هذه المدونة تعرض دراسة نشرت عام 2015 لباحثين مختصين في علم النفس من جامعة Yale الأميركية، بعنوان "البحث عن تفسيرات: كيف يضخّم الإنترنت تقدير المعرفة الداخلية. هدفت الدراسة إلى توضيح الدور الذي يلعبه الإنترنت في خلق حالة من الوهم المعرفي عند مستخدميه، تمنعهم من تمييز الحد الفاصل بين معرفتهم الداخلية التي في أذهانهم وبين المعلومات الموجودة على الإنترنت.
لتحديد الدور الذي يلعبه الإنترنت في تقدير الفرد لمعرفته، لابدّ أن نبدأ بتعريف ما يدعى ب "نظام الذاكرة الانتقالي-الفاعل"، وهو نظام معرفي تتوزع فيه المعلومات على مجموعة من الأشخاص (عقول)، بحيث يكون لدى الفرد ذاكرتين؛الأولى داخلية، وتحتوي على جزء المعلومات الذي يعرفه ويفهمه، والأخرى خارجية، يميّز من خلالها المعلومات التي يعرفها الطرف الآخر. مثل ذلك؛ مجموعة من الباحثين في موضوع معين، كل باحث معنيّ بدراسة جزئية محددة من الموضوع من جانب، وبمعرفة الجزئية التي سيدرسها الباحثون الآخرون من جانب آخر، بحيث يشكلون كمجموعة معرفة متكاملة في موضوع محدد.
واضحٌ من التعريف أن الإنترنت يشكل نموذجاً مدهشاً للذاكرة الخارجية، والحقيقة أن هناك أعمال بحثية عديدة، نظرية وعملية، تدعم افتراض إمكانية أن تكون أنظمة الذاكرة الانتقالية-الفاعلة تكنولوجيّة وليس اجتماعية فحسب. فالإنترنت بكونه أكبر مستودع للمعرفة الإنسانية، وبقدرته على توفير كميات هائلة من المعلومات المترابطة بسهولة وبسرعة، استطاع أن يجعل الأفراد يعتادون على إسناد مهام معرفية إليه، فهم يتذكرون أين يجدون المعلومات على الإنترنت، ويعتمدون عليه في تخزينها وحفظها. وبذلك يكوّنون معه نظام ذاكرة انتقالي-فاعل. كيف ساهم ذلك في خلق وهم المعرفة عند مستخدمي الإنترنت؟ هذا ما سيتم توضيحه.
شارك في هذه الدراسة 152 إلى 302 مشارك ومشاركة، قسموا إلى مجموعتين، وعُرض عليهم مجموعة من الأسئلة في ستة حقول معرفية مختلفة وغير مرتبطة ببعضها البعض. المجموعة الأولى، أو كما سميت بالمجموعة الضابطة، لم يسمح للمشاركين فيها باستخدام الإنترنت لإيجاد إجابات على الأسئلة، أما المجموعة الثانية فسمح لهم بذلك.
في التجربتين الأولى والثانية درس الباحثون أثر استخدام الإنترنت على المجموعتين في تقدير معرفتهم الخاصة، وقدرتهم على إيجاد تفسيرات و إجابات للأسئلة المطروحة، ثم ومن خلال سلسلة من التجارب، درسوا أثر بعض العوامل، مثل الوقت المتاح في استخدام الإنترنت، والمحتوى المسموح أن يتم البحث فيه،على إجابة المشاركين في المجموعة الثانية عن سؤالهم لتقدير معرفتهم الداخلية.
النتائج كانت مثيرة للاهتمام، فمن خلال تسع تجارب مختلفة، توصل الباحثون إلى أن البحث على الإنترنت يجعل الأفراد يدمجون بين معرفتهم الخاصة وبين المعلومات الموجودة عليه، ويشعرون بثقة أكبر في معرفتهم، ثقة ليس مصدرها "تأثير الهالة" أو ثقة مفرطة بالنفس بشكل عام، وإنما هي ثقة من نوع خاص، مصدرها سهولة الوصول إلى المعلومات على الإنترنت، فيخطئون في تحديد مصدر المعلومات، ويعتقدون أنها مخزنة في عقولهم بدلاً منه.
ويكون الفرق بين الإنترنت كنظام ذاكرة انتقالي-فاعل وبين أي نظام آخر، بأننا عند الاعتماد على عقل آخر كذاكرة خارجية، أو حتى على كتاب مثلاً، يكون من السهل علينا التمييز بين ما نعرفه وما لا نعرفه، الأمر الذي لم يحدث في حالة الاعتماد على الإنترنت.
في مقابلة أجرتها المجلة التابعة لاتحاد علم النفس الأميركي APA مع الباحثين في هذه الدراسة، تحدث فرانك كايل، بروفوسور في علم النفس في جامعة Yale، عن مشكلة وهم المعرفة قائلاً إن "الاستخدام المتزايد للهواتف الذكية قد يؤدي إلى تفاقم المشكلة، لأن البحث على الإنترنت في متناول اليد دائمًا، وقد تكون التأثيرات أكثر وضوحًا عندما يكبر الأطفال المنغمسون في الإنترنت منذ سن مبكرة ". كما أشار ماثيو فيشر، طالب دكتوراة في السنة الرابعة في علم النفس، إلى أن الشعور المتضخم بالمعرفة الشخصية قد يكون خطيرًا في المجال السياسي أو في المجالات الأخرى التي تنطوي على قرارات عالية المخاطر. "ففي الحالات التي يكون فيها للقرارات عواقب كبيرة ، قد يكون من المهم للناس أن يميزوا معرفتهم الخاصة ولا يفترضوا أنهم يعرفون شيئًا ما في حين أنهم في الواقع لا يعرفون".
البحث في مشكلة الوهم المعرفي المرتبط باستخدام الإنترنت وآثارها لم ينتهِ، ولكن لعل نتائج هذه الدراسة والدراسات المشابهة تفسر أحد أسباب اجتياح ظاهرة الأخبار الزائفة التي يعاني منها العالم بشكل متزايد يوماً بعد يوم.
المصادر
APA
Searching for Explanations: How the Internet Inflates Estimates of Internal Knowledge