الأفكار الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “مسبار".
نشرت “بي بي سي”، مقالًا يُفيد بأنّ شركتي غوغل وميتا تواجهان خطر تغريمهما بملايين الدولارات، عقب الصراع الحاصل بينهما من جهة وبين الحكومة الروسيّة من جهة ثانية، التي تُعدّ جانبًا من المحتوى المنشور على منصات التواصل الاجتماعي غير قانونيّ، ويُهدّد أمن الدولة واستقرار البلاد.
وبحسب مقال “بي بي سي" فإنّ غالبية المنشورات المعروضة على صفحات التواصل الاجتماعي الروسية، تحمل محتوىً معارضًا للحكومة، ومؤيّدًا للاحتجاجات وللناشط السياسي المعارض أليكسي نافالني.
ومن الجدير بالذكر أنّ شركة ميتا لم تمتثل لمطالب الحكومة الروسية، بحذف المنشورات التي تعدّها الأخيرة تهديدًا لها، على الرغم من الدعاوى القضائية التي وصل عددها إلى ستين خلال العام الأخير.
يأتي هذا المثال الصّارخ، ليسلط الضوء على الصراع القائم بين شركات الإعلام الاجتماعي والرقمي من جهة، وبين الحكومات من جهة أخرى، وما يترتّب عن هذا الصراع من تساؤلات حول قضية احترام حرية الرأي والتعبير.
وبديهيٌّ إذًا أن نسأل، هل يمكن أن تصبح الدولة الراعية للأمان، مصدرًا لنشر الجهل واحتكار الحقيقة؟ وما هي الآلية المتّبعة للسيطرة على الوسائل الإعلامية والتي من بينها الإعلام الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي، وهل يمكن أن تصبح الدولة راعية للبروباغندا؟
وسائل الإعلام في شؤون السّياسة المعاصرة
في الفصل الأول من كتابه: السيطرة على الإعلام، يعرّف المفكر والفيسلوف الأميركي نعوم تشومسكي المجتمع الديمقراطي، بأنّه المجتمع الذي يملك فيه العامّة (الجمهور) الوسائل اللازمة للمشاركة الفعّالة في إدارة شؤونهم، لكنّه يبيّن لنا المفهوم الآخر السائد والحاكم للديمقراطية، عندما يكون الناس والوسائل الإعلامية تحت السيطرة المشدّدة.
ويشير إلى الدور الذي لعبته الدعاية، والوسائل الإعلامية في تجربة الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، الذي عنون برنامجه الانتخابي وقتئذ بـ "سلام دون نصر"، وكان ذلك في منتصف الحرب العالمية الثانية.
وكيف صنع بعد ذلك، بمعيّة بعض وسائل الإعلام، لجنة دعائية تابعة للحكومة أطلق عليها لجنة كريل، تُعبّر عن إرادة جماعية وتأييدٍ كبيرٍ للحرب بعد أن كان المواطنون مسالمين لأقصى الدرجات.
ويقول تشومسكي بهذا الخصوص "اللجنة خلال ستة أشهر نجحت في تحويل المواطنين المسالمين إلى مواطنين تتملكهم الهستيريا والتعطش للحرب والرغبة في تدمير كل ما هو ألمانيّ، وخوض الحرب، وإنقاذ العالم".
وقد خصّص تشومسكي الفصل الثاني المعنون بـ“ديمقراطية المشاهد”، للحديث عن تصنيع الإجماع، أي جعل الرأي العام يوافق على أمور لا يرغبها بالأساس عن طريق استخدام وسائل دعائية، وتطرّق تشومسكي إلى رأي فالتر ليبمان، عميد الصحفيين الأميركيين، وأحد أهم محللي السياسة الأميركية، والذي رأى أنَّ هذه الفكرة جميلة بل وضرورية وكفيلة تمامًا بخداع الرأي العام، وأنَّه لا بدّ من وجود النخبة، لإدارة سياسات الدولة وإعداد التقارير والوسائل المناسبة لتحقيق مآربها، ومن ثم إقناع الشعب بكلّ مستجد عبر الوسائل الإعلامية.
ويرى ليبمان أيضًا أنَّ لا بدّ من تقسيم الجمهور إلى قسمين، النخبة والتي تمثل نسبة قليلة وتتمتع بثقافة عالية، وغالبية الشعب الذي يصفهم بالـ"القطيع الضال". ويصبح لهذا القطيع دور واحد فقط وهو المشاهدة، فهم ليسوا مشاركين بالفعل.
يقول تشومسكي "يبدو أنَّ هناك منطقًا ما يحكم الأمور، بل قد يكون هناك مبدأ أخلاقي قوي في النظرية التي ترى أنَّ عامة الناس على درجة من الغباء لا تمكّنهم من فهم الأشياء، وإذا ما حاولوا المشاركة في إدارة أمورهم فهم يتسببون في خلق مشاكل، ولذا قد يبدو أنَّ الأمر لا أخلاقيًا إذا ما سمحنا لهم بفعل ذلك -بحسب منطقهم- لا بدّ وأن نروّض هذا القطيع الحائر وألّا نسمح له بالغضب وتحطيم كل شيء".
ويُضيف في معرض كتابه أنَّ النظرية التي تقول بأنَّ غالبية العامة منساقون لعواطفهم وأنَّ المنطق يمتلكه عدد قليل من الناس، أصبحت جزءًا أساسيًا من العلوم السياسية المعاصرة، وقد تبنّاها رينهولد نايبهور، عميد المفكرين السياسيين الذي دعم السلطات الأميركية لسنوات طويلة.
فقد رأى نايبهور أنَّ النظم الديمقراطية شبيهة بالنظم الشمولية في سيطرتها على الرأي العام، أمّا الاختلاف فيكون في الوسائل التي تستخدمها. وكما نعلم، فإنَّ الأنظمة الديمقراطية تستخدم غسل العقول، والوسائل الإعلامية لتمرير سياساتها. أما الدول الشمولية فتستخدم العنف والقوة، لكن في النهاية، تبقى النتيجة واحدة: تضليل الشعوب.
في فصول أخرى متلاحقة، يُشير المؤلف إلى كيفية إدارة الرأي العام وترويضه، إذ يقول في مجمل كلامه "من المهم تحفيز الرأي العام، لتأييد مغامرات السياسة الخارجية، وعادة ما يكون الناس مسالمين، مثلما كانوا في الحرب العالمية الأولى، ذلك أنَّ عامة الجمهور، لا يجدون سببًا للتورط في مغامرات خارجية أو عمليات قتل وتعذيب ولذا لا بدّ من تحفيزهم". ويُكمل "لفعل ذلك لا بد من إثارة مخاوفهم".
ويتطرق تشومسكي إلى مثال بيرنايز، المسؤول عن إدارة حملة العلاقات العامّة لشركة يونايتد فروت في عام 1945، الذي سوّق بطريقة لافتة لسياسة الولايات المتحدة وبرنامجها المحلي في إطاحة الحكومة الليبرالية الديمقراطية لغواتيمالا، ونجحت الدعاية في ذلك.
وإلى جانب الدعاية، التي يولي تشومسكي أهمية كبرى لها، هناك سياسة تزييف الحقائق، وتزييف التاريخ. ويقول في هذا السياق “هي وسيلة أخرى، للتغلب على المخاوف المرضية؛ ليبدو الأمر وكأننا حينما نهاجم وندمر الآخرين فنحنُ نفعل ذلك لحماية أنفسنا والدفاع عنها ضد المعتدين والمتوحشين. وقد كان هناك مجهود هائل منذ حرب فيتنام لإعادة بناء تاريخ الحرب”.
يهدف نعوم تشومسكي في الفصل السادس إلى التحدث عن " تشتيت القطيع"، عبر صناعة عدو للولايات المتحدة، من قبيل العدو الروسي، فالحرب الكورية وصولًا إلى صدام حسين في العراق، ويؤكد المؤلف الأميركي بأنَّه في السنتين اللتين أتى فيهما جورج بوش إلى الحكم، كان ثمة ثلاثة ملايين طفل هبطوا تحت خط الفقر، في حين أنَّ الدَّيْن ازداد، والمستويات التعليمية كانت في حالة يرثى لها، والأجور تدنت إلى المستوى الذي كانت عليه في أواخر الخمسينيات لمعظم السكان، وفي مثل هذه الظروف عملت الإدارة الأميركية على تشتيت القطيع الضال، وحولت الأزمة الداخلية، إلى أزمة خارجية تتمثل في الخوف من تهديدات العدو.
في النّهاية، يمكن القول بأنَّ كتاب السيطرة على الإعلام، لا يمكن تلافيه، نظرًا لأهميته، في تمكين القارئ من معرفة كيف تتم صناعة الدعايات، وتسيير الجماعات والمواطنين عبر الوسائل الإعلامية الموجهة.
المصادر :