في 9 يونيو/حزيران الجاري، غادرت سفينة صيدٍ قديمة شرقيّ ليبيا متجهةً إلى إيطاليا، وعلى متنها ما يفوق قدرتها الاستيعابية بأضعاف، إذ حملت ما يصل إلى 750 رجلًا وامرأةً وطفلًا من سوريا ومصر وفلسطين وباكستان، فارّين من بلدانهم الأصلية نحو أوروبا.
بعد خمسة أيام، انتهت رحلة تلك السفينة عندما غرقت قبالة اليونان، في أحد أعمق مناطق البحر الأبيض المتوسط. ولم ينجُ منها سوى 104 أشخاصٍ فقط، جميعهم من الرجال، فيما انتُشلتْ رفات 78 شخصًا، فيما لم يعثر على أثر لبقية الركاب الغرقى.
عدد الأسئلة المحيطة حول تلك الحادثة يتجاوز عدد الإجابات، كما تتضارب الروايات حول حادثة الغرق قبالة سواحل اليونان، وبينما ينتقد نشطاء وخبراء في الهجرة وسياسيون السلطات اليونانية لعدم تحركها في وقت مبكر لإنقاذ المهاجرين، ويلقون اللوم عليها لمراقبة السفينة لساعات وهي تغرق، ينشر خفر السواحل روايته الخاصة حول الحادثة، فيما بدأت التحقيقات تتحرّى حقيقة ما جرى.
مركب اللاجئين الذي غرق قبالة سواحل اليونان كان في خطر
هناك أربع روايات أساسية حتى الآن تصف ما جرى لقارب المهاجرين قرب سواحل اليونان، قدّمت أولها السلطات اليونانية، والثانية سفينة تجارية كانت تمر من المتوسط عند حدوث الغرق، والثالثة قدمها نشطاء قالوا إنهم كانوا على اتصال بالركاب المهاجرين، والأخيرة حصلت عليها بي بي سي من أداة Marine Traffic، وفيما تتقارب الروايات في بعض الأحيان، تختلف أيضًا في محاور رئيسة.
قال خفر السواحل اليوناني إنّ مركب المهاجرين كان يتحرك بثبات نحو إيطاليا، رافضًا كل أنواع المساعدة تقريبًا، حتى قبل دقائق من غرقه. لكن نشطاء قالوا إنّ الأشخاص الذين كانوا على متن القارب أرسلوا نداءات متكررة للمساعدة قبل أكثر من 15 ساعة من غرقه.
وقال خبراء القانون البحري الدولي وخفر السواحل لوكالة أسوشييتد برس إنّ الظروف على القارب أظهرت أنه معرّضٌ للخطر، وكان ينبغي أن يؤدي ذلك إلى عملية إنقاذ فورية، بغض النظر عما قد يقوله الأشخاص الذين كانوا على متنه.
وغابت عن رواية خفر السواحل شهادات الناجين من قارب المهاجرين، الذين تم نقلهم إلى معسكر مغلق ومنعهم من التحدث إلى الصحفيين.
قصة غرق قارب اللاجئين قبالة سواحل اليونان
قرابة الساعة 11 صباحًا بتوقيت اليونان، يوم الثلاثاء الفائت 13 يونيو، أبلغت السلطات الإيطالية اليونان أنّ سفينة صيد مليئة بالمهاجرين كانت في المياه الدولية جنوب غرب شبه جزيرة بيلوبونيز، وقالت اليونان إنّ أحد النشطاء نبه السلطات الإيطالية.
في التوقيت نفسه تقريبًا، أفادت الناشطة الحقوقية المعنية بشؤون المهاجرين نوال صوفي عبر حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي بأنّ امرأة اتصلت بها على متن قارب غادر ليبيا قبل أربعة أيام. مخبرةً إياها أن المياه نفدت من المهاجرين، وشاركت إحداثيات المركب من خلال هاتف يعمل بالأقمار الصناعية، وظهر أنه على بعد حوالي 100 كيلومتر من اليونان.
وقالت وكالة أسوشيتد برس إنّ طائرة مراقبة تابعة لوكالة الحدود الأوروبية وخفر السواحل، والمعروفة باسم فرونتكس، رصدت سفينة الصيد المزدحمة في الساعة 11:47 صباحًا بتوقيت اليونان، وأبلغت السلطات اليونانية.
يوم السبت، أخبرت فرونتكس وكالة أسوشييتد برس أنّ طائرتها اضطرت إلى مغادرة مكان الحادث بعد 10 دقائق بسبب نقص الوقود، لكنها شاركت أيضًا تفاصيل وصور مركب المهاجرين مع السلطات اليونانية.
وفي الساعة الثانية بعد الظهر، اتصلت السلطات اليونانية بشخص على متن المركب. وبحسب بيانٍ لخفر السواحل اليونانية فإنّ المركب "لم يطلب أي مساعدة من خفر السواحل أو من السلطات اليونان"، لكن نشطاء قالوا إنّ الأشخاص على متن القارب كانوا بالفعل في حاجة ماسة بحلول ظهر الثلاثاء. وفي الساعة 3:11 مساءً، كتبت صوفي، أخبرها الركاب أنّ سبعة أشخاص فقدوا الوعي.
تزامنًا مع ذلك، ذكرت شبكة آلارم فون Alarm Phone، وهي شبكة من النشطاء يديرون خطًا ساخنًا للمهاجرين المحتاجين إلى الإنقاذ، أنّهم تلقوا مكالمة من شخص على متن سفينة الصيد. وجاء في بيان الشبكة "قالوا إنهم لا يستطيعون البقاء على قيد الحياة في الليل، وأنّهم في ضائقة شديدة".
في الساعة 3:35 عصرًا، عثرت مروحيةٌ تابعةٌ لخفر السواحل اليوناني على سفينة المهاجرين. وأظهرت الصورة الجوية التي التقطتها المروحية وانتشرت على نطاق واسع أنها كانت مكتظةً بالفعل، وكان الأشخاص يغطّون سطح السفينة بالكامل تقريبًا.
قالت السلطات اليونانية إنّه منذ ذلك الحين وحتى الساعة التاسعة مساءً، كانت على اتصال بأشخاص على متن سفينة الصيد عن طريق الهاتف عبر الأقمار الصناعية والراديو، وكانوا يصرخون في المحادثات التي أجرتها السفن التجارية وقارب خفر السواحل الذي وصل ليلًا. وأضافوا أنّ الأشخاص الذين كانوا على متن السفينة قالوا مرارًا إنّهم يريدون الاستمرار في الوصول إلى إيطاليا ورفضوا عروض إنقاذهم.
السفن التجارية تساعد قارب اللاجئين
في الساعة 5:10 مساءً، قالت السلطات اليونانية إنّها طلبت من ناقلة ترفع العلم المالطي تدعى Lucky Sailor، إحضار الطعام والماء لسفينة المهاجرين. ووفقًا لشركة Eastern Mediterranean Maritime Ltd التي تدير سفينة Lucky Sailor، فإنّ الأشخاص على متن السفينة "كانوا مترددين جدًا في تلقي أي مساعدة"، وصرخوا قائلين "إنهم يريدون الذهاب إلى إيطاليا". في نهاية المطاف، تم إقناع المهاجرين بقبول الإمدادات، كما ذكرت الشركة في بيان نشرته.
نحو الساعة السادسة مساءً، أفادت مروحية تابعة لخفر السواحل اليوناني أنّ السفينة كانت "تبحر في مسار ثابت". ولكن في الساعة 6:20 مساءً، قالت شبكة Alarm Phone، إنّ الأشخاص الذين كانوا على متنها أبلغوها أنهم لم يتحركوا، وأنّ القبطان قد تخلى عن السفينة وفرّ في قارب صغير. بينما أشارت رواية السلطات اليونانية إلى أنّ سفينة الصيد توقفت في ذلك الوقت تقريبًا لتلقي الإمدادات من سفينة Lucky Sailor.
وأفادت صوفي أنه في الساعة 6:55 مساءً، أخبرها مهاجرون على متن السفينة أنّ ستة أشخاص لقوا حتفهم وأن اثنين آخرين مريضان بشدّة. بينما لم يذكر أي حساب آخر حتى الآن حدوث حالات وفاة قبل غرق السفينة، ولم يتمكن "مسبار" من التحقق من ذلك.
قرابة الساعة التاسعة مساءً، طلبت السلطات اليونانية من سفينة تجارية ثانية ترفع العلم اليوناني تسمى Faithful Warrior، توصيل مياه الشرب لسفينة المهاجرين، وسمحت لـ Lucky Sailor بالمغادرة.
ثم في نحو الساعة 10:40 مساءً، وصل قارب خفر السواحل من جزيرة كريت إلى مركب المهاجرين، وبقي في مكان قريب منه حتى غرق. ووفقًا لخفر السواحل، فإن السفينة "راقبت بحذر" سفينة الصيد من مسافة بعيدة. مرة أخرى، قال خفر السواحل، لم يكن يبدو أن سفينة الصيد لديها أي مشاكل وكانت تتحرك "في مسار وسرعة ثابتتين".
بعد الساعة 11 مساءً بقليل، كتبت صوفي أنّ السفينة بدأت تتأرجح عندما حاول ركابها التقاط زجاجات المياه من سفينة أخرى. وطبقًا لأشخاص كانوا على متنها، فقد رُبطت الحبال بالسفينة، مما أدى إلى زعزعة استقرارها وإحداث "حالة من الذعر"، على حد قولها. لكن تقرير سفينة Lucky Sailor قال إنه لم يتم ربط سفينة المهاجرين بأي حبال، وتم تسليم الإمدادات في براميل مانعة لتسرب الماء.
هل يتحمّل خفر السواحل اليوناني مسؤولية غرق قارب المهاجرين؟
قال متحدث باسم خفر السواحل اليوناني في وقت متأخر من يوم الجمعة إن سفينةً تتبع للخفر ربطت حبلًا خفيفًا بسفينة المهاجرين لفترة وجيزة حوالي الساعة 11 مساءً. وأكد أن أيًّا من سفن الخفر لم تحاول جر سفينة المهاجرين.
كما قال القائد نيكوس أليكسيو لعدد من المنافذ الإعلامية اليونانية، إنّ خفر السواحل أراد التحقق من حالة السفينة، لكن الأشخاص على متنها رفضوا المساعدة مرة أخرى وفكوا الحبل قبل مواصلة العمل.
وأفادت وسائل إعلام يونانية، السبت 17 يوتيو الجاري، أنّ قبطان سفينة خفر السواحل التي وصلت إلى سفينة المهاجرين قبل أقل من ثلاث ساعات من غرقها، شهد أمام سلطات التحقيق أنّ الركاب رفضوا تقديم أي مساعدة. إذ قال إنه خلال الاقتراب الأول، الساعة 11:40 مساءً يوم الثلاثاء ، لم يرد الركاب على مكالمته بأنه مستعد لتقديم المساعدة.
وقال إنه بعد خمس دقائق توقفت السفينة عن الحركة. اقتربت سفينته قليلًا وربطت حبلًا في مقدمة سفينة المهاجرين، لكنّ بعض الركاب ردوا بالإنجليزية "No Help" و"Go Italy"، وفقًا لصحيفة كاثيرميني اليونانية الذي نقل تصريحات القبطان، وبعد فترة وجيزة، فك المهاجرون الحبل وأعادوا تشغيل المحرك، فيما نفى خفر السواحل أمر ربط الحبل برمّته.
وفي مقابل هذه المزاعم، قال زعيم المعارضة اليونانية أليكسيس تسيبراس، خلال زيارته للناجين في ميناء كالاماتا، إنّ الناجين أخبروه أنهم "طلبوا المساعدة"، مضيفًا "أي نوع من البروتوكول لا يدعو إلى إنقاذ قارب محمّل على وشك الغرق؟".
وحمّل تسيبراس مسؤولية الغرق لحكومة بلده المحافظة وللاتحاد الأوروبي وسياسة الهجرة المتبعة، قائلًا "هناك مسؤوليات سياسية كبيرة جدًا. سياسة الهجرة التي اتبعتها أوروبا لسنوات.. تحوّل البحر الأبيض المتوسط إلى قبور مائية".
وفي إحدى الشهادات، يخبر أحد الناجين تسيبراس، أنّ خفر السواحل ألقى بحبل لمن على متن المركب، ثم "بدأ المركب بالتمايل يمنةً وشمالًا لأن الركّاب لم يعرفوا كيف يسحبوا الحبل. كان زورق خفر السواحل يبحر بسرعة كبيرة في حين أنّ القارب كان مائلًا نحو اليسار، ثم غرق".
وعلق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان على ذلك بالقول إنّ "رواية المتحدث الحكومي أغفلت على ما يبدو ما كشفته إفادات الناجين أنّ القارب تعرّض للغرق بعد قطره من خفر السواحل"، وأضاف أنّ "خفر السواحل اليوناني أصدر تصريحات وتحديثات متعددة حول الحادثة، لكنّه لم يذكر أنّ زورقًا تابعًا له ثبّت حبلًا على قارب المهاجرين وبدأ بقطره، ما يعزز الشكوك حول الأهداف الحقيقية وراء إخفاء معلومة مهمة في هذا السياق".
وبحسب السلطات اليونانية، استمرت السفينة في التحرك حتى الساعة 1:40 من فجر الأربعاء، عندما توقف محركها. وفي الساعة 2:04 صباحًا، بعد أكثر من 15 ساعة من سماع السلطات اليونانية بالقضية للمرة الأولى، أفاد خفر السواحل أنّ قارب المهاجرين بدأ يهتز بعنف من جانب إلى آخر، ثم انقلب في أقل من دقيقة، وبعد خمس عشرة دقيقة، اختفت السفينة تحت الماء.
تم إنقاذ 104 أشخاص وإحضارهم إلى الشاطئ على متن يخت Mayan Queen IV الفاخر، الذي كان يبحر مصادفةً قرب موقع الحادثة، انتشلت السلطات اليونانية 78 جثة، ولم يتم العثور على من تبقّوا.
تشكيك في رواية خفر السواحل اليوناني حول غرق مركب المهاجرين
لم تلقَ الرواية الرسمية لخفر السواحل اليوناني تصديقًا شاملًا، وواجهت شكوكًا وانتقاداتٍ من لحظة تقديمها، وفي هذا الصدد، أفادت شبكة بي بي سي أنها حصلت على أدلة تُلقي بمزيد من الشكوك حول تلك الرواية، تشير إلى أنّ قارب المهاجرين لم يتحرك طوال سبع ساعات على الأقل قبل انقلابه.
ووصلت بي بي سي إلى تلك النتيجة بناءً على تحليل حركة السفن الأخرى في منطقة حدوث الكارثة، وذلك لأنّ قارب المهاجرين يحتوي على أداة تعقب لذلك فهو لا يظهر على الخريطة، كما أن سفن خفر السواحل والسفن العسكرية لا يتعين عليها مشاركة مواقعها.
وأشار حجم الخريطة المتحركة إلى أن المركب قطع أقلّ من بضعة أميال بحرية، وهو ما يمكن توقعه من مركب محطم تضربه الرياح والأمواج في أعمق جزء من البحر الأبيض المتوسط.
وأفادت المعطيات التي حصلت عليها بي بي سي من منصة التحليلات البحرية ومراقبة السفن MarineTraffic، بأنّ قارب المهاجرين تعطل عن الحركة قبل ساعات من غرقه، الأمر الذي يتعارض مع تأكيدات خفر السواحل على أنّ القارب كان يبحر بسرعة واتجاه ثابتين.
من جانبه، قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في بيانٍ، إنّ خفر السواحل اليوناني ربما يكون متورطًا في غرق القارب، مبينًا أن لديه "شواهد قوية" تدفع للاعتقاد بأن القارب الذي غرق يوم الأربعاء الفائت، كان قد غرق "بعد اعتراضه من زورق تابع لخفر السواحل اليوناني، وقَطْرِه وإبعاده عن السواحل اليونانية".
وأضاف أنّه وفقًا لإفادات الناجين، فإن زورقًا تابعًا لخفر السواحل اليوناني ربط القارب بحبل لسحبه ومنعه من إكمال مسيرته باتجاه الشواطئ اليونانية، الأمر الذي أدى إلى غرق القارب ومن عليه من مهاجرين، وقد علق الغرقى لمدة ساعتين على الأقل في المياه من دون الحصول على أي مساعدة.
الأورومتوسطي أكد أنّ طائرات تابعة للوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس)، كانت ترصد قارب المهاجرين وتراقبه قبل ساعات من غرقه، الأمر الذي "يعني أنّ خفر السواحل كان على الأرجح على دراية كبيرة بالأوضاع داخل القارب" وأنه كان قادرًا على الاستجابة السريعة للحيلولة دون وقوع الكارثة التي أودت بحياة المئات.
رئيس المرصد، رامي عبده، قال إنّه في حال صحة الشهادات التي تقدم بها الناجون "فنحن أمام جريمة متكاملة الأركان تستدعي تحركًا أمميًا حازمًا لتحديد الجناة ومحاسبتهم ومنع إفلاتهم من العقاب، وإحداث تغيير جذري في تعامل الدول الأوروبية مع ملف الهجرة".
وأضاف أنه "نظرًا للسجل الطويل من الانتهاكات العنيفة التي تورّط بها خفر السواحل اليوناني أثناء عمليات صد وإرجاع المهاجرين وطالبي اللجوء على الحدود البحرية والبرية، فإنّنا لا نستبعد على الإطلاق أنّ غرق المركب كان نتاجًا للتصرفات المتهورة وغير المنضبطة لخفر السواحل اليوناني".
وبالفعل، شدّد متحدث باسم مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ماثيو سالتمارس على أهمية التحقيق باحتمالية حدوث إهمال في كارثة غرق قارب المهاجرين، وذلك في رد خطيٍّ على سؤال وكالة الأناضول للأنباء بشأن ادعاءات حدوث إهمال من قبل السلطات اليونانية، ومحاولة خفر سواحلها دفع القارب باتجاه المياه الإقليمية الإيطالية.
وقال سالتمارس للأناضول "بالطبع نشعر بالقلق من الأنباء الواردة، ولكن لا نملك حاليًا معلومات مؤكدة، لذلك من المهم أن يكشف التحقيق عن الحقائق".
المصادر:
اقرأ/ي أيضًا
مسبار يتحقّق من الأخبار الزائفة حول غرق قوارب مهاجرين في البحر الأبيض المتوسط