في السادس من مايو/أيار 2024 بدأت القوات الإسرائيلية رسميًّا عملية عسكرية في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، انطلقت على ما يبدو وكما تُظهر صور الأقمار الصناعية، من معبر كرم أبو سالم، للسيطرة على معبر رفح الذي يُعدّ المنفذ الوحيد لقطاع غزة.
صرّح حينها المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كربي، بأنّ العملية الإسرائيلية في رفح محدودة وأنها لا تُمثّل هجومًا شاملًا. وتكررت التصريحات الأميركية الرسمية بهذا الشأن في وصف العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح بـ"المحدودة"، استنادًا على ما يبدو لوعود إسرائيلية بأنّ هذه العملية لن تكون كسابقاتها في مدن القطاع، وستكون بأعداد أقل من الضحايا المدنيين، وهو ما عبّر عنه تصريح للمتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر في الثامن من يوليو/تموز 2024، أي بعد نحو شهرين من بدء غزو رفح، قال فيه "لا يبدو أن الأضرار التي لحقت برفح كانت كبيرة، ولا يبدو أنها كانت كبيرة مثل التي لحقت بخانيونس ومدينة غزة"، مضيفًا: "وقد تقلصت أعداد الضحايا المدنيين بشكل ملحوظ خلال العملية".
بعد مرور أكثر من أربعة أشهر على بدء العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح، هل من الممكن وصفها بـ"المحدودة" مقارنةً بحجم الدمار الذي لحق بباقي مدن القطاع؟
البداية.. خطوات بطيئة لعملية غير محدودة
لم تمضِ أسابيع قليلة على الهدنة الأولى -والأخيرة حتى الآن- في الحرب الإسرائيلية على غزة في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، حتى بدأت إسرائيل عمليات بطيئة في رفح، انطلاقًا من الحدود الشرقية.
بدأت تلك العمليات في خضم الحديث عن جولة جديدة من المفاوضات تحدثت عنها العديد من المصادر الصحفية، وذكرت بي بي سي أنّ تلك المفاوضات كانت سببًا في تأجيل التصويت في الأمم المتحدة على قرارٍ بوقف إطلاق النار في غزة، ونقلت حينها تصريحًا عن الرئيس الإسرائيلي قال فيه إن إسرائيل "مستعدة لهدنة أخرى في القتال لتمكين إطلاق سراح المزيد من الرهائن".
رغم ذلك كانت تلك العمليات الإسرائيلية في رفح، بطيئة، لكن مستمرة. وتمثلت أولًا في تجريف الأراضي غرب معبر كرم أبو سالم في منطقة محاذية لبداية محور فيلادلفيا، ثم إقامة سواتر ترابية حول معبر كرم أبو سالم نفسه، تمهيدًا، كما سيتضح لاحقًا، لتحويله إلى قاعدة عسكرية تنطلق منها القوات الإسرائيلية نحو رفح.
ومنذ بداية الغزو الإسرائيلي لقطاع غزة في أكتوبر 2023، استُخدم معبر كرم أبو سالم كمحطة لتفتيش المساعدات القادمة إلى غزة من معبر رفح، حيث كانت تدخل المساعدات من معبر رفح وتمر إلى كرم أبو سالم لتفتيشها من قبل الإسرائيليين قبل أن تعود لمعبر رفح مجددًا لتسليمها لسكان لقطاع غزة.
يتضح من التحليل الذي أجريناه لصور الأقمار الصناعية من Sentinel-Hub وPlanet Labs PBC، أن عمليات التجريف تلك بدأت خلال الفترة ما بين 6 و11 ديسمبر/كانون الأول 2023، وشملت مساحة نصف كيلومتر مربع وبعمق نحو كيلومتر داخل رفح.
بالتوازي بدأت أعمال إقامة ساتر ترابي حول معبر كرم أبو سالم. ووفقًا لصور الأقمار الصناعية لم تبدأ الأعمال في رفع السواتر الترابية حول كرم أبو سالم إلا بعد يوم 16 ديسمبر، علمًا بأن تصريح الرئيس الإسرائيلي عن استعداد بلاده لهدنة جديدة في غزة كانت يوم 19 ديسمبر، ما يُشير إلى أن دخول إسرائيل في مفاوضات آنذاك لم يؤثر بأي شكل على خططها العملياتية على الأرض.
السواتر الترابية التي أقامتها إسرائيل حول معبر كرم أبو سالم، بالإضافة إلى الأراضي التي جرّفتها ومهدتها حول المعبر، كانت استعدادًا لتحويل معبر البضائع الذي استخدم لتفتيش المساعدات، إلى قاعدة لاستقبال الحشود العسكرية التي انطلقت لغزو رفح، ما يعني أن إسرائيل هدفت منذ البداية إلى اجتياح رفح وعملت على ذلك منذ الشهور الأولى للحرب وقبل بدء الغزو فعليًا بخمسة أشهر، ورغم التحذير الأميركي المعلن خلال تلك الفترة لعملية عسكرية في رفح.
كيف تحقق مسبار من ذلك؟
تُظهر صور أقمار شركة Planet بتاريخ 5 مايو 2024 حشودًا عسكرية إسرائيلية عند حدود معبر كرم أبو سالم. وتوضح صورة حللها الصحفي والباحث في المصادر المفتوحة جاك جودين ونشرها عبر منصة إكس، تواجد آليات عسكرية إسرائيلية قرب معبر كرم أبو سالم، عند قياس المسافة بينها وبين المعبر باستخدام Google Earth تبين أنها تبعد عنه أقل من 500 متر.
ويقع معبر كرم أبو سالم في طريق الآليات نحو محور فيلادلفيا. وتوضح صور الأقمار الصناعية التي قمنا بتحليلها، أن تحرك الآليات الإسرائيلية نحو معبر رفح وباستخدام محور فيلادلفيا، بدأ من قلب معبر كرم أبو سالم.
هل كان الدمار في رفح "محدودًا"؟
بنظرة أولية على نتائج أداة تتبع الأضرار في غزة "Gaza Damage Proxy Map"، التي طورها أولي بالنجر، الباحث والمحاضر في مركز التحليل المكاني في جامعة كلية لندن، يُمكن رؤية حجم الدمار الهائل في مدينة رفح.
تقيس الأداة حجم الدمار بشكل تراكمي وليس في الوقت الفعلي. ومع الأخذ بالاعتبار أنّ رفح كانت آخر مدن القطاع التي تعرضت للاجتياح، فيُمكن استنتاج أن الدمار الذي تعرضت له كان مكثفًا أكثر من غيرها من المدن.
تعتمد الأداة في قياس حجم الأضرار في المباني على صور الرادارات ذات الفتحة التركيبية في أقمار Sentinel-1 الصناعية، والتي ترسل موجات يمكنها اختراق الظلام والغطاء النباتي والسحابي، ثم تنعكس تلك الموجات لتكشف عن التغيرات التي طرأت على الأبنية. وتستخدم خوارزمية تم مراجعتها من قبل الأقران، تبلغ دقتها التنبؤية بالأجسام المتضررة وغير المتضررة أكثر من 80%، وتزيد النسبة لأكثر من 95% عند رصد الأبنية الأكثر تعرضًا للدمار. لذلك فإن اللون الأحمر الذي تعرضه الأداة يشير إلى أن المنطقة مدمرة بنسبة 95.4%، والبنفسجي الداكن يشير إلى أنها مدمرة بنسبة 98.6%.
على سبيل المثال، في هذه المنطقة الموضحة في الصورتين أدناه، والممتدة من تل السلطان غربًا إلى البيوك شرقًا، تضاعف حجم السكان المُقدّر تعرض مناطقهم للضرر خلال شهر واحد (من 7 مايو 2024 إلى 6 يونيو 2024) من 30 ألف إلى أكثر من 61 ألف. ورغم أن هذا لا يعني قياسًا للخسائر البشرية، خاصة أن الأغلبية العظمى نزحت؛ إلا أنه مؤشر إلى حجم الضرر الذي تعرضت له الأبنية في تلك المنطقة بعد شهر واحد من بدء العملية العسكرية في رفح.
وعلى كل حال، فإن نظرةً على تتابع صور الأقمار الصناعية من على ارتفاع 500 متر، تكشف بشكل واضح كيف تآكلت الكتلة العمرانية في رفح بصورة كبيرة على مدار أشهر منذ بدء الاجتياح الإسرائيلي لرفح في 7 مايو، وخصوصًا في المناطق الأقرب للشريط الحدودي مع مصر، والمناطق الغربية مثل تل السلطان.
وتُظهر صور الأقمار الصناعية عالية الجودة، بشكل أكثر قربًا، مستوى التدمير الذي تعرضت له منطقة تل السلطان بعد العملية العسكرية في رفح، إذ تُوضح المقارنة بين صور لأقمار شركة Planet التقطت أيام 31 ديسمبر 2023 و17 يوليو 2024، و10 سبتمبر الجاري؛ كيف أن معظم المباني تعرضت للضرر، وكثير منها دمر بشكل كامل.
أزالت القوات الإسرائيلية كتلًا سكنية بالكامل في رفح. ويوضح تحليل مسبار لصور أقمار Planet تعرض مناطق بعمق يصل لـ2 كيلومترًا من الحدود مع مصر، للتدمير، في محافظة يبلغ عمقها من الحدود مع مصر، على أقصى تقدير 4.5 كيلومتر، وتتركز الكتل السكنية فيها بالجنوب.
في المقارنة التالية بين صورتين من Planet Labs يُمكن رؤية حجم الدمار الذي حلّ ببلدية مدينة رفح، بدايةً من الشريط الحدودي مع مصر، وحتى شارع طه حسين، مرورًا بوسط المدينة.
باستخدام أداة القياس في Google Earth، يتبيّن أنّ الدمار في هذا الجزء وصل لعمق أكثر من 1.5 كيلومتر، بمساحة تقدر بنحو 2 كيلومتر مربع تضم نحو 6 آلاف مبنى، تعرض نحو 70% منها لدرجات متفاوتة من الدمار، وفقًا لتحليل البيانات المقدمة من Humanitarian OpenStreetMap Team.
وبحسب التقديرات الأخيرة لمركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية (UNOSAT)، الصادرة في يوليو 2024، فإنه خلال الفترة من 3 مايو 2024 حتى 6 يوليو 2024 شهدت محافظة رفح أعلى معدل تدمير للمباني في قطاع غزة، بواقع أكثر من 15 ألف مبنى تعرض للتدمير بدرجات متفاوتة، علمًا بأنّ عدد المباني المدمرة في رفح قبل 3 مايو كانت أقل من 4700 مبنى، ما يعني أنّ حجم التدمير زاد بمقدار الضعفين خلال نحو شهرين فقط من بدء الاجتياح الإسرائيلي لرفح.
وتقول تقديرات UNOSAT الصادرة في يوليو 2024، إن بلدية مدينة رفح كانت الأكثر عرضة للتدمير بنحو 10 آلاف و100 مبنى. وتكشف صور أقمار صناعية أن مربعات سكنية في بلدية مدينة رفح كانت قد محيت بالكامل بحلول يوم 7 أغسطس 2024.
في 9 مايو 2024 صرح الرئيس الأميركي جو بايدن، خلال مقابلة مع شبكة سي إن إن، بأنّه سيمنع تزويد إسرائيل بالأسلحة الهجومية في حال دخولها لرفح، قائلًا "لقد أوضحت أنهم إذا دخلوا رفح -وهم لم يدخلوها بعد- فلن أزودهم بالأسلحة التي استخدمت تاريخيًا مع المدن".
لاحقًا وبعد أيّام قليلة، فسّر وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن تصريح الرئيس الأميركي بأنه قصد "في حال قيام إسرائيل بعملية عسكرية كبرى".
وعلى ما يبدو، لا تزال الإدارة الأميركية حتى الآن، لا ترى ما فعلته القوات الإسرائيلية في رفح "عملية كبرى"، رغم أنّ 44% من المدينة حتى 3 يوليو فقط، كان قد دُمّر، وفق تقديرات مجموعة رسم خرائط الأضرار اللامركزية. وكما أثبتنا في هذا التحقيق، فإنّ مستويات أكبر من الدمار عرفتها مناطق محافظة رفح خلال الفترة التالية لـ3 يوليو 2024.
وقد يكون صحيحًا أنّ معدل أعداد الضحايا المدنيين الذين يتساقطون يوميًا قد انخفض عمّا كان عليه سابقًا -رغم أنّ الأعداد التراكمية في تزايد مستمر- لكن ذلك حدث بسبب أن السكان يتنقلون في النزوح منذ أشهر، بمن فيهم سكان رفح.
وحتى مع ذلك، ولمرات متتالية، كان النازحون عرضة لاستهدافات مباشرة راح ضحيتها العشرات، وفي المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي على أنّها "آمنة".
اقرأ/ي أيضًا
في خطابه أمام الكونغرس: ما حقيقة ادعاءات نتنياهو بعدم ارتكاب إسرائيل مجازر في رفح؟
إسرائيل تستغل أنّ بوستر "كل العيون على رفح" مولد بالذكاء الاصطناعي لتشكك بمأساة الفلسطينيين