هذه المقالة لا تمثّل بالضرورة آراء "مسبار" وهيئته التحريرية
تتيح وسائل الإعلام فرصة تداول الأخبار بجميع أنماطها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وفق نسق أفقي يضمن الانتشار الأوسع للمعلومات بين المستخدمين، ونسق عمودي يعتمد على مراكمة الأخبار وزيادة مخزون المعلومات والتقارير لدى وسائل الإعلام؛ والمستخدمين أنفسهم. ومع تقدم تقنيات التواصل، أصبحت صناعة المحتوى الإخباري ومشاركته أمرًا متاحًا بحيث أن أيًّا من المستخدمين بمقدوره صناعة أي خبر ونشره؛ لكن أسئلة كثيرة تلوح في الأفق من قبيل: ما مدى مصداقية الخبر؟ ماذا عن صدق الناشرين بحد أنفسهم؟ هل نحن أمام بروباغندا وأجندات معينة؟ أم أننا أمام قنوات موضوعية تنشر الحقيقة بوجهها الحقيقي رغم عدم توافق الواقع مع أجندتها؟
فهم وتطبيق الموضوعية
غالبًا عندما نتناول الموضوعية في حديثنا عن الإعلام فإننا نعني نقل الأخبار كما هي عليه في الواقع، وليس كما نرغبها أن تكون؛ أي أن أي قناة إعلامية، مرئية أو مسموعة أو مقروءة، يجب أن تلتزم بتصوير الواقع من وجهة نظر محايدة، لا متحيّزة لطرف دون الآخر. تعاني معظم القنوات الإعلامية من فرط التعلّق بالأجندة، التي تتباين بحسب مصادر التمويل في المقام الأول، ومن ثم بحسب الولاءات السياسية، ثم بحسب الضغوطات الأمنية التي تفرضها أجهزة الدولة. ينشأ لدينا نتيجة لهذا الواقع مجموعة من العلاقات والتحزّبات التي أفرزت نمطًا إعلاميًا قائمًا على صنع الأخبار الكاذبة، أو ما يمكننا تسميته مجازًا أية أخبار (The Whatever news) دون معايير موضوعية لنشرها، مهمتها فقط تعبئة الساعات الإخبارية. وبرأي الباحث الأميركي جيمس كاري، فإن أحد أهم نتائج هذا النمط من الأخبار هو الحساسية المفرطة تجاه وسائل الإعلام التي يظهر عليها التحيز أو القابلية للاندفاع وصنع الأخبار الكاذبة، وهدفها فقط تلميع صورة الحكومات أو الرد على سردية قنوات أخرى موضوعية يعمل مراسلوها على الأرض. عام 2001، وفي خضم الزخم الإخباري حول الحرب في أفغانستان، طلَب والتر إيساكسون، رئيس شبكة سي إن إن الإخبارية من مراسلي القناة، العاملين في الإقليم حينها، نشر تقارير إخبارية يعملون فيها على تقديم بيانات عن خسائر ومعاناة الأفغان بما يتناسب مع جهد الولايات المتحدة في حربها ضد القاعدة، خصوصًا في الأشهر التي تَلت هجمات 11 سبتمبر/أيلول. ما يهم حينها بالنسبة لشبكة سي إن إن كان تقديم أرقام وبيانات تظهر قدرة الولايات المتحدة الأميركية على الرد على منفذي الهجمات وتكبيدهم خسائر فادحة، حتى وإن لم تكن الأرقام حقيقية. بدوره، استغل الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، دعم سي إن إن لهيلاري كلينتون، وشن هجومًا على المؤسسة التي انزلقت ببعض تقارير مفبركة حول علاقة أنتوني سكاراموتشي، أحد المقربين من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بصندوق الاستثمار الروسي؛ وتقارير أخرى مزيّفة تتحدث عن ابتزاز روسي لترامب اعتمادًا على ملفات فساد أخلاقي. فقدان الشبكة حس الموضوعية أودى بمصداقيتها لدى المتابعين، وعزوفهم عن متابعتها.
الأخبار الكاذبة والمصداقية
يعلم المتابعون أن بعض الأخبار المتداولة عبر القنوات مفبركة لأهداف معينة، إذ إن التطور التقني الحاصل، والذي يتيح بدوره إمكانية التحقق من الأخبار والصور ومقاطع الفيديو، يجعل الفرصة أكبر لدى المتابعين لتقرير المنصات التي يتابعونها للحصول على أخبارهم. بالإضافة إلى تصنيفات الأخبار الكاذبة التقليدية (مفبرك، مضلل، انتقائي.... إلخ) يمكن تصنيف الأخبار الكاذبة من وجهة نظر المتابعين نحو القنوات الإخبارية أو منصات التواصل الاجتماعي؛ إذ إننا نتعامل من هذا المنظور مع أخبار من شأنها تقويض الثقة التي كانت قد بنتها هذه القنوات لدى الجمهور، أو حتى لدى قنوات أخرى تأخذ عن الأولى أخبارها. من هنا، يمكن القول إن القنوات إعلامية بأشكالها تفقد المصداقية في حال أنتجت أخبار إما ساخرة، وفي هذه الحال نحن لا نتحدث عن خبر ساخر بحقيقته، تكون في باب التهكم المبتذل والمصطنع الظاهر عليه التلفيق بغرض الإضحاك والسخرية، وبالتالي لا تدخل ذهن المتابع سوى أنها زلّة من صانعي المحتوى والمراسلين في القنوات. نشر موقع الوكالة الإخباري في شهر يناير/كانون الثاني العام الفائت، خبرًا بعنوان "الجيش الليبي يدخل سرت.. والمليشيات تهرب مذعورة"، ليتم تصنيفه على أنه خرافة ولا علاقة له بواقع الصورة وواقع المعارك التي تجري في ليبيا. عنوان الخبر وطريقة عرضه واستخدام كلمات مبالغة وتشويق كلها معززات للخبر وجعله أكثر قابلية للقراءة، في محاولة لتغطية المضمون الأقرب للخرافة والتهكّم.
لا تندرج الأخبار المسلية أو الساخرة التقليدية ضمن قائمة الأخبار التي تطيح بمصداقية وسائل الإعلام. فتغطية أخبار اقتحام مقر الكونغرس الأسبوع الماضي، والصور ومقاطع الفيديو المضحكة التي تداولتها القنوات العالمية والمواقع الإخبارية ومستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي، لا تعني نقصًا في مصداقية هذه القنوات كونها تعرض أخبارًا فكاهية، بل يرفع رصيد مشاهدتها أو تعلق المتابعين بها لرصدها الحدث أولًا بأول.
يفقد الإعلام مصداقيته عندما ينزلق إلى نموذج الصحافة الضعيفة (Poor Journalism)، حيث يمكننا أن نجد اللهاث وراء المتابعين، القدرة على الاستغناء عن الحقيقة والمنطقية في سبيل الحصول على وصول أفقي أكبر (Higher Horizontal Reach)، حيث المبالغة والتحيز الأيديولوجي، وتقديم محتوى أشبه بالخرافات، غالباً ما يكون الهدف منه الجذب واللعب على عواطف المتابعين والاستحواذ على ذهن الضعيف غير القادر على التحليل منهم. معلومات غير دقيقة، أخبار مضللة، خرافات؛ كلها نتاج صناع محتوى يقعون في فخ الصحافة الضعيفة. تعدّ قنوات موقع يوتيوب الناشئة حديثًا وحسابات موقع فيسبوك المضللة مثالًا جيدًا لهذا النمط، حيث مقاطع الفيديو الخرافية والمعلومات المضللة. نشرت منصة "مسبار" تحقيقًا يثبت أن بعض حسابات فيسبوك تنشر خرافات، وتدعي هذه الحسابات أن الصينيين يبحثون عن يأجوج ومأجوج شمال الصين؛ الأمر الذي يفقد هذه الحسابات وغيرها مصداقيتها.
بينما يفقد قسم آخر من المواقع مصداقيته بعد وقوعه في فخ البروباغندا، الناجمة بشكل أو بآخر عن التحيز المفرط والولاء لأصحاب المال والسياسة على حساب نشر الحقيقة. وإذ نعلم أن لكل قناة أو موقع أو صحيفة أجندة معينة، إلا أن هذا لا يتنافى مع ذكر الحقيقة والابتعاد عن نشر الأخبار الكاذبة. مُغالاة صحف الولايات المتحدة الأميركية الأشهر مثل ذا نيويورك تايمز، وذا واشنطن بوست، وذا وول ستريت جورنال، باتباعها أجندات معينة ليست جديدة، وواضحة، إلا أن ما يجب على المتابع حينها رصد الأخبار والتأكد منها في حال الشك بنشر خبر كاذب ضمن عمل البروباغندا وخدمة أجندات معينة. في يونيو/حزيران من العام الفائت، نشرت قناة العربية الحدث، التي لا تتفق أجندتها مع الأجندة السياسية الحالية في تونس، خبرًا كاذبًا عن إضراب عام في تونس جرى نتيجة رغبة التونسيين بإقالة رئيس البرلمان، راشد الغنوشي؛ ليتبين أن الإضراب يعود لقطاع موظفي الصحة في محافظة صفاقس على خلفية محاكمة بعضٍ من زملائهم بتهمة الاعتداء على نائب في البرلمان. تطيح مثل هذه الأخبار الكاذبة بمصداقية القناة وتهدم ثقتها، إن وجدت، مع الجمهور الذي يتابع خلف الشاشة، والمأساة الأكبر في حال كان المتلقي سلبيًا لا يبحث عن أصل الخبر ومعناه.
أما عن المواقع الالكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي، فالحسابات الوهمية والروابط التي تحمل في طيّاتها فيروسات تمكن القراصنة من النيل من المستخدمين وحساباتهم، والإعلانات المموّلة، والمحتوى المضلل؛ فإنها تساهم كلها في عزوف المستخدمين عن متابعتها وإلغاء الاشتراك بها أو حظرها، وبالتالي تفقد مصداقيتها بين المستخدمين. هذه المواقع تنشر أخبارًا مضللة ويصنفها المحققون على أنها خبيثة تضر بالمستخدمين أكثر ما تفيدهم، وتوقع بهم عبر تتبع روابط لشبكات نصب واحتيال ومراقبة أمنية.
المراجع:
Carey, J. W. (2002). American journalism on, before, and after September 11. Journalism after September 11(71-90).
Marchi, R. (2012). With Facebook, blogs, and fake news, teens reject journalistic “objectivity”. Journal of communication inquiry, 36(3), 246-262.
Shu, K., Sliva, A., Wang, S., Tang, J., & Liu, H. (2017). Fake news detection on social media: A data mining perspective. ACM SIGKDD explorations newsletter, 19(1), 22-36.