الأفكار الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة رأي "مسبار".
صارَ الكلام عما تحدّث به الفلاسفة عن "الحقيقة" ضرورة، بعدما أخذت حيزّاً كبيراً في مجال البحث، وحافظتْ على تاريخيةِ إشكاليتها المستمرّة حتى وقتنا هذا.
جاءَ السفسطائيون بعبارة "الإنسان مقياس كلّ شيء" ليردّوا الحقيقة إلى الذات الإنسانية المحضة. نسجَت عبرها هذه الفئة المناظرات والخطابات التي أزعجت الفيلسوف اليوناني أفلاطون إلى الحدّ الذي دفعه لتسميتهم بالمشعوذين.
عالج أفلاطون إشكال الحقيقة في كتابه الجمهورية في حديثه الشهير عن "أسطورة الكهف"، ولا سيما الذين لا يرون سوى ظلال الأشياء، الموجودة خلفهم، والمنعكسة كصور أمامهم.
ولأنّ العادة طغت على السؤال، أَلِف البشر تلك الظلال، وأصبحوا يرونها على أنها الحقيقة، وهذا ما ظهر جلياً في القرن الواحد والعشرين، حين أمسى للتكنولوجيا لغة، وهي لغة الواحد والصفر (binary).
نتعامل يومياً مع عالم هائل من الأجهزة، ونُخضع عقولنا لكمّ هائل من المعلومات والصور والأعداد، التي تضللنا وتؤثر بشكلٍ أو بآخر على حياتنا وطرق العيش لدينا فنظلُّ رهينة الكهف الأفلاطوني.
انهارت ميتافيزيقا أرسطو، وظهرت ميتافيزيقا جديدة مع انبثاق الثورة العلمية واعتماد منهج الشكّ عبر تصحيح طريقة التفكير وليس تصحيح الخطأ.
فمع ديكارت، دخلنا عصر الفلسفة الحديثة، حيث الحقيقة تُبنى انطلاقاً من الذات المُصحِّحة لما تقوم به الحواس من الخديعة.
انطلاقًا من نقد ديكارت للحواس، ردّ المفكر الأميركي ريتشارد رورتي الحداثة إلى ديكارت، معتبراً أنّ مشروع الحداثة أرسى قواعده الفكرية مع عقلانية ديكارت، ولا سيما أنَّ فكرة الحداثة ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بفكرة العقلانية.
عرّف نيشته الحداثة على أنها انهيار للمنظومة القيمية كاملة، وتحولت إشكالية الفلسفة في سؤالها عن "الحقيقة"، وكانت بمثابة انقلاب كبير، في الكشف عن أصول منظومات القيم التي تقهر الإنسان.
في كتابه إنسان مفرط في إنسانيته، سعى الألماني إلى نقد القيم العليا مما أدى إلى تلاشي "الحقيقة" كمفهوم وتوصل إلى "إرادة الحقيقة"، حسب تعريفه. وبحسب رأيه، لا يمكن الخروج عن الحداثة بنقدها من داخلها، بل يجب البحث عن مخرج آخر. فكان ميلاد ما بعد الحداثة.
إنَّ الثورة التي أحدثتها مواقع التواصل الاجتماعي قامت بخلخلة مفاهيم كثيرة مرّت عبر التاريخ. فماذا عن الأخلاق في عصر أجمع الفلاسفة على موت الحقيقة فيه؟
الأخلاق في عصر موت الحقيقة
في حزيران/يونيو من عام 2017، انسحبَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من اتفاقية باريس للمناخ، وأنكرَ مع العديد من الذين عُينوا في وزاراته ظاهرة التغير المناخي، فشككوا بصحّة الآراء العلمية التي تقول بأنّ تغير المناخ سيؤدي إلى كوارث كبيرة من شأنها تهديد سيرورة الحياة على كوكب الأرض.
وقد سعت إدارة ترامب إلى تخفيض التمويل وإحداث تغييرات في تنفيذ قانون الأنواع المهدَّدة بالانقراض، ضاربةً بعرض الحائط التزام الإنسان الأخلاقي تجاه الطبيعة، وهذا ما دفع الرئيس المنتتخب جو بايدن إلى وصف ترمب بـ"مُشعل المناخ".
إنَّ شعبوية ترامب أدّت به إلى التّملص من مسؤولياته، وتجرده الكامل من أخلاقياته تجاه الأزمات العاصفة بالمناخ، فصرّح بعد الحرائق التي نشبت في ولايات كاليفورنيا، وأوريغون وواشنطن، التي أدّت إلى مقتل 36 شخصاً على أقل تقدير، أنها ستبدأ تلقائياً بالبرودة، على حد قوله، واضعاً اللوم على سوء إدارة الغابات، منكراً الحقائق العلمية بارتفاع معدل حرارة الأرض.
ارتبطت الأخلاقيات بشكلٍ جليّ مع وضوح الواقع وبداهته، إذ يورد الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جان بورديار في هذا السياق، مثالاً من حرب الخليج، التي اعتبرها حرباً "ما بعد حداثوية" عملتْ فيها الوسائل الإعلامية على تصدير إحساس واهم، مُجانِب للصواب وغير موضوعي للأحداث الجارية آنذاك، باستخدام ألعاب لغوية دفعت الرأي العام للتصديق بعدم وجود إصابات في صفوف المدنيين، فظهرت قوى مساندة للحرب وأخرى ساكتة، على الرغم من الأثر الوحشي الذي خلفته الحرب، وإخفاء وسائل الإعلام لطبيعة المذابح الجماعية المرتكبة بحق المدنيين.
ويضيف الفرنسي أن الدعاية الإعلامية التي تستخدمها المجتمعات الرأسمالية توهم الأفراد بالحرية، ومع تنامي الأصوات الداعية لدعم حقوق الإنسان، تتفاقم الانتهاكات ويبرز العنف فاضحاً دول كُثر لها غايات أكثر وحشية مما يبدو.
الإيهام الدعائي كسلوك
تلعب الدّعاية الإعلامية هنا دوراً محورياً في تحديد خياراتنا وسلوكياتنا. لكنها، وعبر آلية التسويق التي تتبعها، تسعى إلى خداع الجماهير. من منّا لم يقع ضحية دعايات عديدة كتلك المتعلقة بالمستحضرات التجميلية والمعايير الجمالية المثالية التي يسوّق لها الإعلام الرأسمالي الحديث؟
عند دخولنا إلى متجر لشراء البيبسي. نلاحظ أن القيمة الشرائية للبيبسي الصحّي أعلى من القيمة الشرائية لعبوة البيبسي العادية، رغم احتواء الأولى على مكونات رئيسية أقل من الثانية، مثل السكر. وإذا كانت المواد الأولية في البيبسي الصحي أقل كلفة من العادي، لماذا يسعى السوق الرأسمالي إلى عرض الأولى بسعر يفوق الثانية؟
إنَّ الإيهام الدعائي كسلوك مؤسساتي، يصنع خيارات محددة، توهم المستهلك بأنّه حرّ وتضعه ضمن مؤسستها الأخلاقية والدوغمائية، كي يكون لها مغزى. فتتجرد اللغة التي تتبعها الإعلانات التجارية والسياسية وغيرها، من عمقها وتخضع فعلياً للتشييء. فيحصل المستهلك على سلعٍ ويكتسبها لا بدوافعه الخاصة بل بدافع توهم امتلاكها.
تصبح القيمة العليا الحاكمة في عصر الحداثة السائلة، كما يؤكد زيغمونت باومان، مرتبطة بالاستهلاك. فلا يحتاج الاستهلاك لضوابط إنمّا لإطلاق الرغبات، وعبر الدعايات المضللة والكاذبة، للسلع وما تحمله من إمكانات، يذهب الفرد لشراء السلع غير المفيدة، مع ولعٍ بالتخلص منها لشراء الجديد. فلا تكون أهمية سلعة ما في ديمومتها بل بفنائها السريع.
مأزق الديمقراطية
تنامي الأخبار المضللة على الإنترنت أدى إلى أشكلة الأخلاق، من حيث توجيه سلوك الفرد، وتمرير الخديعة في لاوعيه، بلا ضوابط، إلى حدٍ أصبحت فيه وجهات النظر مؤدلجة وتبيّن أنَّ الحلول التي وضعتها دول عدة لمجابهة التضليل، لم تخلُ من المزالق أيضاً، بل وشكلت خطراً كبيراً على حرية التعبير في المجتمعات الديمقراطية.
في خضم موجات التزييف والتضليل، شرع الصحفيون في العالم لاستخدام أساليب أكثر نجاعة للتحقق من المعلومات المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، هذا بالاضافة إلى البحث عن المصادر وتقييمها وفق معايير معمول بها في مهنة الصحافة. على سبيل المثال تستخدم صحيفة لو موند أداة le Décodex، وهي أداة تساعد على التحقق من المعلومات المتداولة على الإنترنت والعثور على إشاعات أو مبالغات أو تحريفات.
كما شرعت بعض الدول كالمملكة المتحدة للحد من نشر الأخبار والمعلومات الزائفة إلى تشكيل لجنة تحقيق سنة 2017 تستهدف عمالقة الإنترنت.
وقد أعلن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون من نفس العام، رغبته في تطوير نظامه القانوني للحماية من الأخبار المضللة، وجاء حماسه بعد تعرض حملته الانتخابية الرئاسية للتشويه من قبل القناة التلفزيونية روسيا اليوم وراديو سبوتنيك التابع للدولة الروسية. إذ ساهمت في نشر الأخبار الكاذبة مما دفع ماكرون إلى توجيه الانتقادات خلال المؤتمر الصحفي الذي عقد عقب زيارة بوتين آنذاك.
فهل التنظيم الصارم الذي تبعته الدول سيؤدي إلى تهديد الحياة الديمقراطية أم سيحميها من الأخبار الزائفة؟
في اليوم العالمي لحرية الصحافة من عام 2019، نظمت اليونيسكو مؤتمراً عالمياً في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، تحت عنوان الإعلام من أجل الديمقراطية: الصحافة والانتخابات في زمن التضليل الإعلامي.
وفقًا للمنظمة غير الحكومية "الانتفاع الآن" فقد أغلق ما لا يقل عن 108 من مواقع الإنترنت حول العالم في عام 2017، وسُجّل إغلاق 81 موقعاً على الأقل في النصف الأول من عام 2018.
تمنع بعض الحكومات الناس من التواصل والانتفاع من المعلومات لمنع بث الشائعات والأخبار المضللة والزائفة. بيد أنَّ الجهات الفاعلة في المجتمع المدني ترى في هذه السياسات المتبعة وسيلة لتهديد الديمقراطية، وقد أدان مجلس حقوق الانسان الإجراءات التي تمنع وتعوق الانتفاع بالمعلومات عبر الإنترنت والتي وصفتها بأنها "انتهاك للقانون الدولي لحقوق الإنسان".
المصادر:
زياد رضوان – معنى الحقيقة في خطاب ما بعد الحداثة: كيف أن التاريخ ربما يكون الحقييقة الوحيدة، مؤسسة مؤمنون بلا حدود.
باومان زيغمونت - الاخلاق في عصر الحداثة السائلة
المؤتمر العالمي أديس أبابا، إثيوبيا 03-01 مايو/أيار 2019