ناتاليا فيديف، ذات الشعر الأشقر الطويل والعيون الزرقاء والحواجب المرسومة بشكلٍ دقيق، هي ليست إحدى نجمات الاستعراض، بل جنديّة احتياط في الجيش الإسرائيلي، كرّست صفحتها على انستغرام، والتي وصل عدد متابعيها ما يقارب مليون شخص، لنشر محتوى مؤيد للجيش الإسرائيلي بأسلوب مصحوب بإيحاءات جسدية.
انخرطت فيديف كغيرها من الجنديات في مهمة ترويج الدعاية الإسرائيلية خلال الحرب على قطاع غزة، وكانت مشاهدها جزءًا من آلاف مقاطع الفيديو المشابهة التي تروج للرواية الإسرائيلية، بأسلوب يعتمد على إبراز صفات في شكلها الخارجي.
وقد نشرت مؤخرًا إحدى الصور لها وهي تحمل الورود وعلّقت عليها بالقول "اصنع الحب وليس الحرب"، فيما أرفقت تعليقًا لصورة أخرى نشرتها "لقد قُتل الناس بوحشية لسبب واحد فقط، وهو كونهم يهودًا".
بالبحث في انستغرام يتضح مدى انتشار صور ومقاطع الفيديو للجنديات اللواتي يروجن للرواية الإسرائيلية، من خلال توظيف مظهرنّ لخدمة آلة الحرب. إذ خُصّصت صفحات كثيرة كصفحة girlsdefense، لنشر صور المجندات الإسرائيليات وهنّ يحملن السلاح في مشاهد استعراضية.
وكالة إسرائيلية تجنّد الشابات في الجيش ليصبحن مؤثرات على مواقع التواصل
خلال البحث اتّضح أن هناك استراتيجية لدى الجيش الإسرائيلي في الترويج لسرديته، من خلال توظيف الفتيات اللواتي من المرجح أن يلقى شكلهن قبولًا. وقد تبيّن مثلًا أنّ ناتاليا فيديف هي عضو في فريق منظم يدعى The Alpha Gun Angels، وهي وكالة إسرائيلية تأسست في عام 2018 على يد أورين جولي، وهي من المحاربات القدامى في الجيش الإسرائيلي، وعارضة لياقة بدنية، ومشهورة على انستغرام.
تتكون الوكالة من فريق من جنود تحولوا إلى مشاهير على وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصًا على انستغرام. تعمل الوكالة الإسرائيلية على تسويق النموذج العسكري للجيش الإسرائيلي بأسلوب مثير ومعزَّز بالإيحاءات الجسدية في كثير من الأحيان، وإضفائها على النزعة العسكرية الإسرائيلية العنيفة. كما تستهدف تجنيد الشابات الإسرائيليات في الجيش الاسرائيلي، ليصبحن مؤثرات وعارضات أزياء يروّجن للجيش الإسرائيلي، ويلمعن صورته أمام الرأي العام.
الجنديات المؤثرات وتمكين السردية الإسرائيلية
يلقى نشاط الجنديات الإسرائيليات على وسائل التواصل تفاعلًا واسعًا، مما دفع بعضهنّ لتكريس حساباتهن لنشر مئات المشاهد التي تحمل طابعًا فنيًّا، كأن ينشرن مقاطع فيديو وهنّ يرقصن بالسلاح مع الموسيقى، أو يقمن بطقوس مرحة وألعاب في أماكن خدمتهن، مما يعطي انطباعًا "إيجابيًّا" حول الجيش الإسرائيلي، ويغطي على المجازر التي يرتكبها في قطاع غزة، فيما يشبه محاولة للتطبيع مع العنف عبر ربطه بمحتوى جاذب كالذي تروج له الجنديات المؤثرات. فضلًا عن السعي المتواصل لبثّ إشارات تفيد أنّ الفلسطينيين مجرد إرهابيين ومتطرفين.
العسكرة الترفيهية في خدمة الرواية الإسرائيلية
تقول أستاذة الأنثروبولوجيا الثقافية في جامعة ديوك الأميركية ريبيكا ستين، إنّ استخدام الجنديات الجميلات كمؤثرات في وسائل التواصل الاجتماعي، هي استراتيجية دعائية معتمدة من قبل الجيش الإسرائيلي، وتكتسب أهمية كبيرة بالنسبة له، وذلك لتحقيق السيطرة على السردية الإعلامية من خلال "العسكرة الترفيهية".
ووفقًا لستين فإن الجيش الإسرائيلي يريد إنشاء سرد مقنع على وسائل التواصل الاجتماعي، باستخدام لغة شعبية بسيطة ومحتوى قابل للتعاطف معه، خاصة المحتوى الذي يحتوي جانبًا فنيًّا. بمعنى آخر، يريد الجيش الإسرائيلي تنميط صورة إيجابية ثابتة حوله لكسب قلوب وعقول الناس حول العالم.
إسرائيل تدعم المجندات الجميلات لكسب التعاطف والتشويش على الإبادة
لا يقتصر وجود هذا النوع من المحتوى ضمن الصفحات الشخصية للمجندات الإسرائيليات، بل تروّج الصفحات الإسرائيلية الرسمية لهذا المحتوى، وهو ما يمكن ملاحظته عند تصفح قناة الجيش الإسرائيلي الرسمية على تيك توك، إذ تنشر وتشارك باستمرار مقاطع للجنديات وهنّ يرقصن على أنغام الموسيقى.
توضح ستين، أستاذة الأنثروبولوجيا الثقافية، "أن هناك تاريخًا طويلًا للجيش الإسرائيلي في دعم المجندات الجميلات، اللواتي يصبحن أيقونات عسكرية مؤثرة تدمج "الجمال"، في محاولة لكسب التعاطف وإبعاد المتلقي عن الوجه القبيح والفعلي للعسكرة الإسرائيلية وممارساتها.
تقول ستين "إن الجيش الإسرائيلي يستخدم هذه الأيقونات بطرائق جديدة لتلبية احتياجات الدعاية الإعلامية في عصر التقدم الرقمي"، الأمر الذي ينجح في كثير من الأحيان بالنظر لحجم التفاعل مع هذا المحتوى، إذ إنّ دمج الزي والسلاح العسكري الإسرائيلي مع النساء الجميلات بأسلوبهن المبتكر، يمكن أن يخلق على سبيل المثال صورة مشوشة لشاب أميركي تقدمي متعاطف مع الفلسطينيين. فهذا الجانب من الحياة الهادئة والنابضة بالمحبة ظاهريًّا، والذي تعكسه مقاطع وصور المجندات، لا يمكن أن يكون متصلًا بمشاهد العنف الوحشي الذي يمارسه جيش إسرائيل فعليًّا، وهو ما يعدّ نوعًا من التضليل يمكن أن يتلقاه الجمهور.
فيما تقول يائيل بيردا، الأستاذة في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في جامعة القدس، إن استخدام النساء الفاتنات في القوات المسلحة ليصبحن مؤثرات على تيك توك، يعكس محاولة لتنويع المجموعات القتالية وإدخال عنصر الاختلاف الجنسي والثقافي في هذه المؤسسات العنيفة كالجيش الإسرائيلي. ولا يقتصر الأمر على النساء الفاتنات، بل أيضًا الأشخاص أصحاب البشرة الملونة، وذلك لعكس صورة ظاهرها المساواة والتعددية ضمن فئات الجيش الإسرائيلي.
وفقًا لبيردا، توجد تشابهات بين استراتيجية التأثير من خلال النساء الجميلات على وسائل التواصل الاجتماعي، واستراتيجية "الغسيل الوردي" التي تنتهجها إسرائيل في الترويج لدعمها للمثليين وغيرهم من الأقليات تحت حكمها، وذلك لإبراز صورة من "التحضر" أمام الرأي العام وحرف النظر عن انتهاكات حقوق الفلسطينيين وسياسات الفصل العنصري التي تنتهجها إسرائيل. فترويج مشاهد لمثليي الجنس والنساء الفاتنات ضمن الجيش الإسرائيلي، يمكن أن يساهم في إعادة تصميم صورة الجيش الإسرائيلي ليظهر كجيش منفتح وذي قيم ليبرالية.
التعددية الإسرائيلية المزيفة: التضليل عبر الترويج لقيم المساواة
يضع الجيش الإسرائيلي استراتيجية إعلامية واضحة تقوم على الدعم الظاهري للنساء بغية أهداف متعددة، منها استمالة الحركة النسوية وخاصة الناشطات النساء ذوات المواقف المؤيدة للفلسطينيين، بطريقة تصبح معها الجهود الظاهرية في دعم المرأة، أداةً للتسويق وإبعاد الرأي العام عن الاهتمام بممارسات الاحتلال وجرائمه.
وعلى الرغم من أن الهدف هو محاولة صنع صورة إنسانية للجيش الإسرائيلي، إلا أن التناقض في المحتوى الذي ينشره الجيش الإسرائيلي يكشف عن تضليل في الصورة الحقيقية، وتحيز جنسي ضد المرأة وتقديمها كمجرد كائن جنسي واستخدام جسدها كأداة تسويق لترويج البروباغندا، مما يعزز الصورة السلبية والمهينة حولها. على سبيل المثال بثت صفحة الجيش الإسرائيلي فيديو يظهر دبابة إسرائيلية مع استخدام وسم "سوبر موديل #SuperModel وتعليق "نحن نخدم المظهر منذ عام 1948"، وجرى مقارنة الدبابة الإسرائيلية بجسم مثالي لعارضة أزياء.
كما نشرت الصفحات الإسرائيلية الرسمية منشورات تصور المرأة الإسرائيلية المقاتلة كعاملة وأم، ممّا يوحي بأن أعمال العنف التي تقوم بها القوات الإسرائيلية هي ضرورة ودفاع عن أناس كانوا يعيشون حياة هادئة، وأن العنف ليس من السمات الأصيلة في الجيش الإسرائيلي.
الجيش الإسرائيلي والتنسيق الجمالي للعنف
من خلال بناء شخصية "الجيش المرح" يقدم الجيش الإسرائيلي نفسه على الإنترنت، ككيان كوميدي ورومنسي غير رسمي ذي قيم نبيلة، فيستغل الفرصة لتصوير النساء في مناسبات عالمية مألوفة لدى الناس، مثل عيد الحب ورأس السنة الميلادية وحفلات الزواج، مما يصرف الانتباه عن الممارسات العسكرية العدوانية الصارخة التي يعرف من خلالها الجيش الإسرائيلي.
وفي المحصلة يكون هذا جزءًا من خطة بثّ دعاية تخدم التطبيع مع مشاهد العنف الذي يرتكبه الجيش الإسرائيلي، فتصبح الصورة أنّ العنف الذي يمارسه الجيش هو "ضرورة" في مواجهة "الإرهاب" الذي هو جزء من عقيدة الفلسطينيين كما يروّج الجيش الإسرائيلي، في مسعى لإضفاء الطابع الأخلاقي على آلة الحرب الإسرائيلية.
تقول الناشطة والأكاديمية الأميركية أنجيلا ديفيس، إنّ الجيش الإسرائيلي لا يحاول إخفاء أو حتى تخفيف العنف الذي يلحقه بالشعب الفلسطيني، فهم لا يخجلون من العنف، بل يعيدون إنتاجه وتزيينه بحلة جديدة على وسائل التواصل، من خلال مؤثرات عديدة كدمجه مع الموسيقى في الخلفية أو تكثيفه في مقاطع فيديو ذات طابع فني أو جنسي جمالي، وبالتالي إعادة إنتاج العنف كمادة ترفيه كوميدي، أو مادة جاذبة تحجب الحقيقة كما في حالة استخدام النساء في المقاطع، بحيث يصبح العنف والدعاية المضللة سلعة افتراضية تلقى الإعجاب والمشاركة، وبالتالي كسب المزيد من الانتشار للمحتوى المضلل.
من الواضح أنّ منصات التواصل الاجتماعي هي أدوات مهمة للجيش الإسرائيلي وتلقى دعمًا ماليًّا منظمًا من قبل إسرائيل. ومنذ بدأت حربها على غزة نشرت إسرائيل الكثير من الإعلانات الممولة عبر الإنترنت، بما في ذلك مقاطع الفيديو المصورة، التي وصلت لملايين الأشخاص حول العالم، ووظفت آلة الدعاية بأشكال ووسائل مختلفة لنشر رواية إسرائيل، ومنها استخدام المؤثرين الإسرائيليين وأدوات مثل الكوميديا والسخرية.
اقرأ/ي أيضًا
تحقيق لذا نيويورك تايمز حول العنف الجنسي تحت المساءلة بعد ثبوت دعم إحدى مُعداته لإبادة الفلسطينيين
كيف تروج إسرائيل لمزاعم وقوع اعتداءت جنسية خلال عملية طوفان الأقصى؟