في علاقة الامتثال الاجتماعي والتفاعل مع الأخبار الزائفة

لماذا يلجأ بعض الناس لتغيير آرائهم الشخصية وأفكارهم؟ ولماذا يميل الأشخاص إلى تبني معتقدات الغير والتفاعل معها لتتوافق مع السائد والمنتشر؟ هل يوجد فعليًّا مفهوم الضغط الاجتماعي الفكري، الذي يجبر الأفراد على الانخراط والخضوع إلى مشاعر جمعية موحدة، كردة فعل مضادة على السطوة المجتمعية الشاملة؟

أجمع كثير من علماء النفس أمثال إسنك و وسولومون آش وغيرهم، على تعريف الامتثال، بأنه التبنّي لأفكار وسلوكيات نفس الجماعة ضمن معايير اجتماعية معينة تحدد سلوك الأفراد وتوجه تفاعلاتهم مع الآخرين، لأسباب عدة، منها، السطوة الاجتماعية المباشرة وغير المباشرة، نتيجة خوفهم من الرفض المجتمعي، حال خروجهم عن المجموعة، ورفضهم الامتثال لها بأي شكل من الأشكال.

يبقى السؤال الأقوى تمركزًا، هو كيف يمتثل الأفراد لاعتقادات الآخرين وكل ما يمكن أن يشاركوه ولو كان مضللًا مع درايتهم في بعض الأوقات بأن ما تتبناه هذه المجموعات قد يكون غير دقيق تمامًا، ومع ذلك ينساقون لتغيير آرائهم لتتوافق مع رأي الأغلبية ومعتقداتهم.

قام الطبيب النفسي والرائد في علم النفس الاجتماعي سولومون آش، عام 1951 بتجربة توضح التأثير الاجتماعي على الفرد، التي سميت لاحقًا بتجربة "عقل القطيع"  وتعرف بتجربة الامتثال الأولية.

رسم آش ثلاثة خطوط بأطوال مختلفة وخط رابع مواز لهم، واتفق مع  سبعة أشخاص من أصل ثمانية مشاركين في التجربة، على اختيار أقصر خط. 

وطبق التجربة على فرد واحد دون معرفته أنهم ممثلون في التجربة، فاختار الخط المماثل بنوع من الحرج في مخالفتهم، لم تبدِ المجموعة أي اهتمام لاختياره، وبعد عدة دقائق غيّر رأيه وانصاع لاختيار الأغلبية، مُشكّكا في اختياره الأول.

وبهذا الاستنتاج خلص آش إلى أن الأفراد بطبيعتهم يميلون للتماشي تلقائيًّا مع الجماعة، لأن ذلك بطبيعة الحال يزيد من كيمياء التوافق بينهم، حتى لو عارضتهم حواسهم وحساسيتهم النقدية.

لماذا يمتثل الناس للجماعات الأخرى في كل مايفعلونه ويتناقلونه دون مقاومة حقيقية منهم وإعطاء مساحة كافية للتفكير النقدي؟

قام عالما النفس دوتيش وجيرارد بتحليل نظرية الامتثال الاجتماعي وإرجاعها لعدة أسباب أهمها ما يسمى بظاهرة التأثير المعلوماتي، التي تحدث عندما تكون الخلفية المعلوماتية لدى الشخص محدودة وغير كافية ويبدو متشككًا من صحتها، فيتطلع إلى المجموعة كمصدر موثوق به، لتأكيد معلوماته وإضافة المعلومة الناقصة.

أما عالم النفس الاجتماعي غوستاف لوبون فكان له زاوية أخرى في امتثال الجماعات، حيث أوضح في كتابه "سيكولوجية الجماهير" الصادر عام 1895، السبب الرئيس الذي يحرك الأفراد أثناء وجودهم مع الجماعة، مشيرًا إلى أن قيم الإنسان منفردًا، تختلف عن قيم نفس الفرد منخرطًا في المجموعة، إذ إنه لا يكون مضطرًا لبذل مزيد من الجهد في التفكير والتحليل المنطقي لما يتلقاه عند اندماجه مع مجموعات أكبر.

تخضع الجماعات أو الجماهير، وفق لوبون، لما يسمى بالمشاعر الجمعية والمجموع العاطفي، الذي يؤثر في أفعالها أكثر بكثير مما يفعله العقل. 

وعليه حدد لوبون الخصائص الأساسية للجماهير بوصفها منساقة من قبل اللاوعي الجمعي الخلفيّ الذي يوقعها عبيدة للتحريضات ويجعل استجابتها سريعة لشتى أنواع العواطف، مما يجعل منها فريسة وأداة تحكم لسلطات الإعلام المنحاز والصحافة الصفراء التي تبث سموم أخبارها المضللة في عقولهم، وهذا مايفسر ميل الجماهير لتصديق الأخبار غير المنطقية والزائفة.

ما علاقة  الأخبار الزائفة بامتثال الجماهير وتوجيه مشاعرهم الجمعية؟

استعرض الباحثان الدنماركيان، فينيست هندريكس وبيلي هينيس، سيناريو امتثال الناس للجماعات ووقوعهم في فخ "عاصفة المعلومات" كما أسموها في بحثهما المشترك.

تصور السيناريو وجود فرد في مسرح يعجّ بالأشخاص وفي لحظة ما، يشرع الجميع بالفرار تجاه المخرج، وتساءلوا عما يمكن أن يفعله في تلك اللحظة وهل سيتحرك بشكل محموم كما يفعل الآخرون، وافترضوا أنه سيندفع مسرعًا نحو بوابة الخروج، معتقدًا في قرارة نفسه أن الفرار أمر حتمي وربما تسيطر عليه نفس مشاعر الفزع الجمعية كونه يهرب ضمن الجماعة.

السيناريو المذكور يعطي نبذة مبسطة كأحد التفسيرات المحتملة عند مواجهة الأشخاص لوابل من المعلومات وكم من الأخبار الزائفة على الإنترنت، وامتثالهم لما يسمى بـ "المعلومة الاجتماعية".

هذا الانتشار الهائل للمعلومات التي تحتوي على قدر كبير من التضليل، أدخل عنصرًا جديدًا على المعادلة النفسية وهو الاعتماد الكلي على المعلومة الاجتماعية المتوفرة في الشبكات الرقمي، حسبما أشار الباحثان الدنماركيان في كتابهما "عواصف المعلومات". وعزا الباحثان ذلك إلى الكسل المعرفي لدى الأشخاص المتشككين في صحة تلك المعلومات، فمن الأسهل عليهم التعرف عليها من خلال ما يشيعه الآخرون.

الجدير بالذكر أن محركات بحث غوغل مصممة للتعاطي مع هذا التدفق الهائل للمعلومات، من خلال جعل تصرفات المستخدمين أنفسهم وتوجهاتهم حيال المواقع الإلكترونية مصدرًا لتقييم المعلومة. 

وعليه، فكلما زاد تدفق المعلومات أصبح من الصعب مواجهتها، كما أنّ معالجتها تتطلب سرعة أكبر وجهدًا في البحث والتحليل، وهذه رفاهية لا تتمتع بها العقول الجمعية.

من ناحية أخرى، تميل الجماعات إلى تصديق الأخبار الزائفة، لأنها عادة ماتكون ذات بعد عاطفيّ، وهذا مايجعلها أكثر جاذبية للفت انتباه الجمهور وهو ما نفتقده في الأخبار الحقيقية التي تشترط غلبة قوة المعرفة على قوة العاطفة.

 ويقول أرسطو في هذا الصدد: "لكي يكون الإقناع مؤثرًا، يجب توافر ثلاث عناصر: الثقة، المنطق والعاطفة". 

ويخلص القول إلى أنّ استخدام العاطفة للتاثير على تشكيل آراء الناس وتوجهاتهم هو واحد من أهم الوسائل التي يعتمدها الإعلام في أوقات كثيرة، من أجل تزييف الوعي وخداع الجماهير بإثارة القضايا بشكل منحازٍ وغير موضوعي، مخاطبين بذلك العواطف والمشاعر الجمعية من أجل تحييد الناس عن قضاياهم المهمة وصناعة رأي عام -العقل العام- يخدم أجنداتهم ومصالحهم السياسية والاقتصادية وغيرها.

وهذا ما نراه في سياقات المجتمعات المتدينة إلى حد ما، حيث انتشار الأخبار الزائفة المتعلّقة بالمعتقدات الدينية والتي تدفع بالأشخاص إلى التفاعل مع الأخبار االمتوافقة مع معتقداتهم وموروثاتهم الدينية ومشاعرهم العامة الموحدة تجاه قضية أو حدث ما. وبهذا يتحقق هدف صانعي الأخبار المزيفة، في الترويج للمعلومات التي تشوه الوعي الجمعي والرأي العام.

المصادر

شبكة بي بي سي

ASCH S. E. (1952). Group forces in the modification and distortion of judgments.

Introduction to Psychology – ASCH Conformity

ش ، س. (1951). آثار ضغط المجموعة على تعديل وتشويه الأحكام. في غوتسكو (محرر) ، والمجموعات والقيادة والرجال. بيتسبرج ، بنسلفانيا: مطبعة كارنيجي

ايسنك ، م. و. (2004). علم النفس: منظور دولي. نيويورك: مطبعة علم النفس.

  كتاب سيكولوجية الجماهير -  غوستاف لوبون