في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 كشف مسبار في تحقيق عن جهود واسعة تبذلها "لجنة الدقة في إعداد التقارير عن الشرق الأوسط في الولايات المتحدة"، (والتي تُعرف اختصارًا بـ "كاميرا")، وهي منظمة ضغط ذات نفوذ واسع تمارس رقابة حثيثة على وسائل الإعلام خاصة الأميركية، وتتحكم بشكل محتواها وخطها التحريري لضمان إعادة صياغته لصالح إسرائيل.
وبينما تدعي المنظمة أنها تهدف لتعزيز التغطية الدقيقة والمتوازنة لإسرائيل والشرق الأوسط، تكشف المراجعة أن المنظمة تستمر بالضغط بشكل غير متوازن ومنحاز لصالح توجيه الأخبار لتدعم مصالح إسرائيل.
المنظمة تستمر بقيادة حملات نشطة لتوجيه وسائل الإعلام الغربية
في السابع من نوفمبر الجاري، وردًا على تحرك مكتب كاميرا في إسرائيل، حذفت وكالة أسوشييتد برس تقريرها الذي احتوى عبارة أن “القانون الدولي يمنح اللاجئين الفلسطينيين الحق في العودة إلى ديارهم”.
نشرت أسوشييتد برس تقريرًا جديدًا ليصيغ الفكرة على لسان الفلسطينيين، بشكل لا يشير أنها حق في القانون الدولي أو ملزم التنفيذ، بل فكرة جدلية لا يمكن التأكد من صحتها.
ضغطت “كاميرا” أيضًا إلى إعادة تعديل نسخ التقارير المنشورة من قبل عملاء “أسوشييتد برس" والمنقولة عنها، بما في ذلك "ذا واشنطن بوست"، و"إيه بي سي"، و"تورونتو ستار". ومازالت تدفع المنظمة في الضغط على الوسائل الأخرى التي لم تُحدث نسخها من التقرير بعد مثل "لوس أنجليس تايمز". كما دفعت المنظمة “أسوشييتد برس" إلى حذف المقال كاملًا ثم إعادة نشره محدثًا قبل أن يتم تحميله في أرشيف الإنترنت في نسخته الأصلية.
لماذا يعد أسلوب منظمة كاميرا منحازًا ومضللًّا؟
لم يكن مثال “أسوشييتد برس" سوى أحد أحدث الأمثلة على أسلوب قمعي تنتهجه المنظمة في الضغط على وسائل الإعلام باستخدام النفوذ السياسي والمالي. إذ تُركز "كاميرا" بشكل كبير على انتقاد أي تغطية إعلامية تعطي مساحة للروايات الفلسطينية أو تسلط الضوء على معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال.
ووجدت تقارير سابقة من بينها تقرير لمسبار أن هذه الجهود هدفت إلى ترسيخ صورة منحازة لإسرائيل لدى الجمهور، إذ يتم تصوير الروايات الفلسطينية على أنها غير موثوقة أو جدلية، والأهم ما في الأمر أن تعديل الأخبار يأتي ضمن مناخ "صامت" وتحت أسلوب يشبه أسلوب الأمر، وبدون أن تنشر وسائل الإعلام التي تعدل أخبارها توضيحات أنها قد عدلت تقاريرها، وهو ما يؤدي بدوره أيضًا إلى إعادة صياغة الأخبار بشكل يخدم المصالح السياسية لإسرائيل ولا يخضع للمساءلة من قبل الجمهور أو المراقبين.
وسائل الإعلام تغيّر محتوى أخبارها تحت الضغط
أشارت تحقيقات سابقة راجعها مسبار أن منظمة "كاميرا" تخيف وسائل الإعلام والمحررين بشكل واضح، إذ تعتمد على تكتيكات قد تعدّ تشهيرية، وغير مهنية إذا ما نفذت أوامرها، مثل تنظيم حملات كتابة عرائض جماعية، أو إرسال شكاوى مكثفة إلى وسائل الإعلام التي تنشر مقالات أو تقارير ناقدة لإسرائيل. هذه الحملات غالبًا ما تُمارس ضغطًا هائلًا على المؤسسات الإعلامية، مما يدفعها إلى مراجعة تغطيتها بدون إرادة حرة منها، أو حتى التراجع عن نشر بعض التقارير.
كما أفاد مراقبون أنه بمرور الوقت، أدى الضغط المستمر الذي مارسته "كاميرا" إلى فرض نوع من الرقابة الذاتية داخل وسائل الإعلام. ونتيجة شعور الصحفيين والمحررين بالخوف من انتقادات "كاميرا" أو الحملات التي تقودها، أصبحوا يميلون إلى تجنب التطرق لمواضيع حساسة أو تقديم روايات متنوعة.
كما أكدت تقارير أن "كاميرا" تهاجم الصحفيين والكتاب الذين يعبرون عن آراء معارضة لسياسات إسرائيل من خلال التشهير بهم واتهامهم بعدم المهنية أو بالتحيز. في بعض الحالات، يتم توجيه اتهامات خطيرة قد تؤثر على سمعة الصحفي أو فرص عمله، مما يدفع البعض إلى تجنب تناول المواضيع الحساسة لتجنب المواجهة.
أساليب "كاميرا" لا تؤدي إلى تقييد الصحافة الحرة فقط، بل تؤثر أيضًا على قدرة الجمهور على الوصول إلى تغطية متنوعة ومتوازنة حول القضايا المتعلقة بإسرائيل وفلسطين. عندما تُمارَس الضغوط لإسكات الأصوات المعارضة، يتم تهميش الروايات البديلة التي قد تسهم في تعزيز الفهم الشامل للنزاع، ويشير تقرير بعنوان "مستقبل الأخبار" صدر عن لجنة الاتصالات والرقمنة في المملكة المتحدة أن الصحافة عالية الجودة تعزز الديمقراطية والمساءلة ومحاسبة السلطة، ويؤدي الضغط عليها إلى تراجع هذه الأسس.
الأمر الذي يمكن ملاحظته بالنظر لتغيّر السياسة التحريرية لهيئة الإذاعة البريطانية BBC تدريجيًا في إطار تغطيتها للحرب على غزة، بعد نشر تقرير ضدها من قبل "كاميرا".
نوافذ مخصصة لإخضاع مختلف وسائل الإعلام للرقابة
تُخصص المنظمة نافذة على موقعها الإلكتروني لكل وسيلة إعلامية كبرى، مثل "رويترز" و"ذا نيويورك تايمز"، إذ تنشر تقارير دورية تُراجع فيها أدق تفاصيل محتوى مقالات هذه الوسائل. يشمل ذلك أسلوب ترتيب الأخبار، والمعاني الضمنية في النصوص والعناوين. وعند ملاحظة أي محتوى لا يتوافق مع معايير السردية التي تعتمدها، تنشر المنظمة تقارير نقدية تطالب من خلالها المؤسسات الإعلامية بتعديل محتواها.
في حال عدم امتثال تلك الوسائل لمطالبها، تتخذ المنظمة إجراءات عقابية تشمل الضغط لقطع التمويل عن المؤسسات المستهدفة، والضغط على المعلنين لإيقاف تعاملهم مع تلك الوسائل الإعلامية، بالإضافة إلى التأثير على حياة الصحفيين المهنية والشخصية.
تعمل المنظمة بأسلوب قد يوصف بأنه شبيه بـ"البلطجة"، إذ لا يقتصر هدفها على تصحيح الأخبار بما يتماشى مع السردية التي تدعمها، بل تسعى أيضًا إلى الترويج غير النزيه للسياسات الإسرائيلية، مستخدمة أساليب أقرب إلى حملات البروباغندا السياسية.
شكوك حول شفافية تمويل المنظمة وقمع الأصوات اليهودية المعارضة لإسرائيل
لا تكشف “كاميرا” عن تفاصيل دقيقة حول الجهات المانحة ومصادر تمويلها بشكل علني، مما يثير شكوكًا قوية حول شفافية تمويلها، وذلك كون “كاميرا” مسجلة كمنظمة غير ربحية بصفتها كيانًا مصنفًا تحت الكيانات المعفية من الضرائب والتي تعتمد على التبرعات من الأفراد والمؤسسات الداعمة ومصادر أخرى لا تكشف عنها لتمويل أنشطتها.
ولكن تُعتبر الشفافية في مصادر التمويل من المعايير الأساسية للمنظمات غير الربحية، فهي تعزز الثقة والصدقية لدى الجمهور والجهات المانحة. وكون هذه المنظمات تسجل عادةً ككيانات معفاة من الضرائب، من المهم أن تكشف عن مصادر تمويلها لضمان المساءلة.
رغم ذلك تضغط المنظمة نحو منظمات أخرى لتنفيذ طلبات لا تمتثل إليها، كتلك التي قادتها كاميرا ضد الجماعات المناهضة لسياسات إسرائيل في الولايات المتحدة، مثل منظمة “الصوت اليهودي من أجل السلام”. نظمت كاميرا حملات واسعة لإسكات صوت المنظمة في انتقاد السياسات الإسرائيلية، وتتبعت في أحد تقاريرها خيوط تمويل منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام" وضغطت لقطع هذه المصادر.
وتقوم كاميرا بانتظام بالتشهير بالمؤسسات الداعمة للجماعات اليهودية المناهضة لإسرائيل في الولايات المتحدة، وتنشر معلومات مشكوك بصحتها، تزعم أن الجماعات المستهدفة والمناهضة لإسرائيل، تملك أجندات خفية مثل الزعم أنها متحالفة مع مجموعات سياسية أخرى ذات توجه سياسي يساري معادٍ في جوهره لليهود.
أوامر منظمة كاميرا تهمش الصحافة الحرة وتعزز التضليل
أشار تقرير "مستقبل الأخبار" أن هنالك تحديات واسعة أمام قطاع الأخبار والإعلام الرقمي خلال السنوات المقبلة، وأن هنالك جهات عديدة تحاول ضرب استقلالية هذه الوسائل في مقابل تصاعد للمعلومات المضللة.
قطاع الأخبار يعاني بشكل مطرد من انخفاض في الثقة وزيادة في تجنب المتابعة إضافة لانخفاض حاد في الإيرادات الأساسية للإعلام الأكثر موثوقية، وقد تؤدي زيادة محاولات إسكات الصحافة خاصة الاستقصائية، من هذه التحديات، ولذا فإن تعديل الأخبار بما يتماشى مع طلبات مؤسسات الضغط يؤدي إلى مزيد من تراجع الثقة في وسائل الإعلام، وتراجع دورها، بعد أن عرفت لوقت طويل بأنها تلتزم المعايير المهنية، وتستطيع التغيير الإيجابي.
من ناحية أخرى يؤدي تهميش الصوت الحر والمتنوع للصحافة إلى تزايد انتشار المعلومات المضللة، كونه يدفع الجمهور لمتابعة المزيد من القنوات غير الموثوقة على منصات التواصل الاجتماعي للحصول على الأخبار. إذ أشار تقرير لجنة الاتصالات والرقمنة بشكل واضح لخطر محدق وصورة قاتمة لمستقبل وسائل الإعلام المهنية، فالمنصات الرقمية أصبحت تسيطر بشكل متزايد على مصادر الأخبار، مما يحد من تعددية وسائل الإعلام.
يذكر أن مسبار رصد على مدى أكثر من عام من الحرب على غزة تصاعدًا ملحوظًا لنشاط منظمات ضغط إسرائيلية في توجيه وسائل الإعلام، وكشف عن تحيّز في تقاريرها التي احتوت على معلومات مضللة واتهامات بلا أدلة، وقادت حملات عديدة لصالح إسرائيل مثل منظمة "يو إن ووتش" ومنظمة "أونست ريبورتنج" و رابطة مكافحة التشهير.
بمعزل عن المناخ القمعي الذي تخلقه هذه المنظمات، والدفع نحو تعزيز تغطية غير متوازنة للأحداث في غزة، قد يسهم عمل هذه الجهات في تقويض دور المؤسسات الإعلامية المستقلة، مما يؤدي إلى تسميم وتصدع مهنية المؤسسات الإعلامية.
هذا الخطر يشير إليه بوضوح تقرير "مستقبل الأخبار" الذي وجد أن "هناك احتمالًا واقعيًا بأن تتعرض البيئة الإخبارية لتصدعات لا يمكن إصلاحها خلال السنوات الخمس إلى العشر المقبلة. وستكون لهذه التغيرات آثار خطيرة على الديمقراطية وحرية التعبير، في ظل تصاعد موجات المعلومات المضللة.
اقرأ/ي أيضًا
بعد عام من الحرب: جهود متواصلة من منظمات ضغط لتوجيه وسائل الإعلام لصالح إسرائيل
كيف رسمت منظمة ضغط إسرائيلية السياسة التحريرية لعشرات وسائل الإعلام الغربية؟