عقب قرار الأمم المتحدة القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، الصادر في 29 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1947، اعترض على القرار "التحالف العربي" الذي ضمّ آنذاك مصر والأردن والعراق وسوريا ولبنان، وأرسل عددًا من جنوده لمحاولة إيقاف التوسع والسيطرة الإسرائيلية.
وبحسب ما ورد في الرواية الإسرائيلية الكلاسيكية التي تمّ تدريسها في المناهج التعليمية، فإنَّ إسرائيل في مايو/أيار عام 1948 خلال مواجهتها "التحالف العربي"، حاربت جيوشًا عربية وصلت أعدادها إلى ملايين مسلّحةً بأسلحةٍ ثقيلة، في حين كانت القوات الإسرائيلية تمثل الأقلية.
وفي هذا السياق يقول المؤرخ الإسرائيلي أيفي شلايم "إنَّ غالبية التاريخ عن النكبة لم يكتبه مؤرخون متخصصون، بل كتبه عسكريون مشاركون في الحرب ومؤرخون منحازون"، فكانت النتيجة أن ظلت السردية الإسرائيلية، مسيطرةً حتى وقت متأخر.
فهل كان اليهود الذين حاربوا عام 1948 أقليّة مقابل جيوش عربية بأعداد كبيرة؟ وماذا عن الأسلحة التي امتلكها العرب مقابل أسلحتهم؟
جيوش عربية كبيرة مقابل "فرق يهودية" قليلة؟
روّجت الرواية الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية عن النكبة عام 1948، أنَّ "داود يهودي صغير واجه جالوت عربي عملاق". وصوّرت الحرب على أنها صراع بطوليّ يائس، كلّف الشعب اليهودي كثيرًا من أجل نيل استقلاله. ووصفت انتصار إسرائيل في هذه الحرب بأنّه "معجزة"، إذ قالت بوضوح إنّ "الفرق اليهودية استطاعت هزيمة جيوش عربية كبيرة".
ولكن، بالعودة إلى ما قاله مردخاي بار أون، وهو ضابط متقاعد في الجيش الإسرائيلي ومؤرخ وعضو في الكنيست، خدم بداية حياته في منظمة الهاغانا، وبحث لأكثر من 50 عامًا في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، نجد أنه وصف الرواية التي راجت في النظام التعليميّ الإسرائيليّ بـ"أسطورة الأقلية ضد الاكثرية"، تروي انتصار الجالية اليهودية الصغيرة سيئة التسليح على جيوش عربية هاجمتها معًا بشكل منظمّ.
ويذكر مردخاي، وقد كان مقرّبًا من مؤسس إسرائيل ورئيس حكومتها الأول ديفيد بن غوريون، أنه في شهر فبراير/شباط عام 1960، اعترف بن غوريون بوضوح في اجتماع اللجنة الخارجية والأمن الإسرائيلي، في أعقاب الحرب التي خاضتها إسرائيل عام 1948، أنّ الجيش الإسرائيلي والفرق اليهودية المقاتلة كانت أكثر عددًا من الجيوش العربية، إذ صرّح بن غوريون "لقد امتلكنا وقتئذ جيشًا أكبر من جيشهم"، وسط ذهول أعضاء اللجنة آنذاك.
وبحسب الأرشيف الإسرائيلي، فإنَّ دولًا عربية أرسلت عددًا هامشيّا من الجيوش، فيما امتنعت دول عربية أخرى عن المشاركة في الحرب.
ويضيف بار أون استنادًا إلى الأرشيف الإسرائيلي "في عام 1947 عندما أعدّت الجامعة العربية تقاريرها الأولى حول المسألة الفلسطينية والتقسيم الذي أعلنت عنه الأمم المتحدة، قال رئيس اللجنة العسكرية في الجامعة العربية، الجنرال العراقي إسماعيل صفوت، إنّ اليهود لديهم قدرات عسكرية وتنظيمية ومالية، من شأنها ترجيح كفّة المعركة لصالحهم".
كذلك، فإنَّ المؤرخ الإسرائيلي سمحا فلابان، الذي اشتهر بكتابه "ولادة إسرائيل: الأساطير والحقائق"، قال إنَّ رواية الشعب الأقل عددًا الذي واجه جيوشًا عربية بأعداد ضخمة ما هي إلا "أسطورة"، وإنّ الحقائق تشير إلى وضع مختلف تمامًا.
مؤرخون إسرائيليون ينفون تفوّق الجيوش العربية عام 1948
يتفق بيني موريس، المنتمي إلى تيار المؤرخين الجدد الذين اعتمدوا على الأرشيفات الإسرائيلية، مع المؤرخ سمحا فلابان، حول حقيقة أعداد الجيوش العسكرية العربية والإسرائيلية في المراحل المختلفة للنكبة، ويذكر موريس أنه "إبان حرب عام 1948 وفي منتصف مايو، فاق عدد أعضاء الهاغانا الجيوش العربية، والتي كانت أقل تنظيمًا وتدريبًا"، وأضاف "في يوليو/تموز من العام نفسه وحتى ديسمبر/كانون الأول، ارتفعت أعداد الجنود الإسرائيليين، في مقابل تضاءل عدد العرب بعد المرحلة الأولى من الحرب". ويذكر موريس أنَّ الإسرائيليين استطاعوا حشد نحو مئة ألف جندي في المراحل الأخيرة.
وأشار إلى أنَّه من بين الأسباب التي أدت إلى انتصار اليهود على العرب هي أنَّ الحشد الإسرائيلي كان كبيرًا جدًا ولم تستطع الجيوش العربية مواكبته، وأردف "في المراحل الأخيرة من الحرب، في شهور أكتوبر الأول ونوفمبر وديسمبر، لم يكن هناك إلا الجنود المصريين".
ويتفق المؤرخان أفي شلايم ويوجين روغان في كتابهما "الحرب من أجل فلسطين: إعادة كتابة تاريخ 1948"، مع موريس، إذ أوردا في مقدمتهما ما توصل له سمحا فلابان من وثائق تنفي أسطورة "الغوليات العربية"، وأشارا إلى مقترحات السلام المقدمة من ملك الأردن آنذاك عبدالله الأول، والضابط السوري حسني الزعيم، عام 1948.
لقطة شاشة من كتاب "الحرب من أجل فلسطين: إعادة كتابة تاريخ 1948"
ويقول المؤلفان في باب معنون بـ "الميزان العسكريّ" في كتابهما "كان الافتراض هو أنّ الجيوش العربية تتفوق عددًا، لكن ما تبين لاحقًا أنّ الجيش الإسرائيلي تفوق على القوات العربية في كلّ مرحلة من مراحل الحرب، ولم تتمكن الجيوش العربية من مواكبة التدفق في عدد اليهود المقاتلين".
وبالتالي، لم يكن انتصار إسرائيل "معجزة القلة ضد الكثرة"، بل كانت الغلبة للجانب الأقوى. وقد بالغت الدعاية اليهودية في حجم القوات الغازية ونوعها، على حدّ قولهما.
أمّا الباحث والكاتب في تاريخ الصهيونية يغال عيلام، فيذكر في مقالته المنشورة في جريدة فلسطين-إسرائيل بعنوان "أسطورة القليل ضد الكثير عام 1948"، أنَّ إسرائيل ضاعفت أعداد قواتها في مراحل الحرب، ولم تستطع الدول العربية مجاراتها. ويتفق موشيه ناؤور، الأكاديميّ الإسرائيليّ والمتخصص في الدراسات الإسرائيلية بجامعة حيفا مع هذا القول، ويذكر أن أعداد مقاتلي الجيش الإسرائيلي تضاعفت مقارنة بالجيوش العربية في شهر نوفمبر وفي المراحل الأخيرة من الحرب.
أسطورة "قلة ضدّ كثيرين"
يقول البروفيسور في جامعة تلّ أبيب أفنير بن عاموس، في كتابه "التعددية مستحيلة؟ اليهود من أصل أوروبي واليهود من العرق الشرقي في مناهج التاريخ"، إنَّ أسطورة "قلة ضد كثيرين" لها حضور كبير في الحروب التي خاضتها الشعوب اليهودية سابقًا ويذكر منها، حرب داود ضد جليات، الحشمونيون ضد اليونانيين واليهود ضد الرومان.
وبحسب رأي بن عاموس، تظهر هذه الأسطورة في احتفالات الأعياد التقليدية خاصة بعد نيل إسرائيل ما يسميه بـ"الاستقلال" عام 1948، وتعدّ من أهم أساطير الصهيونية والعلمانية أيضًا، فالعديد من القصص والأغاني، تمجد الانتصارات التي حققها الحرّاس والمزارعون اليهود الذين وجدوا أنفسهم يقاتلون وحيدين مقابل عصابات عربية كبيرة، قبل عام 1948. وتجذرت أسطورة "قلة ضد كثيرين" لدى الجيش غير الرسمي لإسرائيل المعروف باسم"البالماخ" التابع للهاغانا، وأصبحت من فلكلور الجيش الإسرائيلي، إذ غنّت الفرق الإسرائيلية أناشيد مثل "نحن شبّان وقليلون".
ويضيف "حين انتصر الإسرائليون في حرب 1948، تعززت أسطورة "قلة ضد كثيرين" لدى الجمهور الإسرائيلي، وانتشرت رواية المعجزة المزعومة بخروج أمّة إسرائيل الصغيرة والضعيفة من المعركة مسيطرة على زمام الأمور". ويذكر عاموس أنَّه بعد حرب "الاستقلال" انتشرت الكتب الأدبية التي تؤكد تفوق أعداد الجيوش العربية على اليهود، وتحقيق اليهود الانتصار رغم ذلك.
اختلفت الآراء والدراسات حول أصل هذه الأسطورة، ولكن يرجّح بن عاموس أنها تعود إلى أسطورة "ماسادا" وهي إحدى الأساطير اليهودية التي ترمز إلى شجاعة اليهود، أسطورة "تل حاي".
الأسلحة التي استُخدمت خلال النكبة عام 1948
ادّعت الرواية الإسرائيلية الرسمية وشبه الرسمية، أنّ إسرائيل واجهت في حرب عام 1948، جيوشًا عربية منظمة، ومسلحة بالمدافع والدبابات والأساطيل البحرية والأسلحة الثقيلة، وأن انتصار الإسرائيليين كان معجزة، لكونهم مسلحين بشكل ضعيف ومعرضين للخطر.
لكنّ يغال عيلام، يروي أنّ أثناء الهدنة الأولى التي حصلت بين العرب واليهود في 11 يونيو/حزيران من ذلك العام، استوردت إسرائيل من جميع أنحاء أوروبا وخاصة من تشيكوسلوفاكيا "رشاشات وعربات مصفحة وبنادق ومدافع ميدانية ودبابات وطائرات وكافة أنواع الذخيرة بكميات كبيرة". واستطاعت إسرائيل بهذه الأسلحة قلب الموازين لصالحها في المراحل التالية من الحرب. ولم تكن نتيجة الحرب معجزة إنما "انعكاس للتوازن العسكري العربي الإسرائيلي" على حدّ قوله.
كذلك المؤرخ الإسرائيلي سمحا فلابان، الذي قال إنَّ بن غوريون نفسه اعترف بأنه أثناء الهدنة بين الطرفين، وصلت إلى البلاد كمية هائلة من السلاح، وحققت القوات المسلحة الإسرائيلية المدربة تفوقًا في جميع أنواع الأسلحة؛ البرية والبحرية والجوية.
ويقول المؤرخان شلايم وروغان في كتابهما "الحرب من أجل فلسطين: إعادة كتابة تاريخ 1948"، إنَّ "اليشوف" أي اليهود الذين كانوا في فلسطين، تمتعوا بميزات تفوقت على الجانب الآخر من الحرب، فقد امتلكوا اقتصادًا أضخم وتمويلًا أفضل ودعمًا مهمًا من الاتحاد السوفييي والولايات المتحدة، وقوة عسكرية وأسلحة، وتفوقوا في الخبرة والتنظيم على العرب والفلسطينيين.
حرب إسرائيل البيولوجية عام 1948
يورد المؤرخان الإسرائيليان بيني موريس وبنيامين ز. قيدار، في دراسة حملت عنوان "حرب إسرائيل البيولوجية في عام 1948"، والتي اعتمدت على أرشيف الجيش الإسرائيليّ، أنَّه في عام 1948، عملت إسرائيل على تسميم آبار مياه في غزّة ومناطق أخرى.
وفي هذا السياق، يُذكر أنّ رئيس الورزاء المصري محمود فهمي النقراشي باشا، أرسل برقية إلى الأمين العام في الأمم المتحدة، قال فيها إنّ الجنود المصريين اعتقلوا مستعربين تابعين لكتيبة بالماخ، اعترفوا بأنهم وضعوا "جراثيم التيفوئيد والزحار" في الآبار التي تقع شرق مدينة غزة، معترضًا على هذه الجريمة ومعتبرًا إياها مخالفة لميثاق جنيف عام 1925، الذي يحظر استخدام الحرب الجرثومية.
يظهر من الأدلة الموضّحة أعلاه، والتي كشفتها الأرشيفات الإسرائيلية عقب إخفائها لسنوات طويلة، أنَّ الأسلحة التي امتلكها الجيش الإسرائيليّ والمعدات والمواد تفوقت كثيرًا على معدات الجيوش العربية وأسلحتها.
و"النكبة" هو الاسم الذي أطلقه الفلسطينيون على تهجيرهم جماعيًا عام 1948. وللمرة الأولى في تاريخ الأمم المتحدة، تم إحياء ذكرى النكبة في 15 مايو/أيار عام 2023، تطبيقًا للتفويض الصادر عن الجمعية العامة (A / RES / 77/23 بتاريخ 30 نوفمبر 2022).
المصادر
اقرأ/ي أيضًا
التضليل في تغطية الإعلام الغربي لنكبة فلسطين عام 1948: ذا نيويورك تايمز نموذجًا
