ثمة حروب اجتاحت العالم بدوافع قد تبدو منطقية ولكنها ليست كذلك، انقلابات متتالية أحدثت تغييرات جذرية في أنظمة اقتصادية عالمية تبدلت كليًّا، والأهم من ذلك، فإن أدمغةً بشريةً قد تم غسلها ومعتقدات وأفكار شعبوية قد تم تضليلها بالكامل لنجد أنفسنا أمام أسئلة مشروعة لتشريح ما حدث وما يمكن أن يحدث وراء الكواليس وكيف آلت ما آلت إليه كل هذه المشاهد والأحداث، وهل هنالك حقا ما يسمى بغسل الدماغ؟
بالعودة إلى عام 1950، اجتاحت القوات العسكرية لكوريا الشمالية الجارة كوريا الجنوبية بهدف توحيد الكوريتين، مما تسبب في إشعال حرب بينهما، الأمر الذي أدى إلى اصطفاف الولايات المتحدة الأميركية وتركيا وبريطانيا الى جانب كوريا الجنوبية، ومن جهة أخرى اصطف كل من الاتحاد السوفيتي والصين إلى جانب كوريا الشمالية.
عند انتهاء الحرب، لاحظ الصحفي الأميركي إدوارد هانتر أن الجنود الأميركين العائدين من الأسر قد تحولوا إلى شيوعيين، وعلى الرغم من تعرضهم للتعذيب إلا أنهم قد أنكروا الأمر تمامًا، ما كان بمثابة صدمة للساسة الأميركيين، ودفع هانتر مستعينًا بوكالة المخابرات المركزية الأميركية سي آي إيه لدراسة الأسباب التي أدت إلى حالة الإنكار هذه، وتوصلوا بعد وقت، إلى نتيجة مفادها أن الحادثة لم تكن إلا عملية غسل لدماغ الجنود، كما سمّاها الصحفي هانتر لاحقًا.
فكيف تحدث عملية غسل الدماغ وما هي سايكولوجيتها، وهل حقًا تساهم في تبديل الأفكار والمعتقدات وربما تضليلها أحيانًا؟
في خمسينيات القرن العشرين، أراد الطبيب النفسي دونالد كاميرون أن يعثر على طريقة يستطيع من خلالها غسل دماغ الإنسان، مغيّرًا كل أفكاره ومعتقداته إلى أن تصبح ورقة بيضاء تمامًا، من خلال محو ذكريات ماضيه، وإلغاء إدراكه بالحاضر لصناعة إنسان جديد، بأفكار وقناعات ومشاعر جديدة. استطاع كاميرون بتمويل من الاستخبارات الأميركية لمشروع أم كي ألترا، أن يعزل مرضاه في غرف لا يصلها الضوء ويعرضهم لصعقات كهربائية شديدة؛ حتى تتعطل حواسهم وتفقد صلتها بالواقع، بالإضافة إلى إعطائهم عقاقير مهلوسة من أجل إفقادهم ذاكرتهم، مع العلم أن تجاربه لم تكن تستند إلى أي مرجع أخلاقي.
قامت الاستخبارات الأميركية آنذاك بتطوير أبحاث كاميرون؛ ليتم استخدامها وتطبيقها في سجون غوانتانامو وأبو غريب من أجل الحصول على اعترافات من المساجين، الأمر الذي دفع السجناء للتخلي عن أفكارهم الثورية ومعتقداتهم السابقة واستبدالها بأفكار جديدة من خلال تعريضهم للصدمة جراء التعذيب وحرمانهم الشعور بحواسهم، بهذا توصل كاميرون إلى مفهوم غسل الدماغ الذي يتشكّل عبر تعريض الأشخاص للصدمة المباشرة التي تلغي فيها مشاعرهم بل تمحوها تمامًا، جاعلة منهم ورقة بيضاء، يمكن لأي سياسي أو محقق أو سجّان خطّ ما يحلو له عليها.
أكدت ناعومي كلاين الكاتبة الكندية، في كتابها عقيدة الصدمة بأن الصدمة تحدث عند تغييب الأفراد والشعوب للوعي وفقدانهم للإدراك والفهم الكامل للأحدث والواقع الذي يدور حولهم. حيث يتم صدمهم بكارثة سياسية، اقتصادية، اجتماعية أو طبيعية، فلا يكون أي سبيل أمامهم للخروج من الأزمات والكوارث سوى بقبول حلول من سلطات متنفذة أعلى منهم، لضمان قبولهم باستراتيجيات وحلول كان من المستحيل القبول بها سابقًا، وهذا من غير الممكن حدوثه -في الوضع الطبيعي- إلا إذا كان الشخص في حالة خوف شديد أو عدوان وترهيب، حتى لا يعد يملك في نهاية الأمر أي نوع من أنواع المقاومة، مُضلّلًا وعيه الجمعي من دون القدرة على الاستناد إلى مرجع نقدي يمليه عليه عقله على الأقل.
ألهمت تجارب كاميرون رجل الاقتصاد الأميركي ميلتون فريدمان من أجل تشكيل اقتصاد عالمي جديد يتم تطبيقه هذه المرة على شعوب بأكملها. كانت سياسته تقوم على تحكّم الشركات عابرة القارات باقتصاد الشعوب، وخفض الإنفاق الاجتماعي، وتحرير التجارة وتحويل الأسواق الى أسواق حرة من خلال عودة
الرأسمالية المنفلتة. وتباعًا على الشعب أن يخضع لصدمة او عدة صدمات متتالية حتى يرضخ للقبول بسياسة الواقع الجديد.
في هذا السياق، سلطت الكاتبة الكندية الضوء على مفهوم رأسمالية الكوارث الذي يقوم على استغلال الازمات المفتعلة والطبيعية منها للسيطرة على عقول الشعوب وتضليل أفكارها في كثير من الأحيان بحيث يسهل تمرير أي مخطط من الجهات المعنية لصالحهم الخاص، بل وبموافقة كاملة من الشعب بعد أن تتم صدمته.
ولتوضيح أكثر لآلية الصدمة، نستعرض واحدًا من أهم الأمثلة في التاريخ:
الساحة التشيلية كانت أولى تجارب فريدمان في عام 1970 لتطبيق عقيدة الصدمة، حيث مُثلت انتخابات رئاسية جديدة لمرشح قوي لم ترضَ عنه الولايات المتحدة في ذاك الوقت، لامتلاكه أجندة اقتصادية تخالف أجندتها الرأسمالية وسياسات صندوق النقد الدولي.
آنذاك، حاول الرئيس الأميركي ريتشارد وينكسون بمساعدة الاستخبارات الأميركية بمنع سلفادور آلندي من الفوز ولكن محاولاته باءت بالفشل، ومن أجل إحالة آلندي كان لابد من تطبيق عقيدة الصدمة لإعادة اقتصاد تشيلي الى النظام الرأسمالي الأم فما كان من الاستخبارات الأميركية إلا أن تدبر انقلابًا عسكريًا بقيادة بونوشيه، إذ قام صبيان شيكاغو - تلامذة فريدمان- بتدبير خطة اقتصادية محكمة وصادمة لتغيير الساحة التشيلية إلى الأبد خلال ثلاث سنوات فقط.
اعتقل بونوشيه مايقارب 100 الف شخص ونشر قواته العسكرية في أرجاء البلاد، مسيطرًا بذلك على عقول الناس بالخوف والترهيب وشل حواسهم وفهمهم لما يحدث، ومستغلًا ارتباكهم ليفرض سياسات اقتصادية تخدم جوهر الرأسمالية المنفلتة من خصخصة الشركات الحكومية، وإزالة الرقابة عن الأسعار وتحويل الأسواق الى أسواق حرة، وتخفيض الإنفاق الاجتماعي وتسريح أكبر قدر ممكن من الموظفين الحكوميين. هذه الممارسات أدت إلى نتائج كارثية مثل زيادة التضخم بنسبة 350٪ واضطرار العائلات متوسطة الدخل على إنفاق مايزيد عن 73٪ على الخبز فقط، بالإضافة الى تناقص الإنتاج المحلي وزيادة الأوبئة والأمراض. هذا بدوره أدى الى تحسين الفرصة المناسبة لإقراض بونوشيه خمسة أضعاف قروضه الأصلية خلال عامين فقط، وتمرير وتطبيق كل السياسات الجديدة التى تخدم الرأسمالية المنفلتة دون أدنى مقاومة من الشعب وسط كل الكوارث التي حلت بتشيلي حينها.
المصادر