اعتمدت الصهيونية على التضليل الممنهج لإقامة دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية، وذلك من خلال سرد روايات ثَبت بمرور الزمن أنها غير صحيحة.
تقول المؤرخة والباحثة التونسية حياة عمامو، في مداخلة لها حول التضليل في سردية تأسيس الكيان الصهيوني، خلال جلسة فكرية انعقدت يوم الأربعاء 25 أكتوبر الجاري في العاصمة التونسية، إنّ مظاهر السردية التي اعتُمد عليها لتأسيس الكيان الصهيوني نشأت بالخلط بين الدين والقومية بعد الشتات الذي تعرض له اليهود في بداية القرن الثاني للميلاد، وهي فترة بداية الحكم الروماني.
جذور السردية الإسرائيلية: اعتقادات دينية مضللة
على الرغم من أن الصهيونية حركة قومية إلا أنها اعتمدت في سرديتها لتأسيس دولة إسرائيل على ما ورد في كتاب التوراة، وهو ما جعل الإسرائيليين يعتقدون أن اليهود تلقوا التوراة في سيناء وأن الشعب اليهودي خرج من مصر ثم استقر في أرض الميعاد بعد تشييد مملكة داوود وسليمان التي قسمت بعد ذلك الى مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل.
الإسرائيليون وفق المؤرخة التونسية، يعتقدون أيضًا أن الشعب اليهودي عرف الخروج مرتين، مرة بعد تهديم الهيكل الأول في القرن السادس قبل الميلاد، ومرة بعد تهديم الهيكل الثاني سنة 70 ميلادي، أي بعد نحو ستة قرون من الخروج الأول، ثم عرف الشعب اليهودي بعد ذلك التيه والشتات لمدة تقارب ألفي سنة وتفرقوا بين اليمن وبلاد المغرب وإسبانيا وبولونيا وفي أعماق روسيا.
وحسب سرديتهم فإنه على الرغم من هذا التيه استطاع هذا الشعب أن يحافظ على علاقات الدم بين مختلف طوائفهم البعيدة جدًا عن بعضها البعض، ويعتبرون أن وحدتهم لم تتغير رغم سنوات الشتات الطويلة.
العودة إلى أرض فلسطين "العذراء": الرواية المضللة
تقول المؤرخة التونسية إن “الظروف كانت مناسبة لعودة يهود الشتات إلى الوطن القديم للاستيطان فيه لأنهم حلموا بهذه العودة منذ ألف سنة، وهذه السردية أسستها الحركة الصهيونية ابتداءً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر وعمقتها أكثر بعد حرب 1967”.
روجت الحركة الصهيونية لسردية أخرى وهي أن أرض فلسطين العذراء تترقب شعبها الأصلي (اليهود) للعودة إليها كي تُزهر من جديد لأنها تنتمي إليهم، ولا تنتمي إلى الأقلية العربية (الفلسطينيين) التي لا تاريخ لها ووصلت مصادفة إلى فلسطين.
وانطلاقًا من هذه السرديات والرواية المضللة يبدأ يهود الشتات حربًا لإعادة أرضهم (حسب اعتقادهم)، في حين يقع تجريم أية مقاومة يقوم بها السكان المحليون داخل فلسطين.
تقول عمامو، إن هذا الإنجاز يعود الى رواة كبار اهتموا بإعادة بناء الماضي منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقد تمكنوا من خلال خيالهم الخصب القائم على تجميع قطع من الذاكرة الدماغية والمسيحية من اختراع تسلسل جينيالوجي متواصل للشعب اليهودي، كما تتضمن الإسطوغرافيا الغزيرة عن اليهودية مقاربات عدة.
وعلى الرغم من ظهور الاكتشافات الحديثة والتي كانت كفيلة بدحض السرديات الصهيونية، فإنها لم تحظَ بأي قبول لدى الصهاينة ولم يقع التخلي عن السردية المهيمنة والتي يرى مؤرخون أنها تقوم على التضليل.
وتؤكد عمامو، أن سردية التاريخ القومي اليهودي لم تعرف أي نضج أو تطور منذ نشأة الكيان الصهيوني، ومع ذلك فإن تحيين الأحداث يطرح أمام المؤرخ النزيه أسئلة مثيرة للدهشة مثل، هل يمكن أن نعتبر الكتاب المقدس كتابا تاريخيًا باعتبار أن السردية الصهيونية بنيت على ما جاء فيه؟
الحقائق التاريخية في مواجهة أساطير الكيان الصهيوني
وبحسب المؤرخة التونسية، ظهرت في ثمانينات القرن الفائت اكتشافات أثرية جديدة زعزعت الأساطير التوراتية المؤسسة للكيان الصهيوني والتي تتناقض مع إمكانية حدوث هجرة كبيرة في القرن الثامن قبل الميلاد، كما أن النبي موسى لم يقم بإخراج العبريين من مصر وقيادتهم إلى أرض الميعاد لأن هذه الأرض كانت في ذلك الزمن تحت سيطرة المصريين، ويعني أنه لا يمكن أن يخرجهم من أرض مصرية إلى أخرى تحت سيطرتهم.
كما لم يجد الباحثون أي أثر على ثورة للعبيد في إمبراطورية الفراعنة ولا أثر لغزوٍ سريع لبلاد كنعان، من قبل عنصر أجنبي ولا توجد أيضا أية إشارة تؤكد ما ترويه السردية القومية التوراتية عن ممكلة داوود وسليمان لأن كل ما وضحته الاكتشافات الأثرية الأخيرة، هو وجود مملكتين صغيرتين وهما إسرائيل ويهوذا، تقول عمامو.
تضيف "لم يتعرض سكان مملكة يهوذا لأي نفي خلال القرن السادس قبل الميلاد، حيث ثبت فقط أن النخب السياسية والفكرية وحدها من استقرت في بابل بالعراق وقد كان التقاؤها مع الديانات الفارسية أساس ولادة الديانة اليهودية التوحيدية'.
وهنا تتساءل المؤرخة التونسية قائلة "فهل تم فعلا نفي اليهود سنة سبعين ميلادي كما ذكرت السردية التوراتية المؤسسة للكيان الصهيوني؟"
وتجيب "من المفارقة أن هذا الحدث المؤثر في تاريخ اليهود والتي يستمد منه الشتات جذوره التاريخية لم يقع تأكيده ولم يثبت تاريخيًّا أن الرومان قد قاموا بنفي شعب بأكمله على الجانب الشرقي للبحر المتوسط، فباستثناء المساجين الذين تحولوا الى عبيد واصل سكان يهوذا العيش على أرضهم حتى بعد تهديم الهيكل الثاني، بينما اعتنق جزء منهم المسيحية ابتداء من القرن الرابع للميلاد وانضم أغلبهم الى الإسلام أثناء الفتح العربي في القرن السابع للميلاد.
تواصل المؤرخة التونسية "هذا ما لم يتغافل عنه جل المفكرين الصهاينة إذ ظل ديفيد بن غوريون يكتب الى حدود 1920 سنة الثورة الفلسطينية الكبرى، أن المزارعين في فلسطين يعني سكانها في ذلك الزمن هم سليلوا يهوذا القديمة ولم يٌنكر أن الفلسطينيين متواجدون منذ أن كانت دولة يهوذا قائمة".
سرديات مرحلية: ما بعد الإسطوغرافيا القومية
وفق عمامو، تختفي وراء ستار الإسطوغرافيا القومية، حقيقة تاريخية مذهلة لأن اليهودية أصبحت في الفترة بين ثورة المكابيون في القرن الثاني قبل الميلاد وثورة باركوخبا، أول ديانة تبشيرية.
وتضيف أن اليهودية هي ديانة تبشيرية وبذلك انتشرت في العالم وعاشت في شكل شتات، وفرض السامانيون في يهوذا على عديد القبائل المحيطة اعتناق اليهودية وساهم في انتشار دينهم في كل مناطق الشرق الأوسط ومحيط البحر المتوسط، وحتى في مناطق أخرى من شرق آسيا مثل أفغانستان.
وتؤكد المؤرخة التونسية في السياق ذاته، أن انكسار دين المسيحية بداية القرن الرابع للميلاد لم يؤد إلى ضمور اليهودية بل أدى الى دفعها إلى التراجع نحو أطراف العالم المسيحي، مثل اليمن أو مناطق من بلاد المغرب فضلًا عن شبه الجزيرة الإيبيرية التي انتقل إليها البربر واليهود في الفتح الإسلامي.
وتضيف أنّ العدد الأكبر من الذين اعتنقوا اليهودية، هم الذين عاشوا بين البحر الأسود وبحر قزوين، وهو المكان التي امتدت فيه ممكلة الخزر الشاسعة في القرن الثامن للميلاد وانقسم اليهود المنتشرون من القوقاز إلى أوكرانيا الحالية إلى عديد المجموعات التي وقع ترحيلها إلى شرق أوروبا تحت وطأة الغزو المغولي في القرن الثالث عشر للميلاد، وقد كوّن هؤلاء الى جانب اليهود السلافيين والألمان الأسس التي قامت عليها ثقافة اليهود الأشكيناز في ذلك الوقت.
وأشارت إلى أنّ هذه السرديات المتعددة حول أصول اليهود، عرفت الكثير من التردد في الاسطوغرافيا الصهيونية إلى حدود سنة 1960، ثمّ هُمّشت شيئًا فشيئًا حتى انقرضت من الذاكرة الجماعية للصهيونية، وأصبحوا بعد حرب 1967 يدعون أنهم ينحدرون من السلالة المباشرة لمملكة داوود الأسطورية وأنكروا تمامًا انتماءاتهم الإثنية المختلفة، وقد كان هدفهم من هذا الادعاء تأسيس إثنوس مميز لهم انتهى بهم بالعودة الى القدس عاصمة لهم بعد ألفي سنة من التيه والشتات.
تضيف عمامو "إن الذين يتبنون هذه السردية الخطية غير القابلة للتجزئة، لا يعتمدون على ترويجها في التدريس التاريخي فقط وإنما بدؤوا منذ سنة 1970 في الاعتماد على البيولوجيا أيضًا، فبدأت أبحاثهم العلمية تبذل قصارى جهدها لإثبات التقارب الجيني لكل يهود العالم كنوعٍ جديد من التضليل".
هذا التصور التاريخي شكل أساس هوية الكيان الصهيوني وهذا مكمن الخطأ القاتل، لأن الكيان الصهيوني أصرّ على تمجيد الإثنية المركزية لليهودية وهو الأمر الذي غذى العنصرية التي تفرق بين اليهود وغيرهم من الاجناس والأديان الأخرى وخاصة العرب.
هل يمكن كتابة تاريخ لليهود خارج معايير الصهيونية؟
تقول عمامو إنّ "كتابة تاريخ جديد لليهود يكون خارج المعايير الصهيونية ليس بالأمر الهين، لأن اليهود عاشوا دائمًا في شكل مجموعات دينية تشكلت في أغلب الأحيان عن طريق الاعتناق المتواصل للدين في أماكن مختلفة من العالم، ولذلك فهم لا يمثلون إثنية حاملة للأصول نفسها التي لم تتغير، رغم أنهم عاشوا التيه طيلة قرون، وهذا هو التضليل بعينه.
اقرأ/ي أيضًا
اللغة الاستعمارية كأداة تضليل: النكبة الفلسطينية مثالًا
التضليل في تغطية الإعلام الغربي لنكبة فلسطين عام 1948: ذا نيويورك تايمز نموذجًا