الآراء الواردة في هذا المقال لا تُعبّر بالضرورة عن رأي “مسبار”.
يرتبط الإعلام بالسياسة ارتباطًا وثيقًا، ومن هذا الارتباط انبثق نموذج الإعلام السياسي القائم على تنميق أساليب الحوار وتقديم المعلومات السياسية والعسكرية إلى الجمهور بطريقة إخبارية، تضمن سلامة وهيبة الدول داخليًا وخارجيًا.
تبلورت معالم نسق الإعلام السياسي في نهاية الحرب العالمية الثانية، ليصير مجالًا مستقلًّا يناقش التأثير المتبادل بين الحكومة والشعب من جهة، والعلاقات الخارجية من جهة أخرى. وبحسب نظرية الإعلام السياسي، فإن الهدف من وجود إعلام سياسي نابعٍ من الحاجة لتحريك وحشد الجماهير بأسلوب يضمن حصول السياسيين على مكاسب انتخابية في المقام الأول، وكذلك الأمر بالنسبة للمصالح والعلاقات الدولية.
في الإعلام السياسي هناك ثلاثة فواعل أساسيين: السياسيون، والصحفيون، والمواطنون، وكل واحد منهم يتحرك وفق اهتمام مختلف ومتميز عن البقية. بالنسبة للسياسيين، فإن الهدف هو توجيه الرأي العام لقضية تخدم حزبه بشكل أو بآخر؛ وبالنسبة للصحفيين، فإن أي قصة سياسية هي مشروع خبر يجذب المتابعين بسبقٍ صحفي يفتح باب الشهرة على مصراعيه؛ أما المواطنون، غالباً في البلاد الديمقراطية، فإنهم معنيون بالإعلام السياسي لمحاسبة السياسيين وصناع القرار والوقوف عند هفواتهم.
التضليل ونموذج الحرب الإعلامية النفسية
يدرس الإعلام السياسي المناظرات السياسية والتوجيه السياسي والإيديولوجيا والحملات الانتخابية وطرائق ترويجها، وينتهي بدراسة وتحليل الخطاب السياسي والدعاية. كان هتلر أوّل من عيّن وزيرًا مختصًا بشؤون الإعلام السياسي والدعاية خلال العصر الحديث، واختار عام 1933 جوزيف غوبلز الذي لعب على حبل تضليل العدو ونشر أخبار تزرع الرعب في صفوفه، وروّج للحزب النازي بعد ذلك بطريقة شرعية. اعتمد غوبلز الإذاعة والأفلام والملصقات والصور الصحفية لبناء صورة ألمانيا على أنها الأقوى والأكثر استقرارًا، وتمجيد صورة هتلر والحزب النازي كون ألمانيا كانت بحاجة إلى هذه الحرب الإعلامية.
نجح غوبلز في تنفيذ نموذج البروبغندا الأشهر عالميًا، ما ساهم في إيصال ألمانيا إلى دائرة الدول الكبرى. وخلال الحرب العالمية الثانية، ظهرت معالم استخدام الإعلام في التضليل حين جرى استخدام الخطاب ولغة الجسد للتأثير وإقناع العالم بقوة الألمان، ولإضعاف الشعور القومي لدى شعوب المعسكر السوفييتي وأوروبا الشرقية. كما يُنسب لغوبلز قول "اكذب، اكذب، حتى يصدقك الناس" في إشارة إلى استخدام التضليل، والدعاية، وقوة خطاب هتلر الذي أثّر في شعوب أعداء ألمانيا قبل الألمان، وحرّضهم على حكوماتهم، ودفع فرنسا وبريطانيا إلى الموافقة على احتلال تشيكوسلوفاكيا. تكرر الأمر في الحالة الفلسطينية بعد استخدم إعلام الاحتلال الإسرائيلي الإشاعات والتضليل الإعلامي ليقنع العالم أنّ الفلسطينيين هم من تركوا أرضهم نزولاً عند أوامر القوات العربية، بينما سبب خروج الفلسطينيين كان احتلال أراضيهم ومدنهم وقراهم من قبل مليشيات الهاغانا الصهيونية.
يمكن القول إنّه، وبفعل التقدم التقني الحاصل، صار الإعلام السياسي المضلل يعتمد على دراسة إعلام الخصوم وتطوير تقنيات الاتصال؛ من أجل التحكم بالمحتوى المراد توجيهه إلى الجمهور (معارضة او موالاة) لما لهذا المسار من أثر على صناعة الرأي العام، وبات الاعتماد الأكبر على استطلاعات الرأي والتسويق السياسي. يُحتسب لروسيا والولايات المتحدة الأميركية استخدام مؤسسات الدراسات الإعلامية والاستشارات السياسية ومؤسسات تحليل البيانات من أجل تنسيق استطلاعات الرأي والتعرف على آراء الخصوم (محليين أو خارجيين)، واهتمامات جمهورهم ودراسة عواطفهم وحالاتهم النفسية قبل القيام بضخ الأخبار المضللة. ما حصل في فضيحة كامبريدج أناليتيكا كان مثالًا حيًّا على تسريب بيانات مستخدمي الإنترنت وتوظيفها ضمن قالب إعلامي لبث رسائل سياسية مضللة، وإعلانات وقصص مؤقتة، تلتقي في الوقت نفسه مع اهتمام الجمهور في خطوة لتوجيه الرأي العام لصالح حملة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
الشائعات السياسية
بيئة الخصومات السياسية مواتية لنمو الشائعات، وخاصة المتعلقة بالقادة على أي مستوى، وتحيط بصنّاع القرار السياسي والاقتصاديين المؤثرين على مستوى الدول. يمكن تعريف الشائعات بأسلوب بسيط على أنها ادعاءات لا تستند إلى الحقيقة، أو أحداث موثّقة، تنتشر بفعل أدوات الاتصال الإخباري informative communication. أهم ما يميز الشائعات أنها تنطلق بفعل التحريض على شخص بعينه أو تمويه حقيقة حول حدث ما، بطريقة ترضي شعور المتحدث (وليس بالضرورة ان يكون فردًا بذاته، ربما وسيلة إعلام ما) بالسيطرة على المشهد الإخباري. إلا أنّ الشائعات، وخاصة السياسية منها، لا يمكن أن تنتشر إلا عندما تجد آذانًا صاغية لها و تعمل على إذكاء نارها؛ و بطريقة أو بأخرى، يمكننا القول إنّه كلما تداول الجمهور شائعات أكثر، كلما زادت معقولية ومصداقية هذه الشائعات.
طالت الشائعات السياسية الرئيس الأميركي باراك أوباما، ودارت في الأساس حول دينه وعرقه وأصوله؛ حتى قبل أن يتسلم مقاليد حكم الولايات المتحدة. وعلى عكس أي رئيس أميركي سابق، يمكن القول إنّ أوباما كان محاطًا بمصنع شائعات اكتسبت قوة جذب في أذهان الجمهور. وجد استطلاع الرأي الذي أجراه مركز بوليمتريكس polimetrix أن 27 % من الأميركيين يعتقدون أنّ أوباما لم يكن مولودًا في البلاد، وأن 19 % غير متأكدين من أصوله؛ إلا أنّ النسب انخفضت بعد أن قرر أوباما إظهار شهادة ميلاده في أبريل 2011. استغل خصوم أوباما من الجمهوريين وجماعات العرق الأبيض وجود اسم "حسين Hussein" ليروجوا لشائعات حول دينه، الأمر الذي جعل 24% من الأميركيين يقولون إنه مسلم، وليس مسيحيًا، خاصة في ظل حالة الاستقطاب ضد الديمقراطيين، فنسبوه إلى الإسلام بعد ظهور الإسلاموفوبيا. قبل ذلك، طاولت شائعات حول تورط المرشح الديمقراطي لانتخابات عام 2004، جون كيري، في ملف الحرب على العراق والجرائم التي حصلت في المدن العراقية عام 2003، بالإضافة إلى شائعات حامت حول تورط الجمهوريين في مؤامرات بخصوص أحداث 11 سبتمبر 2001.
نموذج "إسرائيل تتكلم بالعربية" و "المنسّق"
يعتمد الإعلام السياسي المبرمج الخاص بالاحتلال الإسرائيلي أسلوب قلب الحقائق وتأليب الرأي العام العالمي ضد الفلسطينيين، في أيّ من الحوادث اليومية التي تجري في فلسطين المحتلة. يمثّل دخول كلّ من أفيخاي أدرعي، الناطق الإعلامي لجيش الاحتلال، والصحفي إيدي كوهين على خط الإعلام الموجّه باللغة العربية نقلة في مسار المواجهة الإعلامية بين الاحتلال والرأي العام العربي والعالمي، بعد قيام هؤلاء بخداع الجمهور العربي في المقام الأول، واستقطاب مؤيدين عبر التضليل الإعلامي وتنميط الفلسطينيين على أنهم وحشيّون ومتخلّفون وعدوانيون، بينما يروجون لصورة الإسرائيلي على أنّه مسالم محب للناس ومحب للإنتاج العلمي. الهدف من الإعلام الإسرائيلي الموجّه باللغة العربية، وأشهر حالاته قناة "آي 24 I24" وصفحة "إسرائيل بالعربية"، تشويه صورة العرب في الداخل المحتل وفي فلسطين عمومًا، لا سيما من خلال استغلال حوادث العنف وجرائم القتل الفردية وتبيان أنّ وجود "قوات الأمن الإسرائيلية" مهم لحماية المجتمع المحلي منهم.
تعمل صفحة "إسرائيل بالعربية" من خلال المنشورات اليومية على تبرير سياسات الاحتلال، وإبقاء الجمهور المتابع في حالة يأس من نجاح أيّ عملية من شأنها إنهاء احتلال فلسطين. يجسد المشرفون على الصفحة الحديث باللغة العربية، ممزوجًا بببروبغندا ورسائل مبطنة وكمّ هائل من المعلومات المضللة والمغلوطة والشائعات التي تطاول المقاومين الفلسطينيين والأسرى في سجون الاحتلال، ضمن سلسة منشورات تحمل صبغة عنصرية لا تخلو من التنميق اللغوي والمصطلحات المستخدمة في الحياة اليومية، والأدعية الإسلامية والآيات القرآنية ونشر البرامج الدينية باللغة العربية. في المسار ذاته، تعمل صفحة “فيسبوك” تحمل اسم "المنسق"، وهي تابعة لمنسّق أعمال حكومة الاحتلال الاسرائيلية في المناطق المحتلّة عام 1967، للترويج لصورة مغايرة تمامًا لما يجري في القدس المحتلة. نشرت صفحة "المنسق" قبل ثلاثة أيام فيديو يصوّر استعداد القدس لصلوات الجمعة، ويظهر الفيديو هدوء المكان وجهوزيته لاستقبال المصلين في الوقت الذي تشتعل فيه المواجهات بين المقدسيين وجنود الاحتلال.
شهدت القدس مواجهات بين المقدسيين وشرطة الاحتلال بلغت ذروتها البارحة، ونفذ خلالها عناصر الشرطة حملة مداهمات واعتقالات طاولت أبناء القدس، وامتدّت إلى بلداتٍ فلسطينية أخرى؛ بينما انبرى جندلمان من خلال حسابه على تويتر ونشر صورة ادعى فيها أن الجندي الإسرائيلي يحمي امرأة فلسطينية ضد هجوم الفلسطينيين على المارة في مدينة الخليل.
تأتي هذه الصورة في سياق التضليل الإعلامي الذي يقوده مسؤولو الحرب الإعلامية والنفسية في الإعلام السياسي الإسرائيلي الذي لا يخفي أجندته على أحد، ولا سيما في ظل حراك شعبي فلسطيني كبير تشهده الأراضي الفلسطينية.
وقد تناول “مسبار” في مدونة منفردة هذه الصورة، ودلالات وسياقات ترويجها من قبل الإعلام الإسرائيلي.
المراجع والمصادر
- Allport, G. W. and Postman, L. 1947. The Psychology of Rumor. New York: Henry Holt & Co.
- Obama and the Burden of Race. Joint Center for Political and Economic Studies, 2009. https://scholar.harvard.edu/files/bobo/files/2009_obama_and_the_burden_of_race_focus.pdf
- Petersen, M. B., Osmundsen, M., & Arceneaux, K. (2018). A “need for chaos” and the sharing of hostile political rumors in advanced democracies. American Political Science Association, Boston, MA, 30.
- Rosnow, Ralph L. 1991. “Inside rumor: A personal journey.” American Psychologist 46(5): 484-496.