ترجم هذا المقال بتصرّف عن مجلة ذا نيويوكر
ظهر مفهوم التضليل المغرض عام 2017، وهو يُستخدم لوصف المعلومات الخاطئة التي تُشارك عمدًا بنيّة إلحاق الضرر (Disinformation). ويختلف عن مفهوم المعلومات المضللة (Misinformation)، الذي يصف المعلومات الخاطئة التي تمت مشاركتها عن غير قصد، وعن مفهوم المعلومات الصحيحة التي تمت مشاركتها بنيّة إلحاق الضرر (Mal-information).
ساهم تطوّر هذه المفاهيم في رفع وعي الباحثين والمشرّعين بها، وتشكّلت خلايا تفكير ومنظمات غير ربحية وانعقاد مؤتمرات أكاديمية تهدف إلى محاربة التضليل المغرض ومتحوّراته. كما شرعت وسائل الإعلام في تغطية الظاهرة على نحو مكثّف، مستحدثةً نوعًا جديدًا من الصحافة المتخصصة.
وبحلول عام 2022، أخذ الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، الذي اعتمد في حملته الانتخابية عام 2008 على تطبيقات التواصل الاجتماعي، والذي ربطته علاقات جيدة بشركات التكنولوجيا في وادي السيليكون، يحذّر من خطر التضليل المغرض، بل ويدعو لسنّ قوانين تنظّم فضاء المعلومات. واعتبر أوباما أنّ بوسع حلّ مشكلة التضليل المغرض أن يقلّل من حدّة الانقسامات في المجتمع الأميركي، وأن يعيد بناء الثقة والتضامن اللذين يحتاجهما الأميركيون لتقوية ديمقراطيتهم.
مجلس مكافحة التضليل المغرض
مدفوعة بقلقها من الجهود الأجنبية للتأثير على انتخابات التجديد النصفي عام 2022، والطريقة التي أضعفت بها الشائعات الاستجابة لجائحة كوفيد-19، بدأت إدارة الرئيس الحالي جو بايدن تستخدم مصطلح التضليل المغرض بوتيرة أكثر انتظامًا، ووسّعت جهود محاربة ومكافحة الظاهرة، لتشمل تأسيس "مجلس مكافحة التضليل المغرض". غير أنّ الجمهوريين انتقدوا المجلس واعتبروه وسيلة لفرض الرقابة على خطابهم، مثيرين موجة من الهجمات الإلكترونية ضد رئيسته نينا يانكوفيتش، الأمر الذي دفعها للاستقالة، قبل أن يُحلّ المجلس بعدها بثلاثة أشهر.
يعدّ جيم جوردان، حليف وداعم ترامب في الكونغرس الأميركي، جهود محاربة التضليل المغرض مؤامرة لفرض الرقابة، ويستعين بعدد من أمثلة التجاوز الحكومي كأدلّة على المؤامرة واسعة النطاق. تلقّى الباحثون في مجال التضليل المغرض والجامعات وآخرون رسائل من جوردان يطلب منهم فيها تقديم معلومات أو الاحتفاظ بسجلاتهم، بما في ذلك مراسلات البريد الإلكتروني، في إطار تحقيق للكونغرس يقوده جوردان. وجاء في رسالة حصلت عليها برو بوبليكا السنة الفائتة "يُشتبه في أنّ بعض الجهات، بمن فيها منظمات كمنظمتكم، قد لعبت دورًا في نظام الرقابة هذا من خلال تقديم المشورة حول "المعلومات المضلّلة".
حكومات تستغل قوانين مكافحة التضليل لتقييد حرية التعبير
على الساحة الدولية، كانت هناك تحديّات أخرى. منح الإجماع المتزايد على كون محاربة التضليل المغرض، وظيفة حكومة مشروعة ذريعة للأنظمة الأوتوقراطية حول العالم كي تُضيّق على الخطاب النقدي. وجدت دراسة أجراها مركز مساعدة الإعلام الدولي (CIMA) أنّ 105 قوانين متعلقة بالمعلومات المضللة قد سُنّت أو عُدّلت خلال العقد الفائت في 78 دولة. مستغلّة هذه السلطات الجديدة، عملت بعض الحكومات على الحد من المعلومات "المضللة" أو "الزائفة" وسجنت عشرات الصحافيين. "علينا أن نعترف بأنّ سردية وجهود محاربة المعلومات المضللة والتضليل المغرض، قد أعطت غطاء للحكومات الشمولية كي تقمع حرية التعبير والصحافة الحرة، يقول نيكولاس بينيكيستا، كبير مديري المركز.
أثار الاستغلال السلبي لمصطلح التضليل المغرض نقاشًا في أوساط الباحثين والدارسين. وأججت النقاش جزئيًا دعوى قضائية واسعة عُرفت بدعوى ميرثي ضد ميسوري، وهي اليوم أمام المحكمة العليا الأميركية. وفي الدعوى، وُجهت اتهامات لإدارة بايدن بانتهاك المادة الأولى من الدستور الأميركي من خلال الضغط على الشركات المالكة لمواقع التواصل الاجتماعي كي تحظر بعض المحتويات، خصوصًا المتعلقة منها بالصحة العامة. "كان واحدًا من أكبر الأخطاء هو إدراج المحتوى ضمن خانة المعلومات المضلّلة في حين أنّه لم يكن كذلك. "لقد كان علمًا غير محسوم" يشرح أكاديمي معروف، في إشارة إلى دعوات إزالة منشورات مواقع التواصل الاجتماعي، التي كانت تزعم أنّ فايروس كورونا هو نتيجة تسرّب مخبري أو أنّ ارتداء الكمامات قد لا يوفر سوى حماية محدودة من العدوى.
وبحسب راسموس كلايس ويلسون، مدير معهد رويترز لدراسة الصحافة في جامعة أوكسفورد، فإنّ هناك خطرًا إضافيًّا في اعتبار التضليل المغرض الدافع وراء تشكّل قوى اجتماعية معقدة تؤجّج الاستقطاب والصراع حول العالم. يعتبر ويلسون أنّ في نَسْبَ المخرجات السياسية لعمليات معلوماتية أجنبية دون أدلّة دامغة تعزيزًا لأهداف الجهات التي تسعى للتشويش. "علينا أن نتذكّر دوافع الأشخاص المتورّطين" يشرح نيلسون. "لو كنت ضابط مخابرات روسي سابق يجلس في مكتب في ضواحي سان بطرسبرغ، ويستفز الأشخاص لكي يكسب عيشه، سيكون من الرائع أن يعتقد مديرك أنّ ما قمت به كان ذا تأثير كبير وأنّه حقّق بالفعل كل واحد من أهداف الدولة الروسية".
حتى مسؤولو الحكومة الأميركية الذين شاركوا في الحرب ضد التضليل المغرض لم يعد يروقهم المفهوم. خدم ريتشارد ستنجل، كبير محررين سابق في مجلة تايم، كوكيل لوزارة الخارجية الأميركية للديبلوماسية العامة والشؤون العامة خلال فترة حكم إدارة أوباما. كانت الاستجابة لتهديدات المحتوى المتطرّف والدعاية المناهضة للولايات المتحدة جزءًا من وظيفته، قبل أن ينتهي به المطاف للاعتقاد بأنّ ذلك ليس دور الحكومة "مشكلة مكافحة التضليل المغرض، خاصة من قبل الحكومة، هو أنّه غالبًا ما يكون ذا نتائج عكسية"، مضيفًا "لقد صرت أشكّك فيما إذا كان يتعيّن على الحكومات الخوض في مجال مكافحة التضليل المغرض عبر محاولة تفنيده".
كيف يمكن مواجهة التضليل المغرض؟
إن كان التضليل المغرض تهديدًا لاستقرار العالم، كيف يمكن للدارسين والصحافيين وغيرهم محاربته دون إثارة ردّ فعل سلبي؟ أحد الحلول الواضحة هو الحد من استخدام المصطلح. تقول إيميلي بل، التي تدير مركز تو للصحافة الرقمية في جامعة كولومبيا "كباحثة وناقدة للإعلام تكتب عن هذه الأمور بين الحين والآخر، يكمن عدم ارتياحي عند استخدام مصطلح التضليل المغرض في شعوري بأنّ ما يتم الحديث عنه غالبًا هو أمر آخر".
"إن كانت تلك دعاية، عليك أن تفهم ما هي الدعاية وأن تصفها على أنّها كذلك"، تابعت بل. "إن كانت حملة احتيال، فلتصفها على ذلك النحو. إن كانت حملة إشهار سياسي، فلتصفها كذلك". على الصحافيين وغيرهم أن يكونوا على دراية بأنّ من يوظّفون استراتيجيات التضليل المغرض مُشجَّعُون على المبالغة في وصف تأثير أفعالهم. ويجب عليهم أن يتجنّبوا أي نوع من التصوير الذي قد يقوّي الأنظمة الأوتوقراطية التي تقمع الخطاب الناقد بذريعة محاربة التضليل المغرض.
في الولايات المتحدة، لن يحلّ اتباع هذه الممارسات أحجية كيفية تغطية حملة ترامب 2024 وجهودها في إثارة الانقسامات. لكن من الواضح أنّ إرجاع الفضل في بزوغ نجم ترامب وبقاء شعبيته للتضليل المغرض غير فعّال، لأنه غير دقيق ويعزّز ادّعاءات ترامب نفسه حول "الأخبار الزائفة"، وأيضًا لأنّه يُلمّح إلى أنّ مؤيّدي ترامب سُدّج عاجزون عن تمييز مصالحهم الخاصة. وذلك تصوّر نخبوي يقصي أكثر جمهورًا تحتاج وسائل الإعلام للوصول إليه في النهاية. وهذا هو فخُّ التضليل المغرض الذي يجب على الصحافيين تجنّبه.
اقرأ/ي أيضًا
الفيديو قديم وليس لتهديد رئيس أركان الجيش الأميركي الفصائل الموالية لإيران في العراق
الصورة قديمة وليست لإسعاف جنرال إسرائيلي بعد تعرضه لإصابة خطرة في غزة