بعد حادثة كامبريدج أناليتكا Cambridge Analytica وتأثيرها على الانتخابات الأميركية في عام 2016، أصيب عالم الأخبار والمعلومات بصدمة قويّة، وامتدت هذه الصدمة لتصل الجمهور -الناخبين- ليشعروا بعدها بانعدام الأمان أولاً، وثانياً بفقدان قدرتهم حتى على الاختيار سواء في دخول مواقع التواصل الاجتماعي، ومروراً بقرارات الشراء عبر الإنترنت، وليس انتهاءً بقرار الانتخاب واختيار المرشح المثالي في الانتخابات. سلّطت كامبريدج أناليتكا الضوء على قدرة مؤسسات المعلومات على التلاعب في الأخبار، وأيضا قدرة الأخبار الزائفة على التلاعب في قرارات الناس وتحديد مصيائرهم، ولم تكن انتخابات 2016 هي الأولى، بل حصل الأمر نفسه عند استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وغيرها من الانتخابات والاستفتاءات حول العالم كما ظهر في الفيلم الوثائقي الاختراق الكبير The Great Hack.
بعد مساءلة موقع فيسبوك قانونيًّا حول الخرق الذي استخدمته شركة كامبريدج أناليتكا، صارت مواقع التواصل الاجتماعي أكثر حذراً وجديّة في التعامل مع المعلومات والمقالات والصور المنشورة عبرها، بل صار فيها أقسام متخصصة لـفحص الحقائق "Fact-Check" إما عبر موظفي فيسبوك أنفسهم أو عبر تكنولوجيا الطرف الثالث، لتسمح لبعض المؤسسات الإعلامية وعبر أدواتها المتعددة من فحص حقائق المعلومات والإشارة اليها مُباشرة في المواقع بأنها إما تحمل معلومات مضللة أو زائفة.
ومع الاستعداد لانتخابات عام 2020 في الولايات المُتحدّة والتحديات التي أساساً تواجه نزاهة العملية الانتخابية، مثل أزمة فايروس كورونا (كوفيد-19)، والتي ستمنع الناخبين من الوصول لصندوق الاقتراع إذا لم تنتهِي الجائحة أو تتراجع قريباً، عادت بعض التحديات التقنية والخروقات إلى وادي السيليكون من جديد بعد اختفائها أو ترويضها منذ الانتخابات الماضية. بدأت عجلة المعلومات المُضللة لتدور من جديد. تمكن الخُبراء من تحديد بعض التقنيات المُخادعة التي استخدمها الروس وغيرهم من مروجي الإشاعات لأسباب الربح الماديّ، وتمكنوا أيضاً من التحكم في نتائجها، ولكن الأخبار الزائفة دائماً ما تجد طريقها عبر تقنيات أخرى جديدة وفعّالة.
في هذه القائمة أدناه، نرصد بعض الصعوبات والتحدّيات التي ستواجه وادي السيليكون في محاولتهِ مواجهة الأكاذيب والفاعلين المؤثرين سلبياً في دورة انتخابات 2020 الأميركية.
- الغوغائيون (Trolls) الأميركان أسوأ بكثير من نظرائهم الروس:
أغرقَ الغوغائيون الروس مواقع التواصل الاجتماعي بالمعلومات المُضلّلة قُبيل انتخابات 2016 فيما وصفه روبرت ميلر بخطة بلغت تكلفتها أكثر من مليار دولار مع سنين من التخطيط ومئات من العاملين وموجات تسونامية من الحسابات الزائفة والتي تنشر الأخبار والإعلانات على فيسبوك وتويتر ويوتيوب. ولكن هذه المرة، حذّر الخبراء من أنَّ الجزء الأكبر من المدّ القادم سيكون أميركي الموطن، ولن يكون من الخارج.
يقول بول باريت (نائب مدير مركز ستيرن للأعمال وحقوق الإنسان في جامعة نيويورك): "من المحتمل ظهور كمية مهولة من المعلومات الخاطئة والمضللة مع اقتراب انتخابات 2020، وستنتج معظمها هنا في الولايات المتحدة بدلاً من الخارج". وتوضح نايما مارشال الباحثة في مشروع البروبوغندا الحاسوبية لمعهد أكسفورد للإنترنت: "الكثير من المعلومات المضللة التي حددناها كانت محلية الصنع. مواطنون عاديون يستخدمون بعض الخدع من كتاب اللعب الروسي -إن صح التعبير- لخلق سردية خلافية أو لمجرد مزج الواقع الحقيقي بالمعلومات الزائفة".
وأعلنت الشركات التقنية عن توسيعها لمعركتها ضد المعلومات المُضللة نتيجة لذلك. أعلن "فيسبوك" على سبيل المثال في أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن تحديث سياساته ضد "السلوك غير الحقيقي المنسق والمنظّم" ليعكس زيادة في حملات المعلومات المضللة والتي تديرها جهات فاعلة غير حكومية ومجموعات وشركات محلية. لكن الأشخاص الذين يتتبعون انتشار مثل هذا النوع من المعلومات يقولون إنه ومع كل هذه المحاولات والإجراءات، المشكلة لا تزال قائمة، خاصة داخل المجموعات المغلقة على موقع فيسبوك.
- مراقبة المحتوى المحليّ ليس بالمهمة السهلة:
تُحرّم القوانين الأميركية مشاركة الأجانب في الحملات السياسية الأميركية، وهو ما جعل أعضاء الكونغرس ينتقدون "فيسبوك" عقب قبوله بعملة الروبل مقابل الإعلانات السياسية في عام 2016. على صعيدٍ آخر، مسموح للأميركان، بل من المفضل أن يشاركوا وأن يأخذوا دوراً في العملية الديموقراطية، وهو ما يُصعِّب مهمة المراقبة والتتبع، حيث يستخدم هؤلاء الناس أدوات مواقع التواصل الاجتماعي لحرف مسار العملية الانتخابية عن أهدافها ونزاهتها. ما يجعل مهمة الشركات صعبة في تحديد وموقعة التدخل الداخلي هو غياب العلامات والمُحدّدات الواضحة مثل العناوين المكتوبة بلغة إنجليزية ركيكة والتي يمكن تتبعها أحياناً إلى بعض عناوين المواقع والأخبار الروسية. ما نقوله أنَّ مستوى الكِتابة والتجنيد في حرب المعلومات الزائفة، لم يعد أمرا بدائياً، بل صارت هناك غرف مخصصة وخبراء يدفعونه ويخططون له لتحقيق مجموعة من الأهداف، وهو ما يقودنا إلى التحدّي الثالث.
- المُخرّبون يتعلمون:
في هذه الأيام، يتفق الخبراء على أمرٍ واحد، تكتيكات التدخل الانتخابي على منصات التواصل الاجتماعي في عام 2020 ستكون مختلفة تماماً عن 2016. يشرح لي فوستر قائد فريق تحليل عمليات المعلومات الاستخبارية في شركة FireEye للأمن السيبراني: "ما سنراه سيكون تطوراً مستمراً وتطويراً منهجيًّا جديداً وتجربة جديدة تجعلنا نعرف ما الذي سينجح وما الذي لن ينجح".
على سبيل المثال، تحسنت قدرة هؤلاء المخربين في حجب نشاطهم عبر الإنترنت لتجنب الاكتشاف التلقائي لهم، حتى بعد تكثيف منصات وسائل التواصل الاجتماعي لاستخدام برامج الذكاء الاصطناعي بهدف تفكيك شبكات الروبوت والقضاء على الحسابات غير الحقيقية.
تقول مارشال "إن أحد التحديات التي تواجه المنصات عامةً هي مطالبة الجمهور بمزيد من الشفافية حول كيفية إزالة أو تحديد الهجمات التي ترعاها الدولة أو كيفية إزالة هذه الشبكات الكبيرة من الحسابات الحقيقية، ولكن في الوقت نفسه، لا يمكنهم الكشف عن الكثير حتى لا يكشفوا أوراقهم للمخربين". وأكد الباحثون ملاحظتهم لجهود جبارة في توزيع المعلومات المضللة عبر حسابات ومنشورات المستخدمين الحقيقيين أو ما يعرف بـ "المحتوى الأصلي" بدلاً من الإعلانات أو الرسائل المدفوعة والتي كانت ظاهرة ورائجة في حملة المعلومات الخاطئة عام 2016.
تصر شركات التكنولوجيا على أنها تتعلم وتتطور أيضاً. فمنذ انتخابات عام 2016، كرست شركات غوغل وفيسبوك وتويتر فرق من الخبراء والمهندسين الأمنيين لمعالجة المعلومات المضللة في الانتخابات الوطنية في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الانتخابات المتوسطة في الولايات المتحدة عام 2018. تقول الشركات إنَّ قدرتها تطورت وتحسنّت في الكشف عن الحسابات الزائفة وإزالتها، خاصة تلك المنخرطة في حملات منسقة ومنظّمة.
- ليست كل الأكاذيب سواء:
اتحدت مواقع فيسبوك وتويتر ويوتيوب إلى حد كبير في محاولة إزالة أنواع معينة من المعلومات الكاذبة، مثل المحاولات المستهدفة لخفض نسبة إقبال الناخبين، لكن تطبيقها لم يكن سهلاً أو موحداً عندما تعلق الأمر بالمواد المضللة. في بعض الحالات، تقوم الشركات بتصنيف المادة على أنها مشكوك فيها أو أنها تستخدم خوارزمياتها للحد من انتشارها. ولكن في الفترة التي تسبق عام 2020، دخلت قوانين الشركات مرحلة اختبارٍ من المرشحين السياسيين وقادة الحكومة الذين لا يأخذون الحقائق على محمل الجدِ ويتلفظون في كثير من الأحيان بمعلومات لا تكون صحيحة، ولكنها ليست خاطئة في الوقت نفسه.
في هذا السياق، توضح مارشال أنَّ الحملات السياسية والسياسيين أنفسهم يميلون إلى استخدام خليط من المعلومات الحقيقية المصحوبة ببعض الخيال.. كثير مما يقولون يحمل بذرة حقيقة صغيرة، مع كثير من المعلومات غير الحقيقية.
أضف إلى ذلك أنَّ تسمية مواقع التواصل الاجتماعي لإحدى المعلومات أنها مُضللة، خصوصاً لو كنت من طرف سياسي على حساب آخر، هو أمر يضع المواقع نفسها في المشكلة، وقد تُوصَم بأنّها تقف مع طرف على حساب آخر، ويظهر هذا عندما يتعمد أحد الأطراف أكثر من غيرهِ استخدام المعلومات الحقيقية ولكن بتوظيف خاطئ ومُضلل. فالديمقراطيون -في أميركا- انتقدوا وما زال ينتقدون مواقع مثل فيسبوك لعدم التحقق من الإعلانات السياسية، وتويتر لسماحه لبعض السياسيين بالكذب في تغريداتهم. وعلى النقيض، يشعر المحافظون والجمهوريين في الولايات المُتحدّة بأنهم مستهدفون من هذه الشبكات "الليبرالية" والتي تسعى لإسكاتهم، كما حصل مع تغريدة ترامب قبل أيام بعدما وضع تويتر تحتها علامة تحقّق، وهدد ترامب وقتها بأنه سيعمل على تنظيم هذه المواقع أو إغلاقها.
ختاماً، هذه التحديات والموصوفة بأنها ستواجه وادي السيليكون مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية 2020، تواجه المواقع نفسها حول العالم وفي كل انتخابات وفي كل أزمة تضرب الكوكب، مثل أزمة فايروس كوفيد-19 أو الاحتباس الحراريّ أو حتى "تريندات" التضامن والتعاطف، وتجد هذه المواقع نفسها بين المطرقة والسندان. كمية المعلومات الزائفة والمُضللة التي تُنتج يوميًّا كبيرة للغاية، خصوصاً في ظل تطور إنتاج هذه الأدوات، بل وحتى استخدام الذكاء الاصطناعي في كتابتها ونشرها بهدف مناورة الخوارزميات المُصممة لاكتشافها. المواقع التي كانت يوماً ما حُلماً أو يوتوبيا للتواصل والتقريب بين الناس، صارت الآن سلاحاً يستخدم في توجيه الجمهور وتلويث الفضاء العام وتدميره.
المصادر: