في كلمتها أمام البرلمان الألماني بمناسبة الذكرى الأولى لعملية طوفان الأقصى، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، قالت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك إن أمن إسرائيل جزءٌ أساسي من وجود ألمانيا. وأكدت الوزيرة أن ضمان حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها هو مسؤولية تقع أيضًا على عاتق ألمانيا.
أما فيما تعلق بالضحايا المدنيين الفلسطينيين للحرب الإسرائيلية على غزة، فأشارت بيربوك إلى أن "الدفاع عن النفس لا يعني مهاجمة الإرهابيين فحسب، بل تدميرهم". وأضافت "عندما يختبئ إرهابيو حماس خلف الناس وخلف المدارس، سنجد أنفسنا في مناطق معقدة للغاية، لكن هذا لا يعني أن نتفاداها". وتابعت بيربوك “لهذا السبب أوضحتُ للأمم المتحدة أن الأماكن المدنية قد تفقد حمايتها لأن الإرهابيين يستغلونها”.
بالتحقق من تصريحات وزيرة الخارجية الألمانية، وجد مسبار أنها تتعارض مع عدد من مواثيق حقوق الإنسان المتفق عليها دوليًا، كما تعتبر مضللة في جزء منها وانتقائية في جزء آخر.
لا يبرر حق الدفاع عن النفس استهداف المناطق المدنية بشكل عام، كما لا تفقد المناطق والمنشآت المدنية حمايتها بمجرد استخدامها من طرف جهات مسلحة، إلا في حالات استثنائية ومحددة بشروط وقيود صارمة، وذلك لضمان حماية المدنيين والحد من الخسائر غير الضرورية.
حق الدفاع عن النفس لا يُبيح استهداف المنشآت المدنية
يُقِرُّ ميثاق الأمم المتحدة في فصله السابع الخاص بـ "الأعمال في حالات تهديد السلم والإخلال به ووقوع العدوان" وتحديدًا في المادة 51 منه بحق الدول في الدفاع عن نفسها، إذا ما اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة.
إلا أن هذا الحق ليس حقًا مطلقًا، ولا يُبرر استهداف المنشآت المدنية أو يرفع الحماية عنها.
ففي السياق نفسه، تنص المادة 19 من اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب، المؤرخة في 12 أغسطس/آب 1949، على أنه "لا يجوز وقف الحماية الواجبة للمستشفيات المدنية إلا إذا استخدمت، خروجًا على واجباتها الإنسانية، في القيام بأعمال تضر العدو. غير أنه لا يجوز وقف الحماية عنها إلا بعد توجيه إنذار لها يحدد في جميع الأحوال المناسبة مهلة زمنية معقولة دون أن يلتفت إليه".
وتنص المادة ذاتها على عدم اعتبار "وجود عسكريين جرحى أو مرضى تحت العلاج في هذه المستشفيات، أو وجود أسلحة صغيرة وذخيرة أخذت من هؤلاء العسكريين ولم تسلم بعد إلى الإدارة المختصة" عملاً ضارًا بالعدو.
القانون الدولي الإنساني العرفي ومبدأ التناسب
إلى جانب الاتفاقيات الدولية، يشدد القانون الدولي الإنساني العرفي من خلال عدد من القواعد على ضرورة اتخاذ كافة الإجراءات لتجنب إصابة المدنيين والمنشآت المدنية، التي لا غنى عنها.
وتنص القاعدة 14 من القانون الدولي الإنساني العرفي على مبدأ جوهري في النزاعات المسلحة، يتمثل في ضرورة توافق أي هجوم عسكري مع مبدأي الضرورة والتناسب. يعني ذلك أن تكون الهجمات العسكرية متناسبة مع الميزة العسكرية المتوقعة منها، دون أن يترتب عن ذلك ضررٌ مفرط بحق المدنيين أو البنية التحتية المدنية. وتحظر القاعدة كلّ هجوم "قد يُتوقع منه أن يُسبب بصورة عارضة خسائر في أرواح المدنيين أو إصابات بينهم، أو أضرارًا بالأعيان المدنية، أو مجموعة من هذه الخسائر والأضرار، ويكون مفرطًا في تجاوز ما يُنتظر أن يُسفر عنه من ميزة عسكرية ملموسة ومباشرة".
كما تنص القاعدة 15 من القانون الدولي الإنساني العرفي على جملة من الاحتياطات، الواجب على المهاجم اتخاذها قبل تنفيذ أي هجوم عسكري، وهي أن "يُتوخى الحرص الدائم في إدارة العمليات العسكرية على تفادي إصابة السكان المدنيين، والأشخاص المدنيين، والأعيان المدنية. وتُتخذ جميع الاحتياطات العملية لتجنب إيقاع خسائر في أرواح المدنيين، أو إصابتهم، أو الإضرار بالأعيان المدنية بصورة عارضة، وتقليلها على أي حال إلى الحد الأدنى".
أما القاعدة 54 فتحظُر صراحة "مهاجمة الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين أو تدميرها أو نقلها أو تعطيلها".
إسرائيل تنتهك مبدأي الضرورة والتناسب
في سياق العدوان المتواصل على غزة منذ السابع من أكتوبر من العام الفائت، قالت كل من منظمتي أوكسفام وهيومن رايتس ووتش في مذكرة إنهما لاحظتا أو وثقتا تنفيذ الاحتلال هجمات عشوائية وغير متناسبة، في انتهاك واضح للقانون الدولي الإنساني. وأضافت المذكرة أن إسرائيل فرضت عقوبات جماعية على السكان المدنيين، وحرمتهم من الأمور التي لا غنى عنها لبقائهم واستخدمت تجويع المدنيين كسلاح في الحرب.
وأشارت المنظمتان إلى أن هذه الممارسات تنضوي كُلّها ضمن الانتهاكات الجسيمة لـ "اتفاقية جنيف الرابعة" والقانون الدولي الإنساني العرفي، وأن الممارسات الإسرائيلية في غزة ترقى إلى مستوى جرائم حرب.
ووثقت هيومن رايتس ووتش ضربات على عدة مستشفيات كبرى أو بالقرب منها، في الفترة ما بين السابع من أكتوبر والسابع من نوفمبر/تشرين الثاني من العام الفائت. ومن بين تلك المستشفيات، مستشفى الصداقة التركي الفلسطيني والمستشفى الإندونيسي والمركز الدولي للعيون، وذلك على الرغم من تمتعها بوضع الحماية بموجب القانون الدولي الإنساني.
وشددت هيومن رايتس ووتش على أن المستشفيات لا تفقد حمايتها من الهجوم إلا إذا استُخدمت لارتكاب "أعمال ضارة بالعدو"، ومع ذلك يبقى التحذير والتناسب والتمييز مطلوبين. وأشارت المنظمة إلى أنها لم تجد في الحالات التي حققت فيها، أي دليل يُبرر حرمان المستشفيات من الحماية التي يمنحها إياها القانون الدولي الإنساني، خلافًا للمزاعم الإسرائيلية عن استخدامها من قبل مقاتلين فلسطينيين.
وتعتقد هيومن رايتس ووتش وأوكسفام أن استخدام القوات الإسرائيلية للأسلحة المتفجرة ذات التأثير واسع النطاق في المناطق المأهولة بالسكان في غزة، يثير مخاوف كبيرة بشأن امتثال إسرائيل لمبادئ التمييز والتناسب في القانون الدولي الإنساني.
إسرائيل لم تقدم أدلة قاطعة على ادعاءاتها
منذ بداية حربها على غزة قبل أكثر من سنة، فشلت إسرائيل في تقديم أدلة حاسمة تؤكد ادعاءاتها بشأن استخدام المنشآت المدنية في غزة، المحمية بموجب القانون الدولي كالمدارس والمستشفيات، من قبل مقاومين فلسطينيين أو استغلالها لأغراض عسكرية، كمقرات للقيادة والسيطرة.
وتابع مسبار المزاعم الإسرائيلية في هذا الشأن منذ بداية العدوان على غزة، وأثبت في أكثر من مناسبة أن المزاعم إما مضللة أو مزيفة، وأنها تندرج جميعها ضمن سردية الاحتلال لشرعنة أو تبرير استهدافه هذه المنشآت.
انتهاكات إسرائيلية متكررة لقوانين الحرب في غزة: "وجود قائد لا يبيح استهداف حي بأكمله"
تأكيدًا على تجاوز إسرائيل حقها في الدفاع عن النفس وانتهاكها لمبدأي الضرورة والتناسب، بما يجعلها متهمة بارتكاب جرائم حرب خلال عدوانها على غزة، نشر مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان تقييمًا لست هجمات كبرى شنها جيش الاحتلال في غزة العام الفائت، وأدت كل منها إلى عدد كبير من الوفيات بين المدنيين ودمار واسع النطاق للمرافق المدنية.
وقال المكتب إن أسلوب الهجمات الإسرائيلية أثار مخاوف جدية بشأن مدى احترام إسرائيل لقوانين الحرب، لاسيما ما تعلق منها بمبدأ التمييز والتناسب واتخاذ الاحتياطات أثناء تنفيذ الهجمات.
وقال المفوض السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك "يبدو أن قاعدة اختيار أساليب ووسائل الحرب التي تتجنب أو على الأقل تقلل إلى الحد الأدنى من الضرر المدني قد تم انتهاكها باستمرار في حملة القصف الإسرائيلية".
وأضاف تورك: "إن اختيارات إسرائيل لأساليب ووسائل تنفيذ الأعمال العدائية في غزة منذ السابع من أكتوبر، بما في ذلك الاستخدام المكثف للأسلحة المتفجرة ذات التأثير واسع النطاق في المناطق المكتظة بالسكان، فشلت في ضمان التمييز الفعال بين المدنيين والمقاتلين".
وأشار تقرير الأمم المتحدة إلى أن الجيش الإسرائيلي قال إنه استهدف في ثلاث من الغارات أفرادًا ذوي صلة بالهجمات على إسرائيل في السابع والثامن من أكتوبر 2023، إلا أنه يوضح أن "مجرد وجود قائد واحد أو حتى عدة مقاتلين أو عدة أهداف عسكرية واضحة في منطقة معينة لا يجعل حيًّا بأكمله هدفًا عسكريًّا، لأن ذلك ينتهك مبدأ التناسب وحظر الهجمات العشوائية".
انتهاكات جسيمة لمبدأ الضرورة والتناسب
قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، في تقرير، إن إسرائيل تتبنى سياسة منهجية، باستهداف المدنيين المحميين بموجب القانون الدولي الإنساني في قطاع غزة، حيثما كانوا، وحرمانهم من أي استقرار ولو كان مؤقتًا في مراكز النزوح والإيواء، وتكثيف قصف تلك المراكز على رؤوس النازحين داخلها، واستهداف المناطق المعلنة كمناطق إنسانية، في إصرار على فرض التهجير القسري وتدمير كل مقومات الحياة الأساسية ضمن جريمة الإبادة الجماعية المتواصلة منذ السابع من أكتوبر الفائت.
وشدد المرصد على أن اتساع دائرة استهداف مراكز الإيواء التي ترفع علم الأمم المتحدة والمنازل التي تؤوي نازحين، والوقوف على طبيعة ضحاياها من العائلات والأسر التي تباد وتُمسح من السجل المدني، يدل على عدم صحة التبريرات الإسرائيلية، وأن القصف ينتهك بالفعل مبادئ التمييز والضرورة والتناسب واتخاذ الاحتياطات الضرورية، فضلًا عن كونه جزءًا من عملية استخدم القوة النارية لإيقاع الأذى الفادح بالمدنيين وتدمير حياتهم وقدرتهم على الحياة والاستقرار.
إسرائيل متهمة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية
بموجب القانون الدولي والمواثيق المشار إليها ذات الصلة، يمكن اعتبار الهجمات العسكرية التي تتجاوز حق الدفاع عن النفس عبر استخدام القوة المفرطة أو غير المبررة أو الهجمات العسكرية التي لا تتقيد بمبدأي الضرورة والتناسب، ضمن جرائم الحرب، ويحاسب مرتكبها أمام المحكمة الجنائية الدولية أو محكمة العدل الدولية.
وعلى هذا الأساس، تمت ملاحقة كل من رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت من قبل المحكمة الجنائية الدولية. وأصدر المدعي العام كريم خان طلبات لإصدار أوامر اعتقال بحقهما بناءً على أدلة أثبتت مسؤوليتهما عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة، من بينها القتل العمد وتجويع المدنيين وتعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين والاضطهاد وأفعال لا إنسانية.
حماس تدين تصريحات وزيرة الخارجية الألمانية
أدانت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" تصريحات وزيرة الخارجية الألمانية بشأن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ودعواتها لرفع الحماية عن المنشآت المدنية.
ووصفت حركة حماس التصريحات بالـ "وقحة"، وقالت إنها تمثل خرقًا فاضحًا وانتهاكًا صريحًا لاتفاقية 1948 التي تمنع الإبادة الجماعية. كما اعتبرت التصريحات اعترافًا صريحًا بمشاركة ألمانيا في دعم عدوان الاحتلال على غزة، وإعطاء إسرائيل غطاءً لارتكاب مزيد من جرائم الإبادة.
وحملت حماس الحكومة الألمانية المسؤولية الكاملة عن عواقب التصريحات الخطيرة وتداعياتها السياسية والقانونية والأخلاقية والإنسانية، ودعت محكمة العدل الدولية إلى اعتماد تصريح وزيرة الخارجية الألمانية دليلًا إضافيًا على مشاركة ألمانيا في جرائم الإبادة، التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في غزة.
إقرأ/ي أيضًا
حملة إسرائيلية ضد اليونيفيل للضغط على الأمم المتحدة وطرد المراقبين الأمميين من لبنان
الوقائع تنفي المزاعم الإسرائيلية: الاحتلال لا يسمح لسكان جباليا بالنزوح الآمن