر للخلف وتوهم المجتمع بأنَّ لا وجود إلا لرأي واحد هو الأصحّ. وبالتالي تحقق الوسائط أجنداتها الموكلة لها: السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية.
تقول نيومان إنّ هناك علاقة بين "إرادة التعبير عن الذات" وتلك "الإرادة التي يتداخل فيها الهمّ الآني مع توقعات الفرد المستقبلية". وتعتقد أنَّ سيرورة الرأي وانتشاره بصرف النظر عن صحته، مرادف لتصوّر الجمهور. وتلقّف الأفراد لرأي ما على أنه الرأي المهيمن، يؤسس لوجهة نظر خاصة بهم ستكون حتمًا مهيمنة في المستقبل.
وتؤكد نيومان أنَّ تلقف رأي آني له أهمية كبرى، فهو يؤثر بشدة على سلوك الأفراد والطريقة التي سيعبّرون بها عن ذواتهم في المستقبل. وتظهر العلاقة اللولبية والمتداخلة هنا، مع أولئك الذين يدركون وجودهم كأقلية والذين سيلزمون الصمت بصرف النظر عن رأيهم، خوفًا من العزلة، بالتزامن مع إعلاء صوت الأكثرية.
نظرية تحديد الأولويات
انطلقت شرارة الحديث عن نظرية "تحديد الأولويات" مع الكاتب الأميركي والتر ليبمان Walter Lippmann في عام 1922، فقد أعربَ عن قلقه إثرَ ملاحظته للدور التي تقوم به الوسائط الإعلامية في الـتأثير على ذهنية الجمهور وعلى بناء الصورة في دماغه، أثناء قيام الوسائط بإبراز قضايا وإهمال قضايا أخرى مهمة.
وعلى الرغم من عدم إشارته للنظرية بشكل خاص، إلا أنه وضع حجر الأساس لها. ووضحّ أنَّ لوسائل الإعلام القدرة على تغيير آراء الجمهور، حينَ تركز برامج، نشرات، مقاطع فيديو على موضوع محدد، ليبدو للأفراد أنه أهم من مواضيع أخرى مطروحة على الساحة.
وعمل كلّ من الباحثين الأميركيين ماكبوس ودونالد شو في عام 1972، على تطوير النظرية، لتتناسب مع ما لاحظوه في مجمل أبحاثهم حول تأثير الوسائط الإعلامية على رأي الناخبين في الحملة الرئاسية الأميركية عام 1968، وتبينَ من خلالها أنَّ نسبة كبيرة من الناخبين متأثرين تمامًا بصوت الوسائل الإعلامية، وبتبني جميع قضاياها التي تطرحها والتي تخدم بدورها سياساتها التمويلية. وصاغ كلاهما مستويين اثنين لنظرية تحديد الأوليات التي تستخدمها الوسائل الإعلامية لتحقيق مآربها.
يحتوي المستوى الأول على الاستراتيجية التي تتبعها الوسائط الإعلامية، من أجل تصفية الأحداث والقضايا الجديرة بنشرها. فتعمل على توجيه انتباه الجمهور لقضية ما، من خلال رسائلها وتقاريرها واعتماد سياسة تكثيف النشر، ليبرز الموضوع الأهم بالنسبة لها. وهنا يتحقق المستوى الثاني الذي يمثلّ التحكم بطريقة تفكير الجمهور اتجاه القضية المطروحة. ففور تأطير القضية وتهيئتها من قبل وسائل الإعلام، تصبح مرئية أكثر وتؤثر بشكل فوري على الجمهور.
نظرية حِراسة البوابة
انبثقت نظرية "حراسة البوابة" (Gatekeeping)، من دراسة أجراها عالم النفس الاجتماعي الأميركي الألماني، كورت لوين، لتبيان سلوك الأفراد في اختيار المواد الغذائية داخل النظام الاجتماعيّ في أربعينيات القرن الفائت في الولايات المتحدة.
وقسّم العملية عبر سلسلة من الاستعارات إلى: القنوات والتي تعني محل البقالة/ الحقل..، أمّا البوابات فهي المدخل إلى هذه القناة، في حين أنّ البوابين هم الطهاة والبائعين والمتسوقين، أمّا القوى التي تؤثر على الاختيار، فهي السعر والترويج للسلعة. وقال لوين معتقدًا أن مفهوم "حراسة البوابة" يمكن تطبيقه في مجالات ونشاطات ثانية، بما في ذلك الوسائط الإعلامية.
فمن همّ حرّاس البوابة في الوسائط الإعلامية وما دورهم؟
يُقصد بمفهوم "حارس البوابة"، المسؤولون المعنيون بالتحكم في مضمون الرسالة المنشورة، ويكون لحارس البوابة هذا، سلطة اتخاذ القرارات ما قبل عملية النشر. وتلعب الوسائل الإعلامية هنا دور "القناة" التي من خلالها تمرّ الرسالة وتنتقل إلى الجمهور.
تكون هذه السياسة فاعلة جدًّا لتجنب وقوع القنوات بأخطاء فاضحة، وتلعب دورًا مهما في تصفية المعلومات ونقل الحقائق دون كذب أو مراوغة. لكن من ناحية ثانية يمكن للسياسة نفسها أن تشكّلّ لبسًا في نقل الصورة الحقيقية لقضية ما، لحدث أو معلومة، خصوصًا إذ ما استغل "الحارس" هذا التموضع، لتحقيق مآرب سياسية، ولتمرير مصالح خاصة لأهداف معينة.
وعادةً ما ترتبط سياسة "حارس البوابة" بالمال والسياسة. فيذكر الكاتب أحمد فهمي في كتابه هندسة الجمهور، كيف يمكن لرجال الأعمال الذين يملكون شركات كبرى، اختراق الوسائل الإعلامية واستخدام "حارس البوابة" كآداة لتمرير مصالحهم وأهدافهم الخاصّة. وكذلك الأمر بالنسبة للسياسيين الذين يستحوذون على بعض الوسائط لتمرير صفقاتهم، وخطاباتهم، وللسيطرة على الرأي العام وتوجهيه، بشكل يتقاطع ومصالحهم.
لكن لا بدّ من القول، إنّ نظرية "حراسة البوابة" أصبحت أكثر تعقيدًا مع ظهور الإعلام الجديد ومع تقدم التكنولوجيا. وعلى أثره، لاحظ كل من الباحثين باميلا شوميكر وتوم فوس، مدى صعوبة فهم عملية الحراسة المعاصرة، فالمعلومات باتت تتدفق باتجاهات عديدة، عكس الماضي حين كانت عملية التدفق تتميز باتجاهها الأحاديّ، من أعلى إلى أسفل. ويضيف الباحثين، أنَّ "حراسة البوابة" لم تعد تقتصر على دور المحرر/المراسل، لكنّها أيضًا أصبحت مهنة مستخدمي الوسائط الاجتماعية الذين يلعبون دورًا فاعلًا في عملية صنع الأخبار.
متى سيتوقف الإعلام عن الكذب؟ يجيب الكاتب أحمد فهمي: عندما يتوقف الجمهور عن التصديق ومتى سيتوقف الجمهور عن تصديق جميع المعلومات والأخبار التي تصله يوميا؟ حينَ ينتبه مجددًا لحيل الوسائط الإعلامية، وأيضًا حينَ يحرص على استخدام التفكير النقدي، وإيجاد الوقت الكافي للتحقق من المعلومات، والأخبار والبرامج وما تورده الصحف.
المصادر:
Spiral of Silence: A Powerful Perspective of Understanding the Public Opinion
Two-Step Flow of Information Approach
Relevance and Challenges of the Agenda-Setting Theory in the Changed Media Landscape