لا يحتاج الأمر إلى دراسة، لنعرف أنّ المعلومات المضللة منتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ إنّ البحث السريع عن كلمات مثل "اللقاحات" أو "تغير المناخ" سيؤكد ذلك. لكنّ السؤال الأكثر إلحاحًا هو ما السبب وراء ذلك؟
من الواضح، على الأقل، أنّ هناك مساهمات من حملات تضليل منظمّة، وأنصار سياسيين، وخوارزميات مشكوك فيها. وعلاوة عن ذلك، لا يزال هناك الكثير من الأشخاص الذين يختارون مشاركة الأشياء التي سيُظهر أبسط فحص سريع أنّها تافهة. فما الذي يدفعهم إلى ذلك؟
كان هذا هو السؤال الذي حفّز فريقًا دوليًّا صغيرًا من الباحثين، الذين قرروا النظر في كيفية اتخاذ مجموعة من سكان الولايات المتحدة، قراراتهم بشأن الأخبار التي يجب مشاركتها.
تشير نتائجهم إلى أنّ بعض الأسباب التقليدية التي يسوقها الناس والعلماء عند شرح ظاهرة فيض المعلومات الخاطئة، هي عدم القدرة على تقييم المعلومات والتحيزات الحزبية، أو أنّه ليس لها تأثير كبير كما يعتقد معظمنا. بدلاً من ذلك، يتم توجيه الكثير من اللوم إلى الأشخاص الذين لا ينتبهون جيدًا لطبيعة وصدقية ما يشاركونه.
أجرى الباحثون عددًا من التجارب المتشابهة إلى حد ما، للحصول على أدق التفاصيل الكامنة وراء مشاركة المعلومات الخاطئة. وشمل ذلك مجموعات من المشاركين المقيمين في الولايات المتحدة الذين أُشركوا إما من خلال موقع إلكتروني مختص أو من خلال مجموعة قامت بتعبئة استبيان، وهي المجموعة التي قدمت عينة أكثر تمثيلًا من الولايات المتحدة. ضمت كلا الطريقتين من مئات إلى أكثر من ألف فرد، وكانت النتائج متسقة ومتشابهة عبر أكثر من تجربة مختلفة، لذلك هناك درجة من الوثوقية تسمح باستنساخ البيانات وتعميمها.
لإجراء التجارب، جمع الباحثون مجموعة من العناوين والجمل الإرشادية، والكلمات المفتاحية، من التقارير الإخبارية المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي. كانت المجموعة مختلطة بالتساوي بين العناوين التي كانت صحيحة بوضوح، والأخرى الخاطئة تمامًا، ومن ثم قُسّمت كل فئة من هذه الفئات مرة أخرى بين تلك العناوين التي تمدح حزب الديمقراطيين، وتلك التي تمدح حزب الجمهوريين.
من النتائج التي برزت بشكل لا يقبل الشك أن الناس، عمومًا، قادرون على الحكم وتقدير دقة العناوين الرئيسية. كانت هناك فجوة مقدارها 56 نقطة مئوية بين عدد مرات تصنيف العنوان الدقيق على أنه "صحيح" ليتبين لاحقًا أن العنوان خاطئ. الناس ليسوا مثاليين - ما زالوا يخطئون في كثير من الأحيان - لكن من الواضح أنهم أفضل قليلًا في هذا الأمر مما هو شائع.
الأمر الثاني الذي يدا جليًّا هو أن الأيديولوجيا لا تبدو حقًا سببًا رئيسيًّا في إصدار الأحكام حول ما إذا كان العنوان الرئيسي دقيقًا أم لا. كان الناس أكثر ميلًا لتقييم عناوين الأخبار التي تتفق مع اتجاهاتهم السياسية، لكن الفرق هنا كان 10 نقاط مئوية فقط. هذا مهم (اجتماعيًّا وإحصائيًّا) ، والفجوة بالتأكيد ليست كبيرة بما يكفي لتفسير تدفق المعلومات المضللة على أنه تحيّز سياسي.
ولكن عندما سُئل نفس الأشخاص عما إذا كانوا سيشاركون نفس هذه القصص عبر حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لعبت السياسة دورًا كبيرًا، وتراجعت الحقيقة. كان الاختلاف في نية المشاركة بين العناوين الحقيقية والزائفة 6 نقاط مئوية فقط. وفي الوقت نفسه، فإن الفجوة بين ما إذا كان العنوان يتفق مع سياسات الشخص أم لا تتشكّل فجوة قدرها 20 نقطة مئوية.
لتوضيح الأمر، عُرض على المشاركين هذا العنوان الخاطئ "القبض على أكثر من 500 قافلة مهاجرة ترتدي سترات انتحارية". فقط 16٪ من المحافظين السياسيين في الدراسة صنفوا العنوان على أنه صحيح. لكن أكثر من نصفهم كانوا ميّالين لمشاركة الخبر على مواقع التواصل الاجتماعي، بغض النظر عن صحّته أو عدمها.
عمومًا، كانت فرصة أن يفكر المشاركون في نشر عنوان خاطئ يتماشى مع سياساتهم ضعف فرصة تصنيفهم لخبر خاطئ على أنه دقيق وصحيح. ولكن بشكل مثير للدهشة، عندما سُئل نفس الجَمْع عما إذا كان من المهم مشاركة المحتوى الدقيق فقط على وسائل التواصل الاجتماعي، كانت الإجابة الأكثر شيوعًا هي "مهمة للغاية".
إذًا، بمقدور الناس التمييز بين ما هو دقيق وزائف، ويقولون إنّ الأمر مهم في تحديد ما يجب مشاركته على الإنترنت. ولكن عندما يتعلق الأمر باتخاذ هذا الاختيار فعليًّا، لا يبدو أن الدقة مهمة كثيرًا. أو على حد تعبير الباحثين، فإن شيئًا ما في سياق مواقع التواصل الاجتماعي يحوّل انتباه الناس بعيدًا عن الاهتمام بالحقيقة، وإلى الرغبة في الحصول على الإعجابات والإشارة إلى انتمائهم الأيديولوجي.
ولقياس مدى دقة الاستنتاج السابق، غيّر الباحثون التجربة قليلًا لتذكير الناس بأهمية الدقة والحقيقة. في استبيانهم المعدل، بدأوا بمطالبة الناس بتقييم دقة عنوان إخباري غير حزبي (سياسي)، ما يجعل المشاركين أكثر وعيًا بالحاجة إلى إصدار تلك الأنواع من الأحكام. كان أولئك الذين تلقوا هذا الاستبيان أقل ميلًا لمشاركة عناوين الأخبار المزيفة، خاصة عندما تتفق العناوين المذكورة مع سياساتهم. حدثت أشياء مماثلة عندما سُئل الناس ببساطة عن أهمية الدقة قبل إجراء الاستطلاع، وليس بعده.
يتفق ذلك مع فكرة أن الأشخاص يقدّرون الدقة ولكنهم لا يفكرون كثيرًا فيها بالضرورة، عند استخدامهم لمواقع التواصل الاجتماعي. عمومًا، يقدّر الباحثون أن هذا السلوك يمثّل حوالي نصف قرارات مشاركة المعلومات الخاطئة. على النقيض من ذلك، فإن عدم القدرة على تحديد المعلومات المضللة يمثّل أقل من الثلث، والتأثيرات الحزبية والسياسية مسؤولة عن 16 في المئة.
الاستنتاج العام هنا يتماشى مع الكثير من الأبحاث السابقة، لذا فهو ليس مفاجئًا على نحو خاص. هناك تجارب مكثفة تُظهر أن الناس يميلون إلى التوصل إلى أحكام مبكرة تشير إلى انتماءاتهم الثقافية والأيديولوجية؛ الطاقة العقلية التي يجب أن يبذلوها في تقييم هذه الأحكام السريعة تذهب في العادة بدلًا من ذلك نحو الدفاع عن تلك الأحكام بعد إصدارها. من السهل مواءمة هذا الاستنتاج مع الفكرة العامة القائلة بأن عدم تركيز الأشخاص على الدقة، يعود بشكل كبير إلى الميول الحزبية والسياسية.
في حين قد يكون العامل السياسي هو أكبر عامل منفرد هنا، لكن من الواضح أنّه ليس العامل الوحيد؛ إذ يلعب عدم القدرة على الحكم على الدقة أيضًا، دورًا رئيسيًّا، ومن الواضح أن هناك بعض الحالات التي تفوق فيها المخاوف الحزبية الدقة.
ربما تستحق هذه الحالة الأخيرة النظر فيها بمزيد من التفصيل، ومن المحتمل أن نحصل على معلومات مهمة من البيانات التي يمتلكها الباحثون بالفعل.
المراجع
اقرأ/ي أيضًا:
قوانين في مصر: مكافحةٌ للأخبار الزائفة أم تقييدٌ لحرية التعبير؟