مثّلت "ندرة المعلومات" مشكلة بالنسبة لمستهلكيها في السابق، ومع "توافرها الغزير" في العصر الحديث، خلقت فقرًا في اهتمام العقل البشري، المُهيكَل على فلترة كل ما لا يجذب انتباهه.
ولحلّ هذه المشكلة، لجأت الشركات الربحية وغيرها، إلى استخدام "الانتباه" كسلعة واعتمادها في استراتيجيتها وخططها التسويقية، التي اتضحت –في عصر الرقمنة- أنها ذات فاعلية كبيرة، ومن هُنا يمكن الحديث أكثر عن "اقتصاد جذب الانتباه" الذي ذهب لاستغلال "الانتباه" من أجل تحقيق الأهداف المرجو تحقيقها، إضافة لجني أرباح طائلة، وتضليل مستخدمي التكنولوجيا.
ولادة اقتصاد الانتباه في ظلّ التدفق الهائل للمعلومات
في محاضرة رعتها جامعة Johns Hopkins ومعهد Brookings، منذُ ما يقارب نصف القرن، ساق عالم النفس والاقتصاديّ الحائز على جائزة نوبل "هربرت أ.سايمون" مثالًا عن زوجٍ من الأرانب، اشتراهما جيرانه لابنتهم في عيد القيامة كهدية، وبعد مرور عدة أشهر، أصبح لدى هذه العائلة عدد كبير من الأرانب، ما ولدّ مشكلة ليس لدى الجيران فحسب، لأنهم أصبحوا يعيشون في "عالم غني بالأرانب" على حدّ تعبيره، بل في نقص الإمدادات الغذائية التي عصفت بالمحيط. "فالعالم الغنيّ بالأرانب هو عالم فقير بالخسّ".
ولم يُلقِ سايمون هذه المحاضرة لوصف الخصائص البيولوجية والعلمية للأرانب وحجم تكاثرها، بل سعى للتلميح حول العواقب الناجمة عن انفجار المعلومات ووفرتها الكبيرة، كالفقر في الانتباه.
من هنا وُلِد مصطلح "اقتصاد الانتباه" Attention economy، ويعني تشيئة "انتباه" المستهلكين، واعتباره سلعةً ثمينة، بعدما أدّى العرض الهائل للمعلومات على الشبكة العنكبوتية إلى خفض قيمة المعلومات. وعلى إثره، حذّر الفيزيائي ميشال جولدهابر عام 1979، إلى أنَّ اقتصاد العالم، قد بدأ بالتحوّل فعلًا من اقتصاد قائم على المواد، إلى اقتصاد قائم على الاهتمام.
ونظرًا للتأثير الهائل لوسائل التواصل الاجتماعي، الذي أشارَ له تريستان هاريس، مؤسس مركز التكنولوجيا الإنسانية وخبير التصميم وفيلسوف المنتجات السابق في شركة غوغل، ولغرق العالم بفائضٍ من المحفزات في محاولة لجذب انتباهنا، يصبح التضليل عملية سهلة ومُحببّة لدى شركات كثيرة؛ لتحقيق أهدافها المالية.
فالعديد من الشركات، تقوم بتكييف أجنداتها، بغرض الاستفادة من "غريزة الاهتمام"، لتمرير المعلومات الراغبة بتمريرها، سواء كانت مكتوبة ،مسموعة أو مرئيّة. ويُطبّق هذا الأنموذج، بشكلٍ واضح على الشبكة العنكبوتية في عمليات الترويج والإعلانات وفي رسائل البريد الإلكترونيّ. وتلعب الخوارزميات هنا الدور الأكبر في تصيّد اهتمامات الأفراد، لتشكلّ فضاءاتٍ رقمية، توهم بها المستخدمين أنها من اختياراتهم، ولتعمل على مصادرة وعيهم؛ فتوقعهم في فخّ التضليل.
كيف يُضلل"اقتصاد الانتباه" المستخدمين؟
يرتبط التسويق في العصر الحالي، ونحنُ هنا لا نتكلم عن تسويقٍ كلاسيكيّ يعتمد على بيع سلعٍ ماديّة، إنما عن سلعٍ غير مادية –أيضًا- كالمعلومات، بلفت انتباه المستهدفين والتأثير على سلوكهم، وإقناعهم. ويكون "الاهتمام" شرطًا أساسيًّا لتحفيز غريزتهم من أجل إغوائهم والتلاعب بهم، ويصبح "الانتباه" جزءًا أساسيًّا في لعبتهم، لتحقيق المُراد منه.
وتُذكّرنا هذه العملية، بنظرية "التعلم الشَرْطِيّ"، التي ابتكرها العالم الروسي بافلوف. بعدما أجرى الأخير، تجاربَ شهيرة على الكلاب لاختبار مدى استجابتها للمؤثرات التي وضعها. وخلقَ لديها مُنعكَسَا شَرْطيًا عبر تحفيزها، إذ قام بوضع الطعام أمامها، بالتزامن مع مُثيرٍ آخر وهو صوت الجرس. وعندما كرر التجربة، ثبت أنَّ للمثير الإضافيّ قدرةً على تحفيز الكلاب (فعندما ترنّ الأجراس يسيل لعاب الكلاب) قبل وصول الطعام.
وكذلك الأمر عندَ الشركات، فهي تعمل على "التحفيز" لجذب الأفراد مستخدمي الإنترنت، عبر تسويقها الإعلاني، لشراء السلع. وتعتمد استراتيجيات عديدة في حال نتج عن تسويقها مستويات عديدة (عدم الاهتمام/ اهتمام جزئي/ اهتمام كامل من الأفراد). فإذا لم يُبدِ الأفراد أيّة اهتمامات وجب استعمال استراتيجية "الانتباه"، وإذا أولوا اهتمامًا جزئيًّا وَجَبَ استقطابهم، وإذا أولوا اهتمامًا "انتباهًا" كاملًا وَجَب الاحتفاظ بهم بهدف التأثير عليهم.
استراتيجيات لجذب الانتباه أو استغلاله بهدف التأثير على السلوك. (Harvard Business Review (2015), verified June 10, 2017: https://hbr.org/2015/10/when-people-pay-attention-to- video-ads-and-why).
بيع "انتباه المستخدم" في عصر الرقمنة
ترصد شركات مثل فيسبوك و أمازون و غوغل، كميات ضخمة من البيانات حول سلوكيات الأفراد المسخدمين للشبكة العنكبوتية، إلى جانب شركات أخرى مُساعِدة، تقدم خدمات تبدو مجانية. فهم لا يقومون فقط ببيع انتباه الأفراد، بل يبيعون قدرًا كبيرًا من المعلومات التي يجمعونها عنهم بطرقٍ عدة ومختلفة لا يتنبه لها المستخدم -في العادة- ليحققوا أرباحهم إلى جانب أهداف أخرى.
فمثلا، قد تحصل هذه الشركات على المعلومات، عندما يقوم المستخدم بإدراج اهتماماته الشخصية وبياناته في ملفه الشخصي، فهو بذلك يحدد عمره، وجنسه وطبيعة علاقاته وحتى ميوله الاجتماعية، الجنسية وآرائه السياسية. وأيضًا من خلال "ملفات الارتباط"، "أنظمة التتبع غير المرئية" عندما يقوم الفرد بعملية البحث وزيارة صفحات عديدة على مواقع التواصل الاجتماعي أو مشاركته لها.
وعن طريقة مراقبة المستخدم، تستطيع الشركات تجميع المعلومات حوله، لتستخدمها في إعلاناتها ولتجذب انتباهه، وتخدعه في حال أرادت ذلك، ولتحقق أرباحها.
في عام 2008، عندما اقتحم التسويق الرقمي الحملات الانتخابية، سارعت حملة الرئيس السابق "باراك أوباما" بإرسال أكثر من مليار رسالة عبر البريد الإلكتروني لكلّ الشباب والأفراد المستهدفين، من أجلّ جذبهم للتصويت لأول مرّة وتحفيزهم على اختيار المرشح الأفصل: أوباما.
وعندما تطورت آليات التسويق الرقمي، أصبحت شركات مثل"Cambridge Analytica"، تستخدم بيانات الأفراد لتتلاعب بآرائهم وسلوكياتهم في الانتخابات الأميركية عام 2016، عبر آلية "جذب الانتباه" في إعلاناتها السياسية والتجارية على مواقع التواصل الاجتماعي.
إذا، يمكن القول، أن ثمة علاقة بين "انتباه المستخدم" و"بياناته الشخصية"، فما تسعى لهُ اليوم "رأسمالية المراقبة" إلى جانب "اقتصاد الانتباه"، هو تشيئة الانتباه وبيعه، وتتم هذه العملية حينَ تصل الشركات إلى "اهتمامات الأفراد" من خلال البيانات الشخصية التي تحصل عليها بسهولة تامّة.
اقرأ/ي أيضًا
التمويه الأخضر وأساليب الشركات في التضليل البيئي
أساليب تضليل الجمهور وخدعة "الإعلام الذي لا يكذب"
المصادر والمراجع
The Attention Economy: Markets of Attention, Misinformation and Manipulation